نبيل العتوم
تصدير المادة
المشاهدات : 2743
شـــــارك المادة
ثبتت رؤية هلال إيران في السماء السياسي لعالمنا العربي، وها هي طلائع الحجاج تتوالى ملبين دعوة الشيطان الجار إلى قم، منُساقين بحجج وذرائع عديدة، معصوبي القلب والرؤى، متناسين أن زيارتهم إلى قم ما هو إلا إقرار بأفعال هذا النظام الدموي القاتل الذي لم يبرأ منه قطر عربي ولا إسلامي!! وذلك اعترافا بمكانة قم، أم قرى العالم الإسلامي مستقبلاً.
والسؤال ما هي الأهداف الحقيقية من سعي إيران لجعل قم محجًاً للساسة والمسئولين العرب؟
وهل هذا سيحقق لإيران اعترافا ضمنياً بكون هذه المدينة باتت أم قرى العالم الإسلامي كما تطمح دولة ولي الفقيه؟ وهل يدرك المسؤولون العرب أسباب استدراجهم لعقد اجتماعاتهم وحبك اتفاقياتهم في قم دون غيرها من المدن الإيرانية؟ عند انتقالي لجامعة طهران بعد إكمال تعلم اللغة الفارسية في مركز تابع لجامعة الإمام الخميني الدولية في مدينة قزوين، شرعت بدراسة الدكتوراه في العلوم السياسية / برنامج الشئون الإيرانية في كلية الحقوق والعلوم السياسية، وقد لفت نظري المادة المقررة الأولى التي درسناها في مساق السياسة الخارجية الإيرانية، ليكون من أهم المقررات التي يتم تدريسها كتاب مقولات في الإستراتيجية الوطنية، لمؤلفه الدبلوماسي المقرب من المرشد هو وعائلته د. محمد جواد لاريجاني، وهو الأخ الشقيق لعلي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني، وأخ صادق لرئيس السلطة القضائية والمرشح القوي لمنصب المرشد. في البداية عندما قرأت الكتاب بهدف عرضه بسيمنار أمام أستاذ المادة انتابني الفضول كثيرًاً؛ قلت أيعقل أن إيران الثورة الإسلامية تفكر بهذه الطريقة البراغماتية الشيطانية؛ خصوصًاً أن المدرس قد قام بداية بعرض عظمة نظرية أم القرى في بلورة السياسة الخارجية الإيرانية تجاه دول المنطقة والعالم، ومعتبرا إياها هادياً ومنهجاً لساسة إيران ودبلوماسيها. و في حواري معه، قلت له ألا تخشون من تدريس هذا الكتاب في جامعاتكم؟ سألني لماذا؟ قلت له لأن هذا يعري كل سياسة إيران الخارجية، ويضع مصداقية الثورة على المحك؟. ضحك كثيراً. وقال لي: أرجو أن تعلم أن إيران ليست جمعية خيرية، تمنح بلا مقابل، وهي دولة لديها إرث ومجد تريد أن تستعيده، وهذا الكتاب يوضح لكم آليات تحقيق ذلك. إن ما بين النظرية التي تقرأ، وشرح التطبيق وآليات التطبيق التي يكلفها التصور الذي يطرحه لك أستاذ السياسة الخارجية الإيراني الذي تخرج من جامعة هارفرد، وهنا تأتي المفارقة العجيبة الغريبة، لشرعنة التوسع الإيراني من وجهة النظر الأكاديمية بصبغة قومية مذهبية، وبهذا تكشف الثورة ونخبها عن وجهها القبيح، ونسف فكرة بناء علاقات السلام مع الجوار الجغرافي لإيران. قررت بعدها ترجمة هذا الكتاب تحت اسم مستعار هو د. لبيب المنور، ولبيب هو أنا، ثم صدر الكتاب شرحاً وتحليلاً بصيغته الموسعة باسمي، ونحن عاكفون في مركز أميه على تلخيص الكتاب بشكل مركز ونشره. و من المؤكد أن عبارة “أم القرى” ورد ذكرها مراراً بالخطب التي يلقيها الكثير من فقهاء إيران ورجال الحكم فيها، غير أن المهم هنا هو أن نعرف ما هي ” نظرية أم القرى”؟ وما هي أبعادها،مهامها، أهدافها،حدود مسؤولياتها وكيفية تطبيقها؟ وهنا لابد لنا من أن نتناول آراء الدكتورمحمد جواد لاريجاني حول هذه النظرية؛ على اعتبار أنه يعتبر من أهم الباحثين الذين بحثوا نظرية ” أم القرى” وأطروها بشكل علمي قابل للتطبيق. جدير بالذكر – قبل الخوض في هذا الموضوع – أن نُسجل هنا أن مسألة التعبير عن الرأي او مجرد إبداء الرأي بخصوص الشأن الخارجي أو السياسة الخارجية يعد عملاً صعباً هنا، ويحتاج لتحليل معمق، وقد خرجت إلى العلن بعض المقالات المتخصصة حول المفاهيم الخاصة بـ”أم القرى” أو التعريف بها وبفلسفتها، أو بحدودها ومحددات وجودها وبشروط العمل بها على المستوى التطبيقي، حيث رعتها وزارة الخارجية الإيرانية ومراجع التقليد العظام الذين يتبنون هذه النظرية من خلال تواجدهم في مؤسسات صنع القرار الإيراني الحساسة. بالمقابل فإننا سنضع جملة من التساؤلات أمام صناع القرار في إيران، وهي ممثلة بالأسئلة التالية: ما هي نتائج وهن أو ضعف قوة” أم القرى” الجديدة (إيران) بسبب سلوكها الخارجي الهادف لبناء دولة “أم القرى” على البيئة الداخلية لدولة القلب المذهبي “إيران”؟ وماذا سيترتب عليها إذا لم تعد قادرة على تحمل أعباء سياسة المجال الحيوي المذهبي وتبعاته، وبالتالي إخفاقها في بناء دولة “أم القرى”؟ أي بمعنى إذا تحولت من الهجوم بواسطة هذا المجال إلى الدفاع بعد أن يصبح عبئاً ثقيلاً عليها؟ وهل ستدور الدائرة المذهبية على إيران، وتبدأ نفس حدودها الأيديولوجية بالانهيار إذا ما تبنت الدول المستهدفة سياسة دفاع جماعية تقوم على “قطع خطوط الإمداد المذهبي للمجال الحيوي” الذي تتوسل به إيران ومحاصرته، و بالتالي نقل المواجهة إلى العمق الجيولولتيكي من خلال دعم الدول العربية المستهدفة و إيجاد مصدات دفاع مذهبي داخل الخارطة الجغرافية والديموغرافية الإيرانية؟ بداية إن دولة أم القرى تعني أن تصبح إيران هي نواة مركز الإسلام العالمي، وبالتالي فهي تمثل الدولة القائدة التي تفرز زعيماً تكون له السلطة والصلاحية والولاية على الأمة الإسلامية جمعاء، على اعتبار أن الدين والعقلانية والوجدانية تقتضي تشكيل أمة إسلامية واحدة، واختيار حكومة لتمثيل هذه الأمة، استناداً إلى التجربة التاريخية للدولة الإسلامية، والتي وصلت إلى أوج تقدمها وتفوقها وتمدنها بفضل ذلك. وعلى هذا الأساس ليس من مصلحة الأمة الإسلامية أن يطول التفرق لأن الأصل هو الوحدة. أما تطبيق فكرة المجال الحيوي لبناء الإمبرطورية الشيعية الموعودة: “نظرية أم القرى” فيميل هذا الرأي نحو الأفكار الطموحة المتعلقة بالمهام الإسلامية للحكومة وتوجهاتها، نظرا لحالة التشابه بينه وبين فكرة الحكومة الإسلامية خاصة على مستوى المسؤولية واللاقومية، كما أن لهذا الرأي اهتماما وعناية بالواقع التنفيذي والتطبيقي لشؤون الحكومة في ظل عالم اليوم. وهذا هدف سيتحقق – حسب نظرية “أم القرى” – من خلال جملة من المراحل: المرحلة الأولى: ضرورة بروز الوعي والاهتمام بهدف إحياء الإسلام (الشيعي) على اعتبار أنه هو السبيل الوحيد لحياة الإنسان والجماعة. المرحلة الثانية: السعي وبذل الجهود لإقامة الحكومات الإسلامية في الدول المختلفة، وهذا سوف يكون من خلال الدور المحوري للشعوب في تشكيل هذه الحكومات، وتوظيف مختلف الوسائل والطرق سواء كانت انتخابات، أو استفتاءات …، وفي بعض الأحيان قد تؤدي النهضة وثورة الشعوب(الانتفاضات) والخروج إلى الشوارع إلى هذه النتيجة، ولاضير في ذلك إذا كان يحقق الهدف المنشود منه وهو إقامة الحكومة الإسلامية في النهاية. المرحلة الثالثة: في الوقت الذي تستطيع فيه الشعوب تحقيق الأهداف سالفة الذكر، وبالتالي تشكيل الحكومات الإسلامية، يجب عليها التوجه بعدها نحو خطوة تكوين حكومة إسلامية واحدة لغرض جمع الأمة الإسلامية، وتوحيدها تحت قيادة دولة “أم القرى”، ومن هنا فإن نظرية “أم القرى” تعتبرأنه في حالة إقامة دولة “أم القرى” فإن إيران ستمثل دار الإسلام ومركزه، وهذا الأمر يعتبر تعزيزاً للإسلام وتقوية لشوكته، لذلك يجب على الأمة الإسلامية جمعاء أن تحافظ على دولة “أم القرى” على اعتبار أنها مركز للإسلام، وبالتالي فإن انتصار دولة “أم القرى” وعزتها يعتبر انتصارا للأمة الإسلامية جمعاء، أما هزيمتها أو انهيارها فيعتبر انهزاماً لكل الأمة الإسلامية، لذلك فعلى دول الأمة الإسلامية وشعوبها الحفاظ عليها بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فالحفاظ على “أم القرى” يعني – أيضاً- الحفاظ على النظام الكامل للحكومة الإسلامية، والذي يشمل كل أراضي الدولة الإسلامية الواحدة، والتي بسببها تشكلت دولة “أم القرى” التي ستقود هذه الأمة. ولتحقيق الفكرة السابقة يعتبر لاريجاني أنه وبعد انتصار الثورة الإسلامية أصبحت إيران – نتيجة لذلك – هي بحق “أم القرى” بالنسبة لجميع العالم الإسلامي، حيث تولى الخميني قيادتها بعد هذه الثورة، والذي جسد بدوره فكرة الحكومة الإسلامية على أرض الواقع وجعلها مثالا للآخرين. وقد ذهب محمد جواد لاريجاني بعيداً في تقديس “أم القرى” على اعتبار أنها ليست – فقط – مركزاً للعالم الإسلامي ونواته، بل أشار إلى ضرورة تقديم مصالحها على الآخرين، لدرجة أنه إذا تعارضت مصالح إيران “دولة أم القرى”مع الدول الأخرى يجب أولا تقديم مصالح أم القرى” إيران” على اعتبار أنها عماد العالم الإسلامي، ولأنها تجسد بذلك فكرة بداية وحدة الحكومة الإسلامية الواحدة التي أشار إليها الخميني. لذا فإن إقامة دولة “أم القرى” تعتبر عين المصلحة، والحفاظ عليها من جانب الشعوب الإسلامية يدلل على شجاعة منقطعة النظير، وأن إرادة الشعب المسلم الذي سعى إلى تحقيق هذا الهدف – والذي هو من حقه بالتأكيد – ستجسد فكرة “أم القرى” على أرض الواقع، والتي من خلالها ستقوم بتشكيل الحكومة الإسلامية لدولة “أم القرى” التي ستكون المنطلق، والتي ستتمكن من الدفاع عن حقوق جميع المظلومين، وتحقيق العدالة، والتي بدورها – أيضا – ستحاسب السلاطين والملوك الظالمين والكفرة. ووفق هذه الرؤية فإن من أهم أهداف إقامة دولة “أم القرى” هو: أولاً: حفظ قاعدة الحق والمساعدة في تحصيله: ولذلك فإن الحفاظ على “أم القرى” يعتبر من أهم الأولويات التي لا يجب أن نغفل عنها لتحقيق الأهداف سالفة الذكر. ثانياً : تشكيل الحكومة الإسلامية، وتمهيد الأرضية اللازمة لها: وهنا ينبغي حشد وتعبئة كافة الطاقات والإمكانات لتحقيق ذلك. لكن ما هي الخطوة الثانية بعد بزوغ الإسلام من جديد على يد الثورة الإسلامية حسب رؤية لاريجاني؟ الخطوة الثانية هي أن تصبح إيران أم القرى بالنسبة للعالم الإسلامي، حيث اكتسبت ايران هذا الحق – حسب رؤية لاريجاني- بفضل إنجازها العظيم من خلال الثورة الإسلامية التي انتصرت وقدمت التضحيات لإعادة بعث الأمة الإسلامية من جديد، فنظرية “أم القرى” تقوم على أن جوهر الوحدة في” نظرية أم القرى” هي الوحدة في أداء الواجب الإسلامي المتمثل ببناء دولة إسلامية تكون فيها السيادة لأمة مسئولة، تحت رعاية قائد مسئول، وعلى أرض وصفها “أم القرى” الجمهورية الإسلامية الإيرانية “، وهذا يعد الركيزة الأساسية لحكومة ذات سمعة عالمية، فولاية الفقيه وحكومة الولاية هي الأساس والجوهر في إقامة الحكومة الإسلامية في “أم القرى”، وقيادة الولي الفقيه نفسها هي سر وحدة الأمة الإسلامية. من هنا فإنه ليس للحدود المتفق عليها دوليا أي دور في هذه القيادة؛ إذ أن العالم الإسلامي هو أمة واحدة، وولاية الفقيه فيه وحدود مسؤولياتها موحدة وغير قابلة للتقسيم على الدول؛ لأن مركز الدولة الإسلامية واحد و “أم القرى” وزعيمها وإقليمها واحد، ولذلك فإن مسؤولية القيادة في الأمة الإسلامية لا تعترف بشيء اسمه الحدود الجغرافية، وتأسيسا على ماسبق، فإن الدولة التي تصير ” أم القرى” بالنسبة للعالم الإسلامي، وتكون بها قيادة، هي في الحقيقة وحدها الجديرة بزعامة هذا العالم والأمة الإسلامية. أما إذا ظهر تضارب بين مسؤولية قيادة الثورة الإيرانية وحكومتها ” أم القرى ” وبين دول الأمة الإسلامية، فلأي منهما تعطى الأولوية بالعناية؟ وأيهما يعد الأصل؟ وأيهما يعد الفرع؟ وما سبل إزالة هذه المشكلة؟ وهنا ترى نظرية “أم القرى” أنها قد جاءت بإجابة عملية عن هذه التساؤلات، إذ أن مصالح الأمة الإسلامية مقدمة دائما، لكن إذا تعرض كيان” أم القرى” نفسه للخطر، فعلى الجميع أن يهب لنجدتها، ومن هنا فإن الحفاظ على ” أم القرى” هو أمر واجب ومنوط بالأمة جمعا، وليس – فقط- بشعب “أم القرى” وحده. وبالمقابل فإن “أم القرى” ستدافع عن حقوق الأمة بكل ما تملك من استطاعة، لهذا السبب نجد أن القوى الدولية تسعى لتدمير دولة “أم القرى” حتى لا تكون هي العقبة التي تقف في طريقهم، وفي هذا الصدد فإنه يقع على كاهل الأمة مهمة القيام بدورها للحفاظ على” أم القرى” والدفاع عنها، والأمة مكلفة بأن تهب للدفاع إذا ما تعرضت” أم القرى” للخطر وتسعى لنجدتها، وعلى هذا الأساس فإن على “أم القرى” والأمة حقوقا وواجبات متبادلة مع بعضها البعض، فأم القرى عليها أن تحمي الأمة، وتدافع عنها، وتعمل على الحيلولة دون وقوع ظلم القوى الأخرى عليها، وفي المقابل لها حقوق هي بعينها واجب الأمة تجاه “أم القرى”، أي إذا تعرضت “أم القرى” لهجوم عسكري من أعداء الإسلام فعلى الأمة أن تهب لمساعدتها بكل ما أوتيت من قوة. ويحاول هنا لاريجاني – من خلال نظريته – الاستدلال والتوسل بعدد من الدلائل التي تثبت أن الشعوب الأخرى قادرة على تحقيق فكرة إقامة الحكومات الإسلامية، والتي ستتبع وتلحق مستقبلاً بدولة “أم القرى” والذي يعده امتيازا وفخرا عظيما لهذه الدول، حيث يؤكد على أهمية العزم والجدية والتصميم لتحقيق هذا الهدف، ويضرب مثالا على ذلك متمثلاً في قدرة الشعب الإيراني وعزيمتة على التغيير، حيث استطاع من خلال ثورته الإسلامية أن يسقط الحكومة الفاسدة في إيران، وإقامة الحكومة الإسلامية مكانها، وهذا الأمر جاء طبقاً لرؤية الخميني وأفكاره، ويصل لاريجاني إلى نتيجة مفادها أن إيران التي أنشأت الحكومة الإسلامية بهذا الشكل، وقدمت التضحيات الكبيرة في سبيل تحقيق هذا الهدف، تستحق من كل فرد مسلم في العالم أن يحافظ عليها، ويدافع عنها، لأنها بدون شك هي “أم القرى” بالنسبة للعالم الإسلامي. لذلك اعتبرت نظرية أم القرى أن الثورة الإسلامية الشيعية في إيران قد شكلت الخطوة الأولى لبناء الحكومة الإسلامية، أما الخطوة الثانية فهي تتمثل بتحول إيران إلى دولة “أم القُرى” التي ستكون الخطوة الثانية لانتصار الثورة الإسلامية العالمية التي سوف تمهد الأرضية لظهور المهدي المنتظر الذي سيحقق الاستقلال والعدالة والحرية. ويتناول لاريجاني موضوع تشكيل الحكومة الإسلامية الصالحة من خلال التركيز على دور العمل الفردي والشعبي في تحقيق هذا الهدف الذي اعتبره مقدساً، ويحقق مصلحة الأمة الإسلامية جمعاء، وهذا الأمر يعتبر وظيفة واجبة مصدرها وأساسها الشرع الإسلامي، الذي يسعى إلى تحقيق الوحدة، وهذه الرؤية تنسجم مع ما أراده الأئمة – حسب رؤية لاريجاني- الذين أكدوا أن تحقيق الولاية الجامعة للأمة يعتبر ركناً مهما لا تتتم بدونه فرائض الإسلام الأخرى مثل: الصلاة، والصوم، والزكاة…. ومن هنا فإن من المفروض على أي مسلم على أن لا يخالف هذا الفرض. وتأسيسا على ذلك فإن هذه النظرية تعتبر أن الأصل في العالم الإسلامي أن يكون أمة واحدة من دون الناس، وأمة منسجمة تحت راية الإمام المسؤول عن هذه الأمة الإسلامية الواحدة، والتي يكون قوامها دولة “أم القرى”، وحسب التصورالذي يطرحه لاريجاني في كيفية انبثاق فكرة “أم القرى” فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين – حسب هذا الزعم- ظهور عقلانية في العالم الإسلامي، وقد وجدت المراحل الأولى لهذه العقلانية قبولاً عاما في إيران، بينما خلقت تياراً عظيما استطاع أن يقيم نظاما حكوميا عادلا وشاملا (الحكومة الإسلامية) كان بمثابة الخطوة الثانية، حيث تسير أمواجه العاتية بقوة إلى سائر الدول الإسلامية الأخرى بشكل منظم، و طبعا لازالت إيران في المراحل الأولية لتكوين هذا الهدف العقلاني نظرياً، و أيضاً في نشر قبول الأمة الإسلامية بها على مستوى العالم الإسلامي، فلو تمكنت هذه العقلانية من تحقيق مسيرتها التكاملية، فإنها ستقدم حضارة جديدة[1] إلى العالم، وهذه الحضارة أقوى في انتسابها للإسلام مما عرف تاريخياً باسم الحضارة الإسلامية؛ لأن تلك الحضارة اتخذت منحى آخر وهي لا تزال في بداية طريقها، بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم). وهنا نود الإشارة إلى ما تحدثت عنه هذه النظرية حول التعارض المحتمل حدوثه بين المهام خارج الحدود وعالمية الحكومة الإسلامية وبين متطلبات الداخل الخاص بالبيئة الداخلية لدولة “أم القرى”: حيث تقول هذه النظرية: ” علينا أن نجيب عن السؤال المطروح حول احتمال ظهور تعارض بين كلا الهدفين: أي بين تصدير الثورة وتلبية احتياجات الجمهورية الإسلامية فيها، وأيهما مقدم على الآخر؟ نجيب بأن الخطوات التي تحرزها الجمهورية الإسلامية في الوقت الراهن وهي تسير وفقا لتوجيهات الإمام الخميني سواء التي جاءت في خطبه أو فتاواه – تلتزم بأنه إذا ظهر تعارض بين هاتين المسألتين فعليا فلا بد أن نلبي احتياجات الجمهورية الإسلامية أولا” بقوله: “اسمحوا لي أن أكرر أنه من الأهمية بمكان أن الموضوع الذي نوليه أهمية منذ بداية الثورة هو أنه إذا ظهر تعارض بين هذين الهدفين فالأولوية تكون لتلبية احتياجات الجمهورية الإسلامية”. أما صلاحية زعيم “أم القرى” – حسب هذه النظرية – فيجب أن تمتد لتشمل كل الأمة الإسلامية (إقليما وشعوبا)، وفي نفس الوقت فإن على دولة “أم القرى” وشعبها (الشعوب الإسلامية كلها) كثير من الالتزامات، وفي مقدمتها: 1) دور شعب “أم القرى” الذي يشكل مصدراً لقوة القائد أو المرشد (زعيم أم القرى، ولي أمر المسلمين)، ومادام الشعب الإسلامي قد منحه هذه السلطات، فيجب على الأمة الإسلامية أن تأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار، وأن تبايعه على هذا الأساس، كذلك فإن انتخاب مجلس الخبراء الذي ينتخب بدوره ولي الفقيه لدولة “أم القرى”، فيجب أن يكون هذا المجلس يمثل كل الأمة الإسلامية، وإن كانوا غير إيرانيين، وهذا أمر طبيعي. 2) إن زعيم دولة “أم القرى” هو زعيم الأمة الإسلامية كلها، ويملك صلاحياته وسلطاته الرسمية على جميع أراضي إقليم العالم الإسلامي، لذلك يجب أن تكون كل الأمة الإسلامية تحت سلطاته وحكمه، ومن هنا فإن قيادة دولة “أم القرى” مسؤولة عن الأمة الإسلامية، لذلك فإن المصلحة القومية والاستراتيجية لأم القرى تختلف وتتفاوت عن غيرها إذا ما قارناها مع الدول غير الإسلامية، وذلك لأن صلاح الأمة الإسلامية مرتبط بصلاح دولة “أم القرى” وزعامتها. إن دولة “أم القرى” تعتبر نموذجاً صالحاً للدول الأخرى التي يجب أن تقتدي بها، أما في حالة وجود دولتين من الدول الإسلامية [2] التي يقودها فقيهين جامعين للشروط، وقد قاما بتشكيل حكومتين إسلاميتين، فهل هناك تداخل بين سيطرة الفقيهين العادلين؟ وهنا يفرق لاريجاني بين عدة حالات: أولها: افتراض أن الدولة الأولى هي دولة “أم القرى”، وهنا يجب على الدول الأخرى الإسلامية – على فرض وجودها – أن تجعل من دولة “أم القرى” قدوة لها، وأن تضع سلطتها تحت ولاية دولة “أم القرى”، ومن هنا يجب على ولي الفقيه القائد للدولة الأخرى، أن يخضع نفسه ودولته لصلاحيات وسلطات ولي الفقيه القائد في دولة “أم القرى” على أساس أن الأصل يقتضي أن الولاية والسلطة يجب أن تكون خاضعة لدولة أم القرى”إيران” باعتبارها الدولة المركز للعالم الإسلامي. ثانيها: أما مسألة حدود الصلاحيات، فستكون من خلال تشكيل مجلس شورى القيادة، وهذا المجلس يجب أن يسيطر على الدولتين سيطرة كاملة من خلال قيادة زعيم “أم القرى” لهاتين الدولتين، وعلى الأمة الإسلامية والدول الأخرى الاقتداء بذلك من خلال الانضواء تحت سلطات الولي الفقيه في دولة “أم القرى”، ومن هنا فإن وجود الدول الأخرى سوف يتم التعبير عنه وتمثيله من خلال إفراز كل دولة من هذه الدول لمجلس شورى فرعي ينضوي تحت مجلس شورى مشترك مكون من الدول الإسلامية، لكن في النهاية سوف تخضع هذه الدول بمجموعها لسلطة زعيم دولة أم القرى (ولي أمر المسلمين كافة )على اعتبار أنها تشكل نواة الدولة الإسلامية. فالمعجزة العظيمة حدثت من خلال الثورة الإسلامية التي حدثت في(بهمن فبراير 1979)، و يجب أن لا نعتبر الحضارة الإسلامية مسألة خاصة بالعالم الإسلامي، بل هي للغرب أيضاً. وثمة ملاحظات وشواهد رصدناها هنا على مجموع النقاط المتعلقة بما ذكر سابقا، وهي على النحو التالي: ” من الممكن أن يكون بدولة ما مشكلات ونقائص كثيرة، ونظامها هو النظام الإسلامي الحقيقي، أما الإعمار والتنظيم وحماية الظواهر الشرعية، وأمثال هذه الأشياء فإنما هي أمور فرعية”، لذلك فإن من الأهمية بمكان تغليب الهدف الحقيقي وتحقيقه المتمثل بالإسلام، وبعدها يمكن حل المشاكل الأخرى. ” إننا إذا ألقينا نظرة خارج حدودنا فإننا نجد أن أهدافنا لا تخرج عن شيئين هما: “تصدير الثورة” و”حفظ أم القرى”. أما إذا ظهر تعارض بين كلا الهدفين فالأولوية تبقى لحفظ “أم القرى”، والسعي لتقديم مصالحها على الآخرين. لا شك بأن الفكر الإمبرطوري قد عظمت طموحاته في ظل الجمهورية الإسلامية فى إيران، حيث برزت مفاهيم زاوجت بين البعد الديني و اللاقومية و اللاحدودية للأيديولجية الشيعية، وطرحت سؤالاً هاماً أمام زعماء الجمهورية الشيعية منذ بداية الثورة بوصفهم منتخبين من “أم القرى” نواة الأمة والدولة الإسلامية الموعودة، والسؤال: إلى أي مدى هم يشعرون بالمسؤولية تجاه إيران ” أم القرى للعالم الإسلامي “، وتجاه الأمة الإسلامية المنتشرة في كافة ربوع العالم، والذين يُعتبرون ضمناً رعايا لهذه الإمبرطورية الشيعية؟ وإلى أي درجة يشاركونهم همومهم؟ بل إن السؤال نفسه كان يطرح في أحيان أخرى بشكل أكثر دقة وتحديدا: إذا ما ظهر تضاد بين مهام حكومة “أم القرى” المعروفة باللاحدودية واللاقومية، وبين مهامها الداخلية والوطنية – سواء المتعلقة بحقوق الشعب الإيرانى عليها أو بواجباته نحوها- فأيهما أولى؟ وعلى أي نحو يتم حل الإشكالية بين هاتين الحالتين؟ نستطيع القول إنه في الوقت الذي آلت فيه المسؤولية إلى الحكومة الإسلامية ومقرها “أم القرى” بدت قيمة هذا التساؤل وأهميته عن حجم مسؤوليتها وحدود المشروعية في النظام الدولي اليوم واتساع نطاقها، وحينئذ طرحت نظريات وآراء متعددة للإجابة عنه، فهناك نظريات ترى أن المرجعية في ذلك للجانب العلمي في حياة الأمة وآمالها وأيديولوجيتها اللاحدودية والعالمية، بينما ترى أخرى أن المرجعية فيها تقوم على البعد المذهبي، كما أن هناك آراء وسطية بين هاتين النظريتين. لقد ركز المنظرون في إيران على ضرورة الاهتمام ببناء النموذج, وفي الوقت نفسه تحقيق البناء و الإعمار والتنمية في دولة “أم القرى”، والتأكيد على استراتيجية المساومة والتسويات على الصعيدين الداخلي والخارجي لغاية تحقيق الأهداف العظمى، على اعتبار أن الإسلام تجاوز الحدود الجغرافية في جميع أحكامه وقوانينه ووصاياه، ولم يعترف بها مطلقا، وبالتالي نجح في تخطي حدود الدولة الواحدة، ومن ثم فهو لا يهتم بتقسيم الأمة في إطار الحدود المتفق عليها دولياً، لذلك فإنه مسؤول عن أتباعه ورعاياه لتحكمه حيثما كانوا، انسجاما مع حديث الرسول(صلى الله عليه وسلم ): “مثل المؤمنين في تعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد…”، وهذه الفكرة بالأساس تؤكد أن الإسلام هو دين عالمي لاحدودي. ومن الأمور اللافتة للنظر أن مركز الدراسات العلمية الذي شكله مجلس خبراء القيادة قد جعل من أهم محاور أبحاثه ودراساته دراسة نظرية “أم القرى” من خلال المحور البحثي للدراسات الدبلوماسية ووظيفتها الخارجية بالنسبة لإيران، حيث تناول فيها هذا المحور كيفية مواجهة الكفر، وكيفية بناء العلاقات مع العالم الخارجي، وقضية الالتزامات الدولية، ومسؤولية إيران لتحقيق فكرة العزة والمصلحة من خلال تطبيق فكرة “أم القرى”، والتي تعتبر من الأصول والمرتكزات الأساسية الخارجية الإيرانية. والمثير في مثل هذا النوع من الدراسات والأبحاث أن نفس وزارة الخارجية الإيرانية تقوم بنشرها والترويج لها في كتيبات خاصة يتم توزيعها. نود الإشارة هنا إلى أن آية دولة الله مصباح يزدي- المرشد الروحي للرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد وللنخبة السياسية والعسكرية والأمنية الحالية – يؤيد هذه الفكرة من خلال ما يُعرف بعالمية صلاحيات وسلطات ولي الفقيه التي ينبغي أن تمتد إلى العالم الإسلامي، وإن كثيراً من أفكار محمد جواد لاريجاني التي يحاول أن يطورها من خلال ما طرحه يزدي في بعض دراساته. تمهيدا لتطبيق مشروع الإيران القائم على الهيمنة وبسط النفوذ على المنطقة. و النتيجة أن كتاب مقولات في الإستراتيجية الوطنية أول كتاب من نوعه يوضح بشكل جلي لا لبس فيه ؛ كيفية بناء إيران لمجالها الحيوي، والآليات والاستراتيجيات التي تتبعها لتحقيق ذلك بشكل مباشر، ودون مواربة ؛ لكن ماذا ورد في هذا الكتاب من أفكار، و ماهي الأهداف الحقيقية التي تريد الجمهورية الإسلامية تحقيقها في النهاية. _______ [1] – (حضارة إسلامية شيعية عالمية ). [2] – (تكشف هذه الفكرة أمرا مهما هو أن لاريجاني نفسه يعتبر أن معيار إسلامية الدولة مرتبط بقيادة الدولة الإسلامية من جانب ولي فقيه “شيعية الدولة ” ولكن يبقي إسلامية الدولة وصلاحها مرتبط بأن تنضمَّ تحت عباءة المرجع الشيعي السياسي الأعلى، والذي مركزه دولة أم القرى “إيران”).
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
المرصد الاستراتيجي
شفيق شقير
ماريو أبو زيد
إبراهيم قيسون
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة