جورج فريدمان
تصدير المادة
المشاهدات : 5865
شـــــارك المادة
لقد بدأت مرحلة "نهاية الصراع في سورية" وهذا لا يعني أبدا أننا وصلنا إلى النهاية، لكن أسباب سقوط نظام الرئيس بشار الأسد قد تحققت. وكنا قد بحثنا بأنه ما دام الجهازان العسكري والأمني متماسكان وفاعلان، فسيبقى النظام. ومع أنهما ما زالا يعملان، إلا أنه لا يبدو أن أحدا منهما متماسك. بل يشك المرء في قدرتهما على السيطرة على المناطق الرئيسة مثل دمشق وحلب. كما أنه لم يعد من المؤكد ولاء أفراد هذين الجهازين وإمكانية الاعتماد عليهم، بعد الانشقاقات التي تمت. كنا نظن أن أمام نظام الأسد فرصة قوية للبقاء، لكن - الوضع تغير تماما. وفي مرحلة معينة في مقال الرأي الذي كتبناه بعد انشقاق الطيار السوري في 12حزيران/ يونيو، ثم انشقاق عائلة طلاس ذكرنا أن شخصيات هامة في النظام قد بدأت تعيد حساباتها في احتمال بقائها وفي مصالحها.
لم ينحل النظام بعد، لكنه بدأ ينحل. يعتبر التخمين في مكان تواجد الأسد، والمعارك العنيفة التي تجري في دمشق، جزء بسيطا من مشاكل النظام. فالإشاعات، سواء كانت صادقة أم كاذبة، تخلق شعورا بعدم التأكد من أن النظام سيصمد الآن، ولا يمكن تبيُّن النتيجة.
فمن جهة، يمكن أن ينشأ نظام جديد يسيطر على الوضع. ومن جهة أخرى، قد ينهار الوضع في سورية ليتكرر ما حدث في لبنان، الذي انقسم إلى مناطق تسيطر عليها طوائف متنوعة، وليس فيه حكومة مركزية فاعلة.
الاستراتيجية الروسية والصينية بشكل ما، الصورة الجغرافية السياسية أوضح من الصورة السياسية الداخلية. مهما حدث، فمن غير المرجح أن يستطيع الأسد العودة إلى حكم لا ينافسه فيه أحد. فقد عارضت نظامه كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ودول أوربية أخرى. أما روسيا، والصين، وإيران، فدعمته لأسباب تختلف عند كل منها. فقد عارض الروس دعوات الغرب للتدخل، والتي كانت على أساس الاهتمام بحقوق الإنسان. وذلك لخشيتهم بأن يكون هذا التدخل المقترح ذريعة لمد سيطرة الغرب، وأن يستخدم ذلك ضدهم. ودعم الصينيون أيضا السوريين، لعدة أسباب، منها أسباب الروس ذاتها. حيث تأمل موسكو وبكين في تجنب إعطاء الشرعية للضغط الغربي بناء على اعتبارات حقوق الإنسان الأمر الذي عانت منه كلاهما بشكل أو بآخر. إضافة إلى ذلك، ترغب الدولتان في انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص بالشرق الأوسط عنهما. ولم تكونا لتمانعان تدخلا عسكريا تغرق في حمأته أمريكا، لكن الأخيرة رفضت أن تحقق ما ترغبان به. ومع هذا، كانت اللعبة الروسية الصينية أذكى من ذلك، فقد تركزت على إيران. كنا بحثنا أنه لو بقي نظام الأسد، وكان معزولا من الغرب، فسيعتمد بشكل أساسي على إيران، داعمته الرئيسة. وقد قامت إيران بمد النظام بالمدربين، وقوات المهام الخاصة، والإمدادات، والمال لتساعده على البقاء. فالأحداث في سورية، تمثل بالنسبة لإيران، فرصة كبيرة. فوضعها في العراق قوي نعم، لا تسيطر عليه تماما، لكن لها تأثير قوي فيه. فإن استطاع نظام الأسد البقاء، وكان ممتنا لكون ذلك بسبب دعم الإيرانيين، فستصبح سورية أكثر من العراق اعتمادا على إيران. مما سيقوي بدوره الوجود الإيراني في العراق.
لكن الأهم أنه سينشئ منطقة النفوذ الإيرانية الممتدة من غرب أفغانستان إلى لبنان، حيث يوجد حزب الله أحد حلفاء إيران. يدرك الروس والصينيون تماما أنه لو تم ذلك فستعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تقويض منطقة النفوذ الإيرانية وستكرس الكثير من مواردها لأجل ذلك. وقد استفادت روسيا والصين كثيرا من العالم بعد حادثة 22 أيلول/سبتمبر، عندما استحوذ العالم الإسلامي على اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تهتم إلا قليلا بالصين وروسيا، أو لم تخصص إمكانيات كثيرة لهما. وبقرب انتهاء الحرب الأفغانية، يبدو أن فترة الراحة التي عاشتها روسيا والصين ستنتهي. وقد كانت استراتيجيتهما في الموافقة على سيطرة إيران على المنطقة، والتي كانت ستشغل بالتأكيد الولايات المتحدة الأمريكية. كانت استراتيجية مفيدة جدا، بتكلفة بسيطة. فقد قام الصينيون بتوفير الغطاء السياسي، حتى لا يعمل الروس لوحدهم دبلوماسيا. لم يقدموا أي دعم للصراع السوري، لكنهم استمروا في معارضة العقوبات على إيران، بل وفروا لها فرصا تجارية. أما الروس فقد كانوا ملتزمين أكثر بتقديم الدعم المادي والسياسي لنظام الأسد. يبدو أن الروس قد بدأوا منذ فترة بالحساب لنهاية النظام. فقد استمروا بإمداد سورية بالذخيرة والإمدادات الأخرى، لكنهم امتنعوا عن توريد الطائرات المروحية. "فشلت" عدة محاولات لتوريدها عندما سحبت شركات التأمين البريطانية الغطاء عنها. هذا الذي أعلنه الروس سببا لعدم التسليم، لكنه من الواضح أنهم، لو شاؤوا، لقاموا هم بالتأمين، لكنهم بدأوا بالتراجع عن دعم الأسد. فقد أشارت استخباراتهم إلى وجود مشاكل في دمشق. وخلال الأيام القليلة الماضية، وصل الروس إلى مرحلة اقترح فيها سفيرهم لدى فرنسا بأنه قد آن أوان رحيل الأسد ثم، طبعا ، عاد فنفى هذا التصريح.
صفعة استراتيجية لإيران بسحب الروس لدعمهم، أصبحت إيران مكشوفة تماما. كان الشعور السائد، خاصة في الجزيرة العربية، أن إيران ستبرز في المنطقة. ويعتبر انهيار نظام الأسد ضربة استراتيجية لإيران، وذلك من ناحيتين. الأولى: من المؤكد أنه لن تتحقق الآن منطقة النفوذ الواسعة التي كانوا يشكلونها. والثانية: أن إيران ستنتقل بسرعة من قوة مسيطرة، إلى قوة دفاعية. أما العراق فسيكون الموقع الذي تتجلى فيه الأمور. فبالنسبة لإيران، يمثل العراق أهمية كبيرة للأمن القومي. فبعد حربهم الدموية مع العراق في الثمانينيات من القرن الماضي، من مصلحة الإيرانيين أن يضمنوا بقاء العراق حياديا، على الأقل، ويفضل أن يكون مواليا لهم. عندما كان نجم إيران في صعود، شعر السياسيون العراقيون أنه يجب عليهم التأقلم معها. أما بتغير الحال، فكما على القادة العسكريين السوريين إعادة حساباتهم وتحديد مواقفهم، كذلك الأمر بالنسبة للسياسيين العراقيين. وبفرض العقوبات على إيران بغض النظر عن مدى تأثيرها عليها وبفقد سيطرة إيران على سورية، من المؤكد أن الشعور سيتغير في العراق. وهذا ما سيحدث، خاصة مع زيادة المصالح التركية في العراق. فقد أعلن الأتراك خلال الأيام الماضية عن خطط لمد أنابيب إلى حقول النفط في الجنوب وفي الشمال. فالنشاط الاقتصادي التركي يزداد قوة، وتركيا هي القوة الإقليمية الوحيدة التي يمكن أن تقف في وجه إيران عسكريا. وهي تستخدم هذه القوة ضد الأكراد في العراق. لكن ما يهمنا في موضوعنا، هو أن أية دولة تنشئ خط أنابيب، عليها أن تضمن وصولها إليه، إما سياسيا أو عسكريا. وتركيا لا تريد أن تتورط عسكريا في العراق، لكنها بالتأكيد تريد النفوذ السياسي الذي يضمن مصالحها. فمجرد تقهقر الإيرانيين فيه مصلحة للأتراك، لملء الفراغ الناتج عن ذلك، إن لم يكن للحلول مكانهم. يزداد الضغط الآن على إيران، ومن المهم معرفة العواقب السياسية لذلك. كان هناك إجماع على الاستراتيجية السورية. وبفشل هذه الاستراتيجية، انحل عقد الإجماع. وسيكون لذلك تأثير داخل إيران، بل ربما أشد من تأثير العقوبات. فالحكومات لا تستطيع إدارة النكسات.
عواقب أخرى من وجهة النظر الأمريكية، يوفر انهيار الأسد فرصتين.
الأولى: يبدو أن سياستها بعدم التدخل العسكري المباشر، مع الضغط السياسي المتواصل، ولدرجة أقل الاقتصادي، يبدو أنها تنجح في هذه المرحلة. وبمعنى أدق، حتى ولو لم يكن لها تأثير، فالظاهر أنها تؤثر. وهذا سيزيد من مقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التأثير في الأحداث دون الحاجة إلى التدخل فعليا. الفرصة الثانية هي أن الوضع الحالي يفتح الباب أمام توازن حقيقي للقوى في المنطقة، لا يتطلب التدخل الأمريكي المستمر. إحدى نتائج الأحداث في سورية أنه كان على تركيا أن تراجع سياستها تجاه دول الجوار. وبالنسبة للعراق، من مصلحة تركيا قمع مقاتلي حزب العمل الكردستاني الذين لجأوا إلى العراق، وحماية مصالحها النفطية والمصالح الأخرى. وتتغير السياسة التركية من تجنب جميع المجابهات، إلى تجنب الالتزامات العسكرية الكبيرة، مع مواصلة الجهود لتحقيق مآربها السياسية. وهذا يعني في النهاية أن تركيا ستغير موقفها لتوازن قوتها مع إيران، لأجل مصالحها في العراق. وهذا يخفف عن الولايات المتحدة الأمريكية عبء احتواء إيران. وما زلنا نعتبر منطقة النفوذ الإيرانية تهديد المصالح الأمريكية والإقليمية، أعظم من تهديد برنامجها النووي.
وانهيار الأسد يحل المشكلة الرئيسة، كما أنه يزيد من شعور إيران بضعفها. وبناء على مدى قربهم من انتاج رؤوس نووية محمولة ونعتقد أنهم ما زالوا بعيدين عن تحقيق ذلك فسيشعر الإيرانيون بضرورة تعديل موقفهم. أحد أكبر الخاسرين هي إسرائيل.
فقد كانت علاقتها واضحة مع نظام الأسد. وطالما كان يكبح جماح حزب الله، فلم يكن لديها مانع من بسط النظام السوري سيطرته في لبنان. لكن هذه الاتفاقية انتهكت منذ أن أجبرت الولايات المتحدة الأمريكية الأسد على الخروج من لبنان في 2012-3. ومع ذلك، كان الإسرائيليون يفضلون الأسد على السُّنة إلى أن ظهر أن الإيرانيون سيهيمنون على سورية. لكن الإسرائيليين لن يسرهم وجود نظام إسلامي في دمشق، ولا أن يصبح الوضع في سورية غير مستقر مثل لبنان، وهو الوضع الأرجح. فهم يعانون الآن من تهديدات الجهاديين في سيناء. وفكرة وجود مشاكل مشابهة في سورية، حيث يقابلها الجليل على الحدود الشمالية، لا صحراء النقب على الحدود الجنوبية، تسبب قلق للإسرائيليين.
ولعل أهم الخاسرين هما روسيا والصين. لقد عانت روسيا، مثل إيران، من انتكاس كبير في سياستها الخارجية، سيكون له عواقب نفسية. فالوضع في سورية أوقف اندفاع السياسة الخارجية التي بناها الروس. لكن الأهم هو ما كان يأمله الروس والصينيون في أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة عنهما بتركيزها على الشرق الأوسط. وانهيار الأسد وعواقب ذلك في المنطقة ستزيد من احتمال انفكاك أمريكا عن المنطقة. وهذا ما لا يريده الروس ولا الصينيون، لكنهم في النهاية لا يملكون القوة لفرض النتائج التي يريدونها في سورية.
استراتيجية القوة المسيطرة هي التشجيع على وجود توازن في القوى، يحتوي التهديدات دون الحاجة إلى تدخل مباشر. هكذا كانت الاستراتيجية البريطانية، لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تحسن تطبيقها. أما بعد الحروب مع الجهاديين، فهناك بوادر بنضوج الاستراتيجية الأمريكية. وهذا يعني إتاحة المجال للقوى الفاعلة الداخلية في المنطقة لتعمل، مع التدخل فقط في الحالة القصوى. تبدو الأحداث في سورية على أنها فقط مسألة بقاء النظام من عدمه. لكن لها تأثير كبير جدا في الحدّ من القوة الإيرانية، وإيجاد توازن محلي في القوى، وانفكاك الولايات المتحدة الأمريكية عن هذه المنطقة، لتركز على الشؤون العالمية الأخرى، بما فيها روسيا والصين.
المصدر: stratfor - ترجمة مركز الشام المعاصر للدراسات
باسل درويش
أندري كوليسنيكوف
ميجور جاريت
إيلي جارينمايه
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة