مركز حرمون للدراسات المعاصرة
المرفقـــات
تصدير المادة
المشاهدات : 2422
شـــــارك المادة
مقدمة: تُشير التطورات التي شهدتها الأشهر الأخيرة على صعيد المسألة السورية، أو في الحرب الدائرة في سورية وعليها، إلى أن شبح التقسيم ما زال ماثلًا أمام البلاد، لا بل أخذ يهدِّد أكثر فأكثر مستقبل سورية ومصير شعبها أيضًا.
واتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه أخيرًا وزيرا الخارجية الأميركي، جون كيري، والروسي، سيرغي لافروف، في 9 أيلول/ سبتمبر الجاري، ودخل حيّز التنفيذ مساء يوم الإثنين في 12 من الشهر نفسه، لا يبدّد هذا الشبح. أولًا: في حقائق الواقع ودروس التاريخ تُشير الاستنتاجات في الحالات المماثلة للحالة السورية في التاريخ الحديث إلى أنه بقدر ما يطول أمد الصراع، يكتسب خيار التقسيم حقائق على الأرض تجعل منه، بالقدر ذاته، خيارًا متاحًا، والحالة السورية التي مضى عليها ما يُقارب السنوات الست، رسمت، بالحديد والنار، خرائط على الأرض، ما انفكّت صيرورتها تتشكّل، هنا أو هناك، إلى أن أخذت ملمحًا واضحًا أو مُرتسمًا أخيرًا جعل منها أقرب ما تكون إلى مناطق استتباع أو نفوذ لهذا الطرف، الإقليمي والدولي، أو ذاك؛ الأمر الذي جعل الرهان على التقسيم يكتسب، عند أصحابه، حظوظًا واقعيّة وليست وهمية.
لكن، هل يعني هذا أن سورية ماضية في طريقها إلى التقسيم، أو أن هذا الخيار أصبح خيارًا حتميًا في الحلول المرتجاة أو المرتقبة؟ لا يبدو الأمر على هذه الدرجة من البساطة على الرغم من جميع الوقائع التي ارتسمت على الأرض، ذلك أن سورية، بجغرافيتها السياسية والديموغرافية، بلد غير قابل للتقسيم، نظرّا إلى ما يحتويه من تنوّع ديني ومذهبي وإثني تهدّد تداعياته الإقليم بأسره، إلا إذا كان هناك توجه من القوى الدولية النافذة، ربما، بوضع خرائط سايكس-بيكو على الطاولة، وإعادة النظر في خرائط الإقليم. فهل هناك مؤشرات إلى توجه من هذا القبيل؟
ثانيًا: مؤشّرات دولية ذات دلالة: يهمّنا من هذه المؤشرات، تلك التي صدرت، أو تصدر، عن قوى دولية نافذة أو مقرّرة في الحلول التي يمكن أن تؤول إليها المسألة السورية، وفي هذا المضمار نُشير إلى التصريح الذي كان قد أدلى به نائب وزير الخارجية الروسية، سيرغي ريابكوف، في نهاية شباط/ فبراير الماضي، والذي قال فيه: إن موسكو “تأمل أن يتوصّل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فدرالية”، وأضاف: “لا بدّ من وضع معايير محدّدة للهيكلة السياسية في سورية في المستقبل، تعتمد على المحافظة على وحدة أراضي البلاد، بما في ذلك إنشاء جمهورية فدرالية خلال المفاوضات”. وعلّق في حينه يوري فينين، كبير الباحثين في معهد العلاقات الدولية في موسكو، موضحًا أن ما أشار إليه ريابكوف ما هو إلا “فكرة من بين الأفكار التي يجري تداولها”، وأن “هذه الفكرة، وإن كانت مجرّد تصريح إعلامي فحسب، إلا أنها الأقرب إلى الواقع السياسي والديموغرافي، الذي تشكّل في ظلّ الأزمة السورية المستمرة منذ سنوات”، مُنبّهًا إلى أن مثل هذا الطرح -في الوقت الحالي- “يمكن أن يفتح الباب أمام اقتراحات أخرى، ستجري مناقشتها في المفاوضات المرتقبة في جنيف”.
من جهة أخرى، نُشير أيضًا إلى إعلان الولايات المتحدة الأميركية -قبل مدة وجيزة من تصريح ريابكوف- عن وجود “الخطة ب” في حال تعثر مفاوضات جنيف، تلك الخطة التي لم تُفصح عنها، وتحذيرها السوريين والعالم من احتمال تقسيم البلاد إذا طال أمد الصراع. لكن اللافت للانتباه هنا، هو ذلك التصريح الذي صدر فيما بعد عن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، جون برينان، وعبّر فيه عن تشاؤمه بشأن مستقبل سورية. جاء ذلك في كلمة ألقاها في “منتدى أسبن” الأمني السنوي في ولاية كولورادو في أواخر تموز/ يوليو الماضي، أشار فيها إلى أنه لا يعرف “ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سورية موحدة مرة أخرى”، وأضاف أن “سورية ربما لن تبقى على وضعها الذي كانت عليه قبل خمس سنوات من اندلاع الأزمة”. وقد رأى محللون أن ما أثاره هذا المسؤول الأميركي الرفيع يعني أن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة، لن تقتصر على سورية، وإنما قد تكون منفتحة على إعادة رسم شرق أوسط مختلف عبر “سايكس- بيكو” أميركي-روسي جديد، إحدى دعائمه قيام “الكيان الكردي” الذي كان حلمًا في العام 1920 ولم يتحقق، ودعامته الأخرى قيام “كيان علوي”، بغض النظر عن آفاق نجاح مثل هذا الحلّ الذي قد يكون مدخلًا لحروب لا تنتهي. ما يهمنا هنا أن جون برينان وضع في التداول مقولتين، هما في الحقيقة صورتان لمشروعين كبيرين؛ المقولة الأولى أن “عودة سورية موحدة” مسألة لم تعد مؤكدة، والمقولة الثانية أن سورية المقبلة (المجزأة) لم تتضح معالمها بعد. فهل يعني هذا أن الحرب المستمرة هي المدخل لإعادة رسم الخرائط والحدود؟ وهل يمكن القول إن إغلاق الأبواب في وجه الحلول، يُراد منه الإفساح في المجال لإنضاج مثل هذه المشاريع؟
من المؤكد أن كلام برينان ليس تعليقًا في الفراغ، وهو لا يُطلق الكلام على عواهنه، ومن الموقع الذي يشغله -على رأس أهم مؤسسة استخبارية في العالم- يتحدث كمسؤول تتوافر لديه معلومات ومعطيات ليست في متناول سواه. نقول هذا بمناسبة حديثه الثاني في العاشر من أيلول/سبتمبر الجاري، أي غداة توقيع الاتفاق الأميركي-الروسي في جنيف بخصوص سورية، في مركز أبحاث في نيويورك، الذي تناول فيه موضوع سورية والعراق. فلقد لفت في حديثه هذا إلى “احتمالات تشير إلى إمكان انقسام البلدين”، ومن الأسباب التي تدفع إلى هذا الانقسام، كما قال “إراقة كثير من الدماء” و”الكمّ الهائل من الدمار” و”الانقسام الطائفي”، إضافة إلى “تعذّر إنشاء حكومة مركزية قادرة على الإدارة في شكل عادل في كلا البلدين”.
يتناغم هذا أيضًا مع ما أدلى به جون كيري في المقابلة التي أجراها معه برنامج “مورنينغ إيديشن” في “الإذاعة الوطنية العامة” في الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري، والتي قال فيها “إنها فرصة أخيرة للإبقاء على سورية موحّدة”، مضيفًا “إذا فشلنا في الإيقاف الآن، ولم نتمكن من الجلوس إلى الطاولة، سيزيد القتال بدرجة كبيرة”. وكان يردّ، في هذا، على الانتقادات الموجهة لاتفاق الهدنة في سورية الذي وقعه مع وزير الخارجية الروسي.
في جانب آخر، قال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، موشيه يعلون، في مقال له تحت عنوان “اتفاق عديم الاحتمال” (في إشارة إلى الاتفاق الأميركي-الروسي)، نشرته صحيفة “يديعوت أحرنوت” في الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري “إن إطلاق النار في سورية لن يتوقف، لأن المصالح المتناقضة بين المحافل الخارجية المشاركة في الحرب في سورية لا تسمح بتحقيق حسم أو تسوية سياسية تقرّر واقعًا جديدًا في الدولة المتفكّكة، وتوقف سيل الدماء”، عادًّا أن “وقف إطلاق النار يعكس بالأساس محاولة خارجية للتدخل، وليس مصلحة واضحة للجهات المتخاصمة نفسها لوقف الحرب”. ورأى أن ادّعاء الجهات الخارجية توحيد سورية من جديد “ليس واقعيًا”، موضحًا أن “سورية باتت منقسمة إلى كانتونات على أساس ديموغرافي […] وستبقى هكذا لسنوات طويلة أخرى”.
فهل يعني هذا كله أن وحدة سورية أصبحت أمرًا مشكوكًا فيه؟! وهل هي موضوعة على المحكّ؟! وفضلًا عن هذه المؤشّرات الدولية ذات الدلالة، ألا يشكل كل من “مشروع سورية المفيدة” و”مشروع الفدرالية الكردية”، في الداخل السوري، مؤشّرًا فاعلًا في هذا السياق؟ ثالثًا: مشروع “سورية المفيدة” في استعادة سريعة للحوادث، صار معروفًا أن نظام الأسد كانت لديه خطط وسيناريوهات جاهزة لمواجهة أي وضع ثوري يمكن أن ينشأ في البلاد؛ وكان هذا قائمًا قبل انطلاق الثورة في آذار/مارس 2011.
بعد انطلاق الثورة، وفي الأشهر الأولى لها، ما كان يُخيف النظام ويؤرقه هو سلمية الثورة ومدينيتها، وتطلعها نحو الحرية والكرامة والدولة الوطنية. ولكونه لا قِبَل له في تحمّل مثل هذه الحالة أو في تركها تأخذ مداها؛ ولأن البنية التي تأسس عليها، وحوّلته إلى نظام مغلق على ذاته، جعلت العنف أداته ووسيلته الوحيدة في معالجة أزماته ومشكلاته مع شعبه بوصفه نظامًا غير سياسي؛ لهذا، سرعان ما توجّه لاستدعاء خططه وسيناريوهاته الجاهزة من الأدراج المحفوظة فيها، وعمل على تفعيلها مستعينًا بجميع ما لديه من خبرات مهولة راكمها في هذا المجال.
وكما صار معروفًا أيضًا، تمحورت خطّته في التعامل مع الثورة في أمرين اثنين: تمثّل الأول في دفعها إلى حمل السلاح وعسكرتها عبر رفع منسوب العنف في مواجهة تظاهراتها السلمية وفعالياتها المختلفة إلى حدود قصوى، وبالتالي، استدعاؤها إلى الحقل الذي يُجيد التعاطي معها فيه، وتمثل الثاني في العمل على تطييفها لإخافة قاعدته الاجتماعية والمحافظة عليها رهينة بين يديه. ومن دون إسهاب في هذا المجال، تحقّق له النجاح في الأمرين كليهما، بغضّ النظر عن المأساة التي حاقت بالشعب السوري، والتي لا مثيل لها في التاريخ، وبغضّ النظر أيضًا عن حجم الدمار الذي وقع في البلاد.
ليس خافيًا بعد، أن الذي ساعد النظام في إطلاق يديه في هذا المسار، هو ذلك الخذلان الكبير الذي تعرّضت له الثورة السورية من المجتمع الدولي، وعدم رغبة القوى الدولية النافذة، ربما، في أن تتوافر لسورية دولة وطنيّة حديثة.
المهم، أن النظام، ومنذ البداية، لم يكن لديه خيار آخر غير الحلّ العسكري المتمثل بالانتصار على السوريين وإخضاعهم، وجلبهم إلى بيت الطاعة صاغرين؛ وليس لديه الآن، على الرغم من جميع التحولات التي أصابت الثورة السورية، وحوّلتها إلى حرب للعالم في سورية وعليها، غير هذا الخيار؛ ولن يكون لديه في أي لحظة في المستقبل خيار آخر.
لكنه، ومنذ أمدٍ ليس بالقصير، عندما أخذ يُدرك أن عودته إلى حكم سورية أصبح أمرًا في باب المستحيل، بدأ التفكير بإمكان الانكفاء إلى المشروع الذي اصطُلح على تسميته بـ “سورية المفيدة”، خاصّة أن هناك قوى إقليمية ودولية نافذة ومقررة في الشأن السوري، ترى مصالحها في مثل هذا الخيار. وشيئًا فشيئًا أخذ الأمر ينتقل من التفكير إلى العمل على تمهيد الأرض لهذا المشروع.
يجري الآن العمل على تمهيد الأرض عبر سياسة منهجية، يُنفذها النظام وحلفاؤه، مؤدّاها اقتلاع السكان الأصليين، في مدن وبلدات محدّدة، من بيوتهم وتهجيرهم، وإحلال سكان آخرين غرباء مكانهم، في عملية تغيير ديموغرافي خطرة، هي أقرب ما تكون إلى سياسة التطهير العرقي. هذا ما جرى في حمص حين تمّ تهجير مئات الآلاف من سكانها بين عامي 2011 و2014؛ وهذا ما جرى ويجري العمل عليه في منطقة الزبداني، حيث تُمارس إيران وحزب الله، منذ أكثر من سنة، ضغوطًا هائلة من أجل تهجير سكانها إلى قريتي كفريّا والفوعا الشيعيّتين في ريف إدلب، واستحضار أهالي هاتين القريتين لإحلالهم مكانهم؛ وهذا ما قام به “حزب الله” في بعض المناطق على طول الحدود السورية-اللبنانية إبّان حملته في عام 2013 على مدينة القصير، وفي منطقة القلمون.
كذلك يجري العمل، هذه الأيام، على مواصلة هذه السياسة في محيط العاصمة دمشق، تحت عنوان “تأمين العاصمة”، حيث يُصرّ النظام على تهجير سكان المناطق والمدن التي يُحاصرها ويُدمّر أحياءها وبيوتها، ويحرمها لسنوات طوال من الغذاء والدواء، عبر إخضاعها لما يُسميه “المصالحات” (داريّا والمعضّمية في غوطة دمشق الغربية، وحي الوعر في حمص)، علمًا بأنها من المناطق التي من المُفترض أن يُرفع الحصار عنها بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
لقد عاشت داريّا، كما هو معروف، أربع سنوات من الحصار الخانق والتجويع المُميت من جانب قوات النظام، فضلًا عن القصف شبه اليومي بمختلف أنواع الأسلحة، بما فيها تلك المُحرّمة دوليًا، وتدمير المساكن والبنية التحتية للمدينة بنسبة تزيد عن 75 في المئة، وبحسب إحصاءات المجلس المحلي في داريّا، استمرّ حصارها 1375 يومًا ابتداءً من تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 وحتى 26 آب/ أغسطس 2016. وبلغ عدد سكان داريّا نحو 255 ألفًا وفق الإحصاء الرسمي عام 2007، لينخفض العدد إلى سبعة آلاف مدني ومقاتل حتى 26 آب/ أغسطس 2016، قبل أن يبدأ تفريغها بشكل كامل. ولم يتمكّن النظام، عبر استخدام جميع أنواع أسلحته الفتّاكة، من إخضاعها واستعادتها. وهو، لم يكن بوسعه إخضاعها واستعادتها في هذه الأيام، وترحيل من بقي من أهلها ومقاتليها المدافعين عنها، دون تواطؤ دولي أخذت خيوطه تتكشّف للعيان.
وكما حصل مع مقاتلي داريّا، يجري العمل في هذه الأيّام على إبعاد مقاتليّ المعضّميّة مع عائلاتهم إلى محافظة إدلب، وكأنهم يغادرون إلى دولة أخرى، في مشهد يستفزّ المشاعر. وقد اقتصر عمل الأمم المتحدة، كما في الأماكن الأخرى، على التجهيز اللوجستي لنقل المقاتلين!
باختصار، لا نظن أننا نُبالغ أو نُجانب الصواب، إذا قلنا إن ما يحدث ليس سوى خطة منهجيّة مبيّتة لطرد سكّان المناطق المحيطة بدمشق، وبعض الأماكن الأخرى على الطريق الواصل ما بين دمشق ومنطقة الساحل السوري، ليحلّ محلّهم مستوطنون شيعة من إيران والعراق وأفغانستان، وليتملّكوا أراضيَ وبيوتًا ليست لهم، في مشهدٍ يُحاكي ما فعلته “إسرائيل” حين هجّرت الفلسطينيين، السكّان الأصلاء، وأحلّت محلّهم المستوطنين الذين جلبتهم من جميع أصقاع الأرض. الأمر الذي يُميط اللثام عن خطة خفيّة للتقسيم!؟
يبدو أن الروس ليسوا بعيدين عن دعم هذا الخيار، ذلك أن المنطقة الساحليّة هي المفضّلة لديهم، حيث أقاموا قاعدتهم الجويّة وقاعدة غوّاصاتهم في محيط اللاذقية، وقاعدتهم البحريّة في طرطوس. ويحتاج هذا “الكانتون” المقترح “سورية المفيدة” إلى حمايتهم على المدى الطويل. رابعًا: مشروع “الفدراليّة الكرديّة” إذا كان مشروع “سورية المفيدة” يُشكّل الرافعة الأولى التي تُهدّد وحدة سورية، فليس من شكٍ في أن مشروع “الفدرالية” الكردية التي يُراد فرضها على السوريين، والنزوع الكردي عمومًا نحو الانفصال، يُشكّل الرافعة الثانية لهذا التهديد. وما يجمع بين هاتين “الرافعتين” تطلّعُ كلّ منهما إلى دعمٍ دوليّ خارجي لتمرير مشروعها وإسباغ الحماية عليه.
من المعروف أن بعض الأوساط الكردية النافذة بقوة المال والسلاح، وبارتباطاتها الخارجية، كانت علاقتها بـ “الثورة السورية” ملتبسةً منذ البداية، لا بل كثيرًا ما عملت على إقامة شبكةٍ من المصالح مع “نظام الأسد”، وتبادلت المنافع معه، وأضرّت بقوى الثورة في أكثر من مكان. لا بل، وفي تصرّف مُريب، ومنذ اتّساع رقعة النزاع في سورية في العام 2012، انسحبت قوات النظام تدريجيًا من بعض المناطق الشمالية الشرقية، محتفظةً بمقارّ حكومية وإدارية، وببعض القوات في المدن الكبرى كالحسكة والقامشلي. وبعد انسحابها، عمل “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي على إرسال مجموعات من المقاتلين الذين تلقّوا تدريبًا على يد “حزب العمال الكردستاني” لإدارة المناطق التي يقطنها الأكراد، بعد الإعلان عن إقامة الإدارة الذاتية الموقّتة، وسمح النظام بدخول هؤلاء المقاتلين بهدف استخدام الورقة الكرديّة المسلّحة في مواجهة تركيّا وفصائل المعارضة السورية في آنٍ معًا.
هذه الأوساط، هي التي لعبت الدور الرئيس في تشكيل الرافعة الثانية التي تهدّد وحدة أراضي البلاد، ففي مطلع العام 2015، أقدم “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، الذي يتزعمه صالح مسلم، على إعلان “الإدارات الذاتية” في شمال سورية، والتي ضمّت “ثلاثة أقاليم”: (الجزيرة، وعين العرب/ كوباني، شرق نهر الفرات، وعفرين غربه) ، وبعد عامٍ على هذا الإعلان، اجتمع في 17 آذار/ مارس الماضي 200 مندوب، يمثلون 31 حزبًا كرديًا وأشوريًا وسريانيًّا، في مدينة الرميلان الخاضعة لسيطرة “وحدات حماية الشعب” الكردية، وعقدوا المؤتمر التأسيسي لـ “نظام الإدارة في روج آفا” (غرب كردستان)، تحت شعار “سورية الاتحادية الديمقراطية ضمان للعيش المشترك وأخوة الشعوب” إيذانًا بإعلان “الفدرالية الكردية”.
وتجدر الإشارة إلى أن عقد هذا المؤتمر، والإعلان من خلاله عن هذه “الفدرالية”، قد جاء بعد عدة أشهر من تشكيل “قوات سورية الديمقراطية” التي جرى الإعلان عنها في تشرين الأول/أكتوبر 2015 بإشراف ودعم عسكري أميركيين، لتعمل في ظلّ “التحالف الدولي” لمحاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش). ومن المعروف أن هذه القوات التي تشكّلت في حينه من 20 وحدة عسكرية، والتي عمل “حزب الاتحاد الديمقراطي” على أن تضم بعض العشائر العربية ومقاتلين من السريان للإيحاء بأنها ليست كردية بحت، تخضع في قيادتها عمليًا لـ “وحدات حماية الشعب” الكردية التابعة لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي.
يبدو أن هذا الحزب الذي عمل على إخضاع المجتمع الكردي وفرض هيمنته عليه، قد راهن على أن الولايات المتحدة الأميركية ستمنحه الدعم اللازم لتحقيق حلمه بتكريس “المشروع الفدرالي”، وبإتاحة الفرصة له للربط بين عين العرب (كوباني) وعفرين، أي بين شرق نهر الفرات وغربه، لقاء مشاركته في محاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) تحت لوائها. لكن رهانه هذا باء بالفشل، وبحالةٍ من الخذلان، عندما أطلق جون بايدن، نائب الرئيس الأميركي، تصريحه من تركيا في الرابع والعشرين من آب/ أغسطس الماضي، في اليوم الذي انطلقت فيه عملية “درع الفرات”، وطالب فيه الأكراد في “قوات سورية الديمقراطية” بالعودة إلى شرق النهر، تحاشيًا لاستياء تركيا التي تعدّ هذه المسألة خطًا أحمر لن تسمح للأكراد بتخطّيه تحت أيّ ظرف.
هذا، وكان مايكل راتني، المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، قد أبلغ “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” بأن الأكراد “طلبوا منا الاعتراف بـ (روج آفا/ غرب كردستان)، لكننا رفضنا، وقلنا لهم إن طاولة المفاوضات هي التي تحدّد مستقبل الدولة السورية”.
في جميع الأحوال، مطالبة الأميركيين الأكراد بالعودة إلى شرق النهر لا يبدو أنها تُغلق الباب على “مشروع فدراليتهم” أو “كانتونهم” المفترض، فالاتفاق الذي جرى توقيعه بإشراف الروس في قاعدتهم في حميميم، في أواخر آب/ أغسطس الماضي، بين ممثلين عن قوّات النظام و”وحدات حماية الشعب” الكردية للتهدئة في الحسكة، بعد الصدامات التي نشبت بينهما خلال الشهر المذكور، رأى فيه الأكراد دفعًا لاستكمال سيطرتهم على أغنى محافظات سورية التي تبلغ مساحتها 23 ألف كيلومتر مربع، وتمتلك جميع العناصر الاقتصادية التي تجعل “الكيان الكردي” المفترض قابلًا للحياة. وهناك معطيات تشير إلى أن “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، كان يُحضّر لعملية الحسكة منذ أشهر قبل وقوعها، وأنه عرض في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي على الأميركيين القيام بعمليّة واسعة لتنظيف الحسكة من قوّات النظام، والإمساك بالمربع الأمني في القامشلي، مقابل تعهد الأميركيين بتمويل رواتب الموظفين، غير أن الأميركيين رفضوا الخوض في هذا الأمر. خاتمة وخلاصات: 1- يبدو أن “المسألة السورية” دخلت في مزيدٍ من التشابك والتعقيد نتيجة التغيّرات المتلاحقة، والتبدّلات في المواقع والاصطفافات المحليّة والإقليميّة والدوليّة، وصار من حقّ السوريين أن يُبدوا مخاوفهم من هذا النظام الدولي المنوط به المحافظة على أمن العالم، ويوجّهوا الإدانة لهذا الصمت المُريب الذي رافق حادثة داريّا، ويُرافق حوادث المعضميّة ومضايا والزبداني ووادي بردى والوعر.. إلخ، خاصّةً حين يجري السكوت أو غضّ النظر عن الجرائم التي يجري ارتكابها في هذه المناطق، حيث يجري تخيير السكان بين الإبادة الجماعيّة عبر الحصار المُميت وبين القبول بتسليم أنفسهم واقتلاعهم من بيوتهم وأراضيهم!
2– مع انسداد الحلول السياسيّة، وعجز المتحاربين عن الحسم العسكري، لم يعد متاحًا إلا تكريس مناطق النفوذ انطلاقًا من الوقائع التي فرضتها الحرب الدائرة على الأرض، ومن غير المستبعد أن يكون الهدف الأميركي من وراء التفاهم أو الاتفاق مع الروس الذي جرى الإعلان عنه في التاسع من الشهر الجاري، التوصّل إلى توازنٍ على الأرض، أو تثبيت خطوط الصراع، كتمهيدٍ لحلّ سياسي. والسؤال المشروع هو: إذا كان التقسيم أمرًا واردًا في إستراتيجيات القوى الدوليّة النافذة، فهل ينتظر إنضاجَ الظروف في الإقليم بأسره، وتفاهم القوى الدوليّة على نظام دوليّ جديد؟
3– هناك أحاديث يجري تسريبها عن خرائط يتمّ على أساسها توزيع النفوذ في المنطقة. في هذا السياق يُمكن أن ننظر إلى اتفاق الهدنة الذي أرسته روسيا في الحسكة، وفرض على قوّات الأسد الانسحاب من هناك، الأمر الذي يستتبع، ربما، إقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد وفقًا لمفهوم “الدولة الفدرالية” في سورية الذي طرحه الروس في وقت سابق.
4– لكن، هل يعني هذا أن الشعب السوري سوف يستكين لجميع هذه الخطط التي تُحاك بعيدًا منه، وتتعارض مع مصالحه الوطنيّة، وتُصادر حاضره ومستقبله أيضًا؟ السنوات الست التي مرّت على “الثورة السورية” حتى الآن، والتضحيات الجسام التي قدّمها الشعب، ويعجز التاريخ عن الإحاطة بها، تقول عكس ذلك.
5– لا يتوافر لجميع مشاريع التغيير الديموغرافي التي يُديرها النظام وحلفاؤه فيما يُسمّى بـ “سورية المفيدة” مقوّمات الاستمراريّة والاستقرار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى “الكيان الكردي”. ذلك أنها تتشكّل كجزرٍ في بحرٍ مغاير ورافضٍ لها، الأمر الذي يحول دون تحوّلها إلى حقيقةٍ ديموغرافية مستقرّةٍ ودائمة.
6– يتطلب هذا أن تعمل القوى السياسية والمسلّحة المعارضة ذات التوجه الوطني في المناطق المختلفة على تخفيف الضغط عن المناطق المحاصرة التي تشهد تصعيدًا شرسًا من النظام وحلفائه، في سياق سياسة تهجير السكّان غير المرغوب فيهم ضمن حدود ما بات يُعرف بـ “سورية المفيدة”، مستخدمة آليات عديدة كتمتين وتنظيم اللحمة الداخلية، ومخاطبة العالم والأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان بشكل مستمر، من أجل إفشال إستراتيجيّة إعادة تشكيل ديموغرافيا هذه المناطق وتقسيم سورية.
مركز عمران للدراسات الاستراتيجية
المرصد الاستراتيجي
مروان المعشّر
المجلس الأطلسي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة