نجوى شبلي
تصدير المادة
المشاهدات : 2945
شـــــارك المادة
جرس الباب يقرع, وتترافق معه خبطات قوية ومتتابعة, والقلوب بدأت تخفق. ماذا عساه السبب في هذا الوقت المتأخر من الليل؟. فتح صاحب المنزل الباب. كانوا ثلاثة أشخاص.. طلبوا منه أن يصاحبهم.. استأذنهم في تغيير ملابسه.. لم يسمحوا له.. ثم ما لبثوا أن ذهبوا به في رحلة إلى هناك.. إلى أحد السجون المعتمة في سورية..
وقفت الزوجة في حال من الذهول, هي لا تدري ما الذي عليها أن تفعله؟. هل تخبر أخاه بالذي حدث؟. أم تخبر أهلها علهم يأتون إليها فينقذوها من حيرتها وذهولها ويرشدوها إلى ما يجب أن تفعله. مر الأسبوع الأول ولم يأت الزوج بعد. مر أسبوعان .. ثلاثة .. دون أي خبر عنه . بدأ جنينها يتحرك في أحشائها, إنه فرحتهما الأولى , كانا يعدان الأيام إلى أن يصل إليهما, لقد اتفقا على تسميته أنس تيمنا بأنس بن مالك خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , والراوي لكثير من أحاديثه . لم تكف خديجة عن البكاء , بكت كثيرا , إنها لا تعرف سببا يجعلهم يأخذون زوجها إلى المعتقل اللهم إلا أنهم قد رأوه يصلي في المسجد, أو أن أحد الشباب الكثر الذين سبقوه إلى السجن ذكر بأنهما كانا يقرآن في أحد كتب السيرة النبوية . مضت الأيام , وجاء أنس , اختلطت مشاعر الفرح والألم في نفسها. لقد جاء من يؤنس وحشتها ويسليها في غياب الزوج الذي كانت تود أن يشاركها فرحة قدوم هذا الحبيب . بدأ أنس يكبر , يناغي , لقد بدأ يزحف , ها هو ينطق ببعض الحروف ؛ لتتكون كلمات بعد ذلك . كان ابنها الحبيب يكبر أمام عينيها , وكانت سعادتها كبيرة يوم اصطحبته إلى المدرسة ليبدأ رحلة التعلم فيها . لم تفقد الأمل في عودة الزوج الحبيب , وهكذا مضت عشرون سنة وما زال زوجها في السجن . كانت تشغل نفسها عن التفكير فيه بمتابعة أنس في الدراسة , وها هو اليوم الذي حصل فيه على مجموع عال أهلّه لأن يلتحق بكلية طب الأسنان , الكلية التي درس فيها أبوه , وتخرج منها . كانت كلما فتحت باب الخزانة , تنظر إلى الثوب الأبيض المعلق , والذي كان زوجها يرتديه في العيادة . كانت تنتظر اليوم الذي سيعود زوجها فيه ليرتديه من جديد , ولا بأس أن يرتديه أنس اليوم , إلا أنه لا يصلح له فأنس كان أطول من أبيه . غريزة الأمومة جعلت خديجة تشعر أن شيئا ما قد حدث لولدها . إنها تراه يذبل أمامها , بدأ يشعر بآلام في جسده . اعتقدت بادئ الأمر أنه إهمال منه لنفسه , وربما انشغال في الدراسة ؛ فهو لم يعد يقبل على الطعام كما كان سابقا . عرضته على الطبيب , طلب منها إجراء تحاليل , وكان الخبر الصاعق الذي كاد يقضي عليها .... إن ابنها مصاب بسرطان الدم . هل الأمل الوحيد الذي عاشت من أجله , وصّبرت به نفسها كل هذه السنين ,هل يمكن أن يرحل ؟. هل ستغيب الشمس التي ملأت حياتها نورا ؟. وكيف تستطيع أن تعيش من دونه , وما زال أبوه غائبا ؟. ودت في هذه اللحظة لو أن زوجها كان معها ليشاركها همها , ولعله يجد مكانا في هذا العالم يمكن أن يعيد الصحة والعافية لجسد أنس . بدأت رحلة علاج ابنها ,ودموعها لم تجف بعد على فراق أبيه ؛ لتبتلى بعد ذلك بفراقه . كان الإيمان هو من يصبرها , ويبعث فيها الأمل وهي لا تكف عن الدعاء .
وذات يوم قرع جرس الباب . قام أنس وفتح الباب , وجد رجلا .. إنه يشبه صورة والده والتي كانت تخرجها أمه من الخزانة لتريها إياه بين الفترة والأخرى . هل هو فعلا فعلا والده ؟... هل خرج والده من السجن ؟.. لم يجد أنس نفسه إلا وقد احتضن والده , وأخذ يناديه , وينطق ولأول مرة بابا ,ولم يشعر أبو أنس إلا وقد أحاط بوجه ولده يقبله , والدموع تنهمر من الأعين .... اعتنقه بقوة من لا يريد أن يبتعد عنه مرة أخرى . أخذ يتلمس وجهه , وشعره وكتفيه . جاءت أم أنس ورأت المنظر , وأجهشت في البكاء . هل ما تراه حقيقة ؟... أم هو حلم تمنت حدوثه ؟. ومضى اليوم الأول , والثاني , وهي لا تعرف كيف ستخبر أبا أنس بمرض ابنه ؟. إنه يراها حزينة دون أن يدري سببا لحزنها . اعتقد أنها كانت حزينة لما فعلته السنون بنفسه وجسده . أخذتها الحيرة . أتخبره بمرض ابنه , وما زال فرحه بلقاء ابنه يغمر قلبه ؟. وهل يستطيع أن يتحمل خبرا كهذا ؟. ولكن لا بد أن يعرف في النهاية , وقد يكون من الأفضل أن يعرف الآن عله يجد الوسيلة التي تنقذ ولدهما , وقد بدا الوقت ينفد . استجمعت خديجة قواها , دخلت عليه , أخبرته بأن الله قد خبأ لهذه الأسرة من الأجر الكثير , ليس فقط لأنها امتحنت بسجن الأب وما لاقاه فيه من أذى نفسي وجسدي ؛ بل لأمر آخر لأن الله يريد أن يرفع من مكانة هذه الأسرة عنده . كان وقع الخبر في نفس الأب كوقع الصاعقة , إن فرحه بلقاء ابنه لم يكتمل . لقد سرق النظام السوري منه عمره وابنه , حرمه متعة شعوره بالأبوة لأول مرة ,حرمه رؤية ابنه يملأ البيت ضجيجا , حرمه متعة ملاعبة ابنه , حرمه متعة الشعور بالسعادة وهو يقدم لابنه لعبة جلبها له , أو متابعته في مدرسته , أو فرحه بجائزة نالها ابنه تقديرا على اجتهاده . إنه لم يشاركه فرحه وتفوقه في الثانوية العامة , ولم يفكرا سويا في الدراسة المناسبة له في الجامعة بكى أبو أنس .بكى كثيرا إلا أنه كان يجتهد ألا يشعر ابنه بحزنه وكآبته . صمم أن يرحل به خارج الدولة , وهاهو النظام يساعده على ذلك ؛ فهو يريد أن يتخلص من كل معارضيه إمّا بالقتل أو الترحيل . أحس بالارتياح وجوازات السفر بين يديه , إلا أن القدر لحقه إلى هناك , حيث قبضت روح أنس في جدة . أراد الأب أن يدفن ابنه في مكة , وفي أقدس بقعة من الأرض , لقد أراد أن يقدم لابنه شيئا حتى بعد وفاته . ومن هناك لاح في الأفق ضوء بدا يكبر , ويكبر . إنها تباشير النصر , ولاح معها وجه أنس . إن أبا أنس يرى ابنه الآن في وجوه اليتامى الذين حرمهم النظام آباءهم , وهم يحتاجون اليوم إلى يد أبي أنس , ويد أم انس لترعاهم .
النورس
نبيل جلهوم
طريف يحيى الشيخ عثمان
أبو الفضل شمسي باشا
المصادر:
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة