عبد الرحمن التّميمي
تصدير المادة
المشاهدات : 3194
شـــــارك المادة
قديماً قالت العرب: "الطَّبع غلب التطبُّع"، وقالت: "العادة أملك بالإنسان من الأدب". وقالوا أيضاً: "العادة طبيعة ثانية". هذه أمثلةٌ عربيّةٌ جاءت عن خبرة وتجربة، فالذي طُبِع على المكر والخديعة، والغش والكذب، والتلوُّن والتقلب، يصعب أن تراه ثقة صادقاً عدلاً -لا يعني ذلك أن الصادق في إصلاح نفسه لا ينجح-، والذي يُخفي خَلِيقة من أخلاقه، أو طبعاً من طباعه، مهما حاول إخفاءها فإنها لا بدَّ أن تظهر يوماً، طال الدهر أو قصر؛ لأن الأخلاق لا تخفى، والتملُّق والتصنُّع والتكلُّف لا يدوم ولا يبقى، كما قال حكيم العرب:
ومَهما تكُنْ عندَ امرئٍ من خليقةٍ ** وإنْ خالَها تَخفَى على النّاسِ تُعلَمِ
ولقد اهتم العرب بهذه المسألة اهتماماً واضحاً، فقد دللوا على أمثالهم بقصص من واقع حياتهم، فمن ذلك ما قاله أحد العرب: دخلت البادية فإذا بعجوز بين يديها شاة مقتولة، وإلى جانبها جِرْوُ ذئب، وهي تبكي، فقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا. قالت: هذا جُِرْو ذئب أخذناه صغيراً، وأدخلناه بيتنا، وأرضعناه من لبن الشاة، فلما كبر قتل الشاة كما ترى، وأنشدت تقول:
بقرتَ شُويهتي وفجعتَ قلبي ** وأنتَ لشاتنا ابنٌ ربيبُ غُذيتَ بدرها ونشأتَ معها ** فمَنْ أنباك أنَّ أباك ذيب إذا كان الطباعُ طباعَ سوء ** فلا أدبٌ يفيد ولا أديبٌ
وهذا أعرابي يذكر لنا حادثة عايشها فيقول: كنت في سفر، فضللت الطريق، فرأيت بيتاً في الفلاة فأتيته، فإذا به أعرابية فلما رأتني قالت: من تكون؟ قلت: ضيف، قالت: أهلاً ومرحباً بالضيف اِنزل على الرحب والسعة، قال: فنزلت فقدمت لي طعاماً فأكلت، وماء فشربت، فبينما أنا على ذلك، إذ أقبل صاحب البيت فقال: من هذا؟ فقالت: ضيف، فقال: لا أهلاً ولا مرحباً، مالنا وللضيف، فلما سمعتُ كلامه، ركبت من ساعتي وسرت، فلما كان من الغد، رأيت بيتاً في الفلاة، فقصدته، فإذا فيه أعرابية، فلما رأتني قالت: من تكون؟ قلت: ضيف، قالت: لا أهلاً ولا مرحباً بالضيف، مالنا وللضيف. فبينما هي تكلمني، إذ أقبل صاحب البيت، فلما رآني قال: من هذا؟ قالت: ضيف، قال: مرحباً وأهلاً بالضيف، ثم أتى بطعام حسن فأكلت، وماء فشربت، فتذكرت ما مر بي بالأمس فتبسَّمتُ، فقال: ممَّ تبسُّمك؟ فقصصتُ عليه ما صار مع الأعرابية وزوجها، وما سمعت منه ومن زوجته. فقال: لا تعجب، إن تلك الأعرابية التي رأيتها أختي، وإن زوجها أخو امرأتي هذه، فغلب على كلٍّ طبعه. وقبل هذا وذاك، يقول الله- تبارك وتعالى -: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}. قال ابن عباس: "هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر". ولقد جاء في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)). والآن نعود إلى السؤال المطروح: لماذا لا يثق الشعب بوعود النظام السوري؟ لا يمكن لأحدٍ من الناس -داخل القطر وخارجه- أن يثق بهذا النظام البعثي الأسدي؛ وذلك لما يلي: الأول: أن طَبْعَ وخَلِيقَةَ هذا النظام هي الزور والكذب، والغش والغبن، والجور والظلم، واللؤم والدناءة، والحقد والعداوة، والبغض والكراهية، والجشع والأنانية، والغَلاظة والفظاظة، والغدر والخيانة، والخسّة والنذالة... وكما رأينا أن العادة طبيعة ثانية كما قال العرب، فكيف يثق المظلوم بالظالم، والمحتاج بالجشع الأناني، والطيّب الرفيق بالفظِّ الغليظ، والوفي الصدوق بالخائن الغدَّار، والعفيف الشريف بالخسيس النذل؟! والثاني: أنَّ الشعب السوري رأى من الأمثلة والمشاهد الواقعية من هذا النظام ما يدلِّل على أنّ كلَّ صفة من الصفات الذميمة المذكورة وغيرها خليقةٌ وطبعٌ من طباع وأخلاق هذا النظام، فكيف يثقون به؟! رأوا كيف أعلن المدعو بشار العفو عن كل المهجَّرين الفارين من ظلمه وظلم أسلافه -إثر دخول الأمريكان دولة العراق- فعاد المهجرون السوريون من الثمانيات إلى بلادهم بعدما أعلن النظام العفو عنهم... فلما دخلوا الحدود السورية تلقتهم الأجهزة الأمنية بالاعتقال والزج في السجون، ولا أنسى -والله- ما قال لي رجلٌ شَيبةٌ رُمِي في زنزانة، ورُمِي ولده في أخرى، لا أنسى ما قاله بعد نزوله من غرفة التحقيق، وقد ضُرِب بالسياط على رجليه، وسمع أقذر المسبَّات، وهو ابن السبعين -وهو من مدينة إعزاز المحاصرة اليوم بدبابات النظام وعناصره الشبيحية والأمنية، فرَّج الله عنها وعن أخواتها من المدن السورية- قال لي: ليت صاروخاً أمريكياً نزل ببيتنا، ونحن في العراق، فأودى بالعائلة جميعها، ولم نعد إلى بلدنا، لنلقى من هؤلاء ما نلقاه. فكيف يثق الشعب بهذا النظام؟ وقد خرج وزراؤه وإعلاميوه داعين المهجّرين إلى تركيا من أهالي جسر الشغور وما حولها بأن يعودوا إلى قراهم وبيوتهم؛ لأنَّ الأمن والسلام ينتظرهم... فلما صدَّق ذلك بعض العوائل، كانت النتيجة قتل عائلتين عائدتين من تركيا، فكيف يثق الناس بهذا النظام؟ والثالث: أن هذا النظام مسلسل بالجرائم والآثام، ومؤصَّل بالسيِّئ من الأخلاق، وما كان أبوه صالحاً، فطيبُ وصلاحُ الآباء ينفع الذرية والأبناء، كما قال البارئ - جل وعلا -: {وكان أبوهما صالحاً}، وبالمقابل فشناعةُ الآباء وقذارتُهم وسوءُ أخلاقهم تنسحب إلى الذرية والأبناء، فانتقلت جرائم الأب حافظ وأخيه رفعت إلى الابن بشار وأخيه ماهر ومَنْ حولهما... وبعد هذا لا ننسى قوله- تبارك وتعالى -: {والذي خبث لا يخرج إلا نكداً}. فكيف يثق الشعب بمن كان أبوه فاسداً طالحاً، مجرماً قاتلاً، طاغية ظالماً... ؟! والرَّابع: أن حال هذا النظام مثل حال الراعي الكذَّاب الذي أوصله الكذب على أهل قريته إلى أن تركوه في النهاية فريسة للوحوش والذئاب: وعد الرئيس بالإصلاح؟ فجاء القتل والسجن والاعتقال، وعد برفع حالة الطوارئ، فارتفع عدد القتلى وزاد، يقول: إن التعديل في الدستور يحتاج إلى أيام أو شهور... وقد غير الدستور ليفصِّله على عمره في لحظات... فكيف يثق الشعب بالراعي الكذاب؟! والخامس: أنَّ هذا النظام غُذِي من خيرات البلاد، ورشف من حليب أغنامها وأبقارها، ولكنه لم يشعر بعد ذلك بالانتماء لهذا الشعب، ولم يجد في نفسه الحبَّ والرفق والرحمة بأطفاله وشيوخه ونسائه، بل وزروعه وثماره وحيواناته، فها هو يقتل الأطفال ولم يشعر أنهم منه، ويقتل النساء في بانياس وغيرها ولم يشعر برابطٍ أخوي نحوهنَّ، ويقتل الأبقار في جسر الشغور ولم تتغير طباعُه بألبانها، وأشعل النيران في زروع الفلاحين، ولم يشعر بأثر غذائها الذي نبت جسمه وقوي من حبوبها وثمارها! أجل لن ينفعه ذلك، حتى ينفع جِرْوَ الذئب عنايةُ الأعرابية وحليبُ شاتها. ولذلك تجد الشعب السوري يواصل انتفاضته، وتتوسع مساحة مظاهراته، وتأتي في الليل والنهار... مع وعود هذا النظام بالإصلاح، ورفع حالة الطوارئ... فلا ثقة بوعود بشار؛ لأن طبعه وخلقه الكذب والزُّور، وتاريخه مسلسل بالسيِّئَات والشرور، وكما قال العربي:
كل امرئ صائر يوماً لشيمته *** وإن تخلَّق أخلاقاً إلى حين
أحمد محمد نعمان مرشد
العصر
عمار الحلبي
أسامة الملوحي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة