أكرم البني
تصدير المادة
المشاهدات : 3086
شـــــارك المادة
لا يكفي تعريف الثورة السورية بشعاراتها عن الحرية والكرامة، أو بصور الاستبسال المذهل والمقارعة المكلفة والمستمرة منذ أكثر من عام بين شعب ينتفض لنيل حقوقه وبين نظام لا يتوانى عن استخدام أشنع وسائل القهر والتنكيل وأكثرها ضراوة للحفاظ على مواقعه وامتيازاته؛ بل برصيدها المعرفي الثمين وبما تكرسه من مفاهيم وقيم مختلفة في الحقل السياسي، ولنقل ثقافة بديلة تؤسس لمصادر جديدة للشرعية تنقض الماضي الاستبدادي وتعيد الاعتبار للمعنى الحقيقي للسلطة والمسؤولية.
هي شرعية تستمد من الوعي الديمقراطي وحقوق الإنسان جذورها، وتضع الجميع أمام مسار جديد، عنوانه إعادة صياغة علاقة صحية بين المجتمع والدولة والسلطة تقوم على احترام الحقوق والحريات والمشاركة، وتعلن فك ارتباط نهائي مع مصادر الشرعية القديمة التي حكمت بموجبها سورية لعقود من الزمن. منذ أول انقلاب عسكري حصل في مطلع الخمسينيات نستطيع القول إن مجتمعنا السوري قد ابتلي بمنطق خاص في فهم السلطة والمسؤولية فرضه مدّعو الوصاية على الناس والوطن، وجوهره ليس التنافس الصحي لاختيار الأفضل في إدارة المجتمع والأكثر كفاية للتعبير عن مصالح فئاته وتكويناته المتعددة، بل مبدأ القوة والجبروت ووسائل القمع والإرهاب وتقاسم المنافع والمفاسد. وحين تختار وتستند النخبة السياسية الحاكمة إلى شرعية القوة لحفظ سلطتها وإعادة إنتاجها، فالغرض أن يبقى الناس أسرى الخوف والرعب ومبعدين عن التدخل في الشأن العام والمشاركة والمراقبة والمحاسبة. لكن ومن أجل تسويغ العنف المادي والقمع العاري لا بدّ من غطاء شرعي توفره عادة عبارة "الشرعية الثورية" المستقوية بشعارات سياسية وأيديولوجية، مرة بالتغني بإنجاز مشروع تنموي كبير، ومرة بحجة النضال القومي وإقامة الوحدة العربية، ومرة بدعوى مركزية القضية الفلسطينية وأولوية مواجهة الصهيونية وتحرير الأرض من الاحتلال، ومرة بمحاربة المؤامرات والأخطار التي تحيكها دوائر الغرب الاستعمارية، ومرة بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية في مواجهة احتمالات الفوضى والتذرر، ومرة بالتخويف من وصول تيارات إسلامية متطرفة إلى سدة الحكم وتنمية مخاوف بعض الأقليات منها والمبالغة في الترويج لمظاهر التضييق والتنميط المهددة لهوية هذه الأقليات وحقوقها وطرق عيشها! لم يتوقع السوريون عندما بايعوا حكومات ما بعد الاستقلال أنها ستكون مقدمة للاستبداد، لم يخطر على بالهم سوى الانتصار لسلطة قومية ووطنية حتى إن صنعتها انقلابات عسكرية وأدوات أمنية مفتونة بلغة القمع والغلبة، وكان لا بدّ أن تجري مياه كثيرة حتى يدرك الناس أن الحكومات السورية المتعاقبة لم يكن يهمها سوى تعزيز امتيازاتها وامتيازات المحيطين بها، وأنها لن تفعل شيئاً سوى المحافظة على ديمومة تسلطها، وبالتالي إذ نجحت النخب الحاكمة بداية، في توفير قدر من التغطية السياسية وحد من القبول الشعبي وتشكيل حالة من الرضا المجتمعي بها، إلا أن الإخفاق والفشل في إنجاز ما ادعته وما وعدت به وضع شرعيتها موضع النقض والتغيير، وشكل أهم العوامل الحافزة للثورة السورية ومدها بعزم النهوض والمثابرة والاستمرار. فيما مضى سعت السلطة لتلبية بعض الحاجات الحيوية للناس؛ كتحسين المستوى المعيشي، وتوفير فرص العمل والتعليم والخدمات الأساسية، لكن لم يمض وقت طويل حتى ذاب الثلج وبان المرج وظهر لكل ذي عين كيف يستحوذ أصحاب الشعارات الطنانة -لقاء جهدهم في رفع هذه الشعارات- على مصادر الثروة، وكيف ينساقون إلى إهمال حاجات المواطنين بل محاولة إقناعهم بأن الاستقرار والأمن هما أهم من الكرامة والحرية، وأن المرحلة الخطيرة التي تمر بها البلاد في مواجهة مطامع القوى الخارجية تتطلب شد الأحزمة على البطون وامتهان الذل والتعايش مع القمع والتمييز والاضطهاد والتضحية بمصالحهم أمام مصالح الوطن، بينما هذا الواجب لا يعني الزعماء المتنفذين بل يزيد من اندفاع شهواتهم إلى تكديس الثروة وتعزيز السلطة وتفريغ المجتمع من كفاءاته ومن قواه الوطنية الشريفة والحية. وبعد تعدد التجارب العاجزة، شهدنا انحداراً لافتاً في خطوات التنمية وفشلاً متكررًا في إنجاز الخطط الخمسية وتداعي دور قطاع الدولة حتى صار عبئاً على المجتمع والاقتصاد، ربطاً بتنامي حالة الفساد ونهب الثروات الوطنية، لتغدو ظاهرة الفساد ماركة مسجلة باسم السلطة السورية أبرز تجلياتها نمو الروح الانتهازية وتسلل الشخصيات المريضة إلى مواقع القيادة وإلى المناصب السياسية والإدارية، خالقة من حولها عالماً فاسداً على صورتها ومثالها، لتغدو البلاد كما لو أنها تدار من قبل شبكة مترامية الأطراف، لا هدف لها ولا غرض سوى تسخير الصلاحيات ومواقع المسؤولية لخدمة الامتيازات الخاصة وسرقة المال العام. عادة ما تنجح النخبة الحاكمة في توظيف الشعارات الوطنية عن المقاومة والتحرير لسحق دعاة الحرية والديمقراطية، لكنها اليوم أمام زخم الثورة أخفقت وكشف عنفها المفرط حقيقة أن تمظهرها بالمظهر الوطني الحريص، هو سلاح لضبط الأوضاع الداخلية وليس للمواجهة في الخنادق وساحات القتال، أو أشبه بحصان تمتطيه لتصل إلى مآربها في حماية ما جنته من مكاسب ومغانم وتعزيز أسباب سلطانها، وأظهرت في التركيز على دورها في حماية الاستقرار في المنطقة، أنها إنما تستند في ادعاءاتها عن الممانعة والمقاومة كي تتوسل رضا بعض الأطراف الإقليمية وخاصة إسرائيل! الثورة السورية اجترحت حضورها في مواجهة هذه المنظومة السياسية البالغة التعقيد التي تحكمها شعارات مواجهة المخططات الصهيونية والمقاومة وتحرير الأرض المحتلة، ونجحت بصدقيتها وحساسيتها الوطنية في الرد على محاولات الطعن بها، وعلى الدعايات التي تصور ما يجري على أنه أفعال متآمرين ومندسين يرتبطون بأجندة خارجية، إمبريالية وصهيونية، غرضها النيل من الموقف السوري الممانع. واستدراكاً، ليست المشكلة في أن تكون المسألة الوطنية وتحديات الخارج منطلقاً لفكر سياسي ما ومستقره، بل المشكلة حين توضع إشارة مساواة بين الوطن والسلطة، ويجري اعتبار أي مساس بمقومات سيادة هذه السلطة وأسس سيطرتها هو مساس بمقومات البنية الوطنية وقدرة المجتمع على المواجهة، بما في ذلك استسهال توجيه الاتهامات بالعمالة والخيانة بحق المعارضين واعتباره عدواً للوطن وأحد أدوات الهجمة الإمبريالية والصهيونية كل من يعترض على سياسات السلطة أو يناهضها! في الجانب الآخر، فإن النخبة الحاكمة التي قدمت نفسها بصفتها نخبة ذات رسالة قومية، والتي بدعوى معالجة الوضع الممزق للأمة العربية، تمكنت من تسويغ مختلف أشكال الاستئثار وتشديد القبضة القمعية على المجتمع والتحكم بثرواته، لم تعد تستطيع اليوم بعد النتائج المحبطة والمخجلة التي وصلنا إليها قومياً، إعادة إنتاج شرعيتها السياسية كما كانت تفعل سابقاً لتبرير استمرارها في سدة الحكم وما تقوم به، ولم تحول النضال القومي إلى ما يشبه الدفاع السلبي عن مقومات الدولة القطرية فحسب، بل انتقل أهل الحكم اليوم إلى شن هجمة محمومة من الاتهامات بالعمالة والخيانة ضد الدول العربية بسبب تدخلها تحت وطأة الضغط الأخلاقي للدم المراق، في معالجة الحالة السورية، فضلاً عن أنها لم تتوان عن تعزيز تحالفاتها الإستراتيجية مع دول تطمح إلى مزيد من النفوذ في المنطقة على حساب العرب ومصالحهم، والنتيجة انهيار دعايتها الأيديولوجية القومية وانحسار الرداء الذي دأبت على ارتدائه، وخير دليل أن الألوف المؤلفة من قواعد حزب البعث وكوادره، خاصة في المناطق التي شكلت فيما مضى الخزان البشري للفكر القومي، في حماة وحمص ودرعا ودير الزور وغيرها، هي اليوم من يشارك في الاحتجاجات والمظاهرات ومن يحمل الهم الديمقراطي ولواء الحرية والكرامة في مواجهة الحملة الأمنية والعسكرية المستمرة! كانت السلطة فيما مضى تحتاج إلى دعاية أيديولوجية مغرضة تقول إن رسوخ المجتمع واستقراره هو بوابة الأمان، لكن هذه الدعاية انهارت جراء انكشاف أساليب السيطرة المتخلفة من قمع عار وفساد ومن تفريط بوحدة المجتمع عبر سياسة منظمة تعمل على تأليب فئات ضد أخرى واستيلاد النزعات الطائفية والإثنية والعشائرية لتسهيل إدارتها وتطويعها، وجراء انفضاح دورها في تقسيم الشعب إلى طوائف وفئات وإقناع كل منها بأن أجهزتها هي ضمانة الحماية من اعتداء الآخرين، كي تبرر دورها التسلطي على أرضية الحفاظ على الأمن والاستقرار. لقد قبل السوريون الاستبداد وتكيفوا لوقت طويل مع مزاجيته، على أنه جزء من ضريبة الاستقرار، وبمعنى آخر فإنهم منحوا السلطة الثقة المطلقة في الحفاظ على أمنهم دون تقدير للآثار السلبية التي بدأت تظهر حول حقيقة وحدتهم الوطنية ومعاني الاستقرار المجتمعي، انعكاساً لما قامت السلطة به في توليد الارتباطات المتخلفة من قبلية وطائفية ومناطقية، ومساهمتها في إحياء شبكات من المصالح عبر العلاقات العشائرية والدينية! يخطئ النظام السوري حين يعتقد أن بإمكانه إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء وتفادي التغيير بالتحايل والالتفاف أو بالحسم الأمني والعسكري واعتبار ما يجري مجرد أخطار عابرة وطارئة تزول في حال ردعها وكسر إرادتها أو احتوائها وامتصاص زخمها، والحال أنه لا يمكن القفز بعد اليوم وبعد عام من الثورة، عن استحقاقات باتت نوعية لحياة المجتمع السوري ومستقبل تطوره، أهمها فك الارتباط بين الحالة الراهنة وبين مصادر الشرعية القديمة، وإرساء مفهوم جديد عن الشرعية تستمد حضورها من نيل رضا الناس وقبولها وحرية اختيارها، وليس من أيديولوجية أو دين أو مشروعية ثورية، وجوهرها إحلال القراءة النسبية للأمور في حقل السياسة مكان التعبئة الشمولية والإطلاقية، وتكريس التراضي والتوافق في بناء عقد اجتماعي يضمن للجميع حقوقهم وحرياتهم، محل قواعد التسلط والاحتكار والإلغاء، وتهدف في المحصلة لإعادة الناس إلى السياسة وفتح المجال أمام المشاركة الطبيعية للجميع، وهذا ينعكس أيضاً في قراءة جديدة لعلاقة السلطة بالدولة، بحيث لا تغدو هذه الأخيرة مجرد أداة طيعة بيد أهل الحكم بل هي ملكية عمومية للجميع تضمن كفاءة الأداء على حساب الارتهان السياسي. إن الهدف العميق من الثورة في الخصوصية السورية هو إعادة رسم العلاقة الصحيحة بين السلطة والديمقراطية والدولة، فهذه الأخيرة لا تتطور ولا تتقدم إن لم تعتمد على مجتمع حي متحرك ويمتلك حريات ثابتة وقدرة على التجدد، ثم بعد أن كانت الدولة مملوكة من قبل سلطة تحوز صلاحيات مفتوحة وقدرات لا حدود لها على التعسف تحت ذرائع أمنية وسياسية وأيديولوجية، نجد أن الثورة خلقت تعريفاً جديداً لدولة خاضعة لصلاحيات وواجبات عمومية وتضع نفسها في خدمة المجتمع وليست في خدمة سلطة قابلة للتداول. التاريخ لا يكاد ينتهي في زمن إلا ويبدأ مجدداً في زمن آخر، والتغيير القادم في سوريا أياً كانت صورته وحيثياته لن يكون أكثر سوءاً مما نعيش، فحصاد الشعارات البراقة طيلة عقود لم يكن إلا الهزائم والانكسارات ومزيداً من التردي والفساد وقهر الإنسان وإفقاره، وقد آن الأوان لإزالة هذا المستنقع الآسن وفتح صيرورة جديدة، لعل أهم ما فيها تقدم دور البشر في تقرير مصيرهم وصياغة مستقبلهم دون إقصاء أو وصاية!! نعم، إن الثورة السورية تستند اليوم إلى ضرورة لا غنى عنها وهي تنامي دور الناس ورغبتهم في التخلص من ثقافة قديمة بين الحاكم والمحكوم والرد على تاريخ من الركود ومن إطلاق الشعارات لتسويغ الاستبداد، فبعد الثمار المرّة التي حصدناها وما وصلت إليه حالنا، لم يعد من المقبول تكرار هذه المعادلة، والنظر إلى الشرعية على أنها مجرد شعارات براقة ووعود وردية، لتسويغ القمع والإذلال. يقول الشباب السوري الثائر: إن زمن الوصاية قد انتهى وموسم الأيديولوجيات قد انقضى، وإن دولة المواطنة والديمقراطية هي مستقبلنا، وإن ما هو جيد سيمكث في الأرض أما الزبد فيذهب جفاءً!
المصدر: الجزيرة نت
إياد عيسى
حسين عبد العزيز
عبد المنعم زين الدين
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة