محمد أبو زهرة
تصدير المادة
المشاهدات : 7554
شـــــارك المادة
1ـ الإيثار معناه: أن يقدِّم غيره على نفسه في منفعة يبتغيها، ومصلحة يريدها وقد يتمناها ولكن عند اختلابها يقدِّم غيره لمحبة لمن يعطيه، أو لإرضاء الله - تعالى -، أو لوقاية نفسه من الشح، وليكون له الفلاح والفوز عند الله تحقيقاً لوعده الكريم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
أو لصلاح الجماعة وتعاونها وتضافرها في تحقيق غاياتها، فإنه من المقررات الشرعية والاجتماعية أن من يعيش في جماعة متحابة تربطها المودة الواصلة، والرحمة الجامعة، لا بدّ أن يقتطع كل واحد منها جزءاً من رغباته ليتلاقى الجميع، على ما يصلح الجماعة، ويعلي شأنها، وذلك لا يكون إلا بالإيثار، أو الاستعداد له لتتلاقى النفوس وتأتلف، وتجتمع على رضوان من الله، ولا يكون التنازع، ولا تتولد الإحن. والأثرة: أو كما يعبر بعض العلماء: الأنانية، تكون بألا يفكر إلا في دائرة شخصه، ففي كل ما يطلب لا يكون في قلبه إلا أنا، فأنا قبل كل شيء هي الحكم، وهي الفيصل، وهي الغاية، كل ما في الوجود يريد أن يكون مسخراً لنفسه، لا أحد يشترك معه فيما يبتغيه، بل إنه لينغض نفسه، أن ينال الناس ما ينال، ويصلوا إلى ما يصل إليه لا يريد مشاركاً فيما تحت يديه، ولا أن يكون ما عند غيره مماثلاً لما عنده، فهو لا يريد إلا الانفراد في الخير، وفي تحقيق الرغبات، وهوى الأنانية يسيطر عليه، فهو يحقد على من يكون مماثلاً له أو يزيد عليه من الماضيين من له فضل حقد على من ذكره، وإذا قيل له إن فلاناً من أهل جيله له فضل في كذا حرك ذلك في نفسه عوامل الألم، وإذا كان يعمل في أمر جامع للأمة لا يحب أن يكون واحداً في صنعه ممن جمعهم الأمر، بل يريد أن يكون دائماً فوقهم لا نظير له بينهم، وقوله الفصل، وعمله هو الحسم، وهكذا يسيطر عليه قول أنا! إذا فعل أو تكلم، ولا يكاد المتتبع له أن يسمع كلمة: نحن، إلا إذا كانت فخاراً أو تعظيماً لنفسه، ولا تكون للجماعة معه أبداً. 2 ـ وإذا كان الإيثار هو تقديم الخير للجماعة، وتفضيل غيره على نفسه، وتقديم من يكون تقديمه خير للجماعة، لأنه ذو فضل لا يبخل به على قومه، فإنه إذا ساد في جماعة كانت هي الفاضلة، وكانت هي التي تسير في الطريقة المثلى، وتتقدم متضافرة رافعة رأسها فوق الأمم. ومن الحق علينا أن نقول إن من النفوس العالية من ترى في الإيثار إشباعاً لها، وتحقيقاً لرغبة من رغباتها، إذ أنها لفنائها في المعنى الجماعي، وفي الإلف الاجتماعي تجد لذتها في أن تنفع جماعتها وتجد الخير لها في أن تؤثر من معها بالعيش الهنيء، والنعمة الرافعة، والعزة الدائمة، فلذتها في نفع الآخرين أعلى من لذة الأناني بتفضيل نفسه، واحتِجان كل اللذائذ لنفسه، فلذة عمر بن الخطاب فاروق الإسلام في أن يحرم نفسه من الطعام ليعيش كما يعيش الفقراء إبان أزمة جائحة اعترت العرب أقوى من لذة الأناني من قصر اللذائذ على نفسه، وفي محيطها. وإذا ساغ لنا أن نسمي فعل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - في هذه الحال: أثره، فهي: أثرة الإنسان الكامل نبتت من علو المعاني الإنسانية عنده، حتى صارت عنده لذة الحرمان لنفع غيره، وصارت لذته معنوية مانحة وليست لذة مادية مانعة، واللذة المعنوية أدوم بقاء وأعم نفعاً، وأعظم وهي التي تتحقق مع الإنسان الكامل، فبينما الأنانية المادية تتفق مع لذات القردة والخنازير وغيرها من الحيوان، في العالي منه والنازل، وخير للإنسان الكامل أن يكون محروماً من لذات المادة، من أن يكون خنزيراً يخترعها، واعتبر ذلك بحال الشهيد المؤمن الذي يقدم نفسه لفداء قومه وأهل دينه، إذا قلت إنه في إيثاره لقومه، وتقديم نفسه فداء لهم هو في ذلك أثر اختار لنفسه مع كونه مؤثراً لقومه، فإنك لا تعدو الصواب ولا تجانبه، لأنه أراد ما عند الله، وأراد نفع الجماعة، وأي مأرب أعلى لذي المروءة والدين من أن يرى قومه ينتفعون بنعمة وجوده بينهم، وكذلك كان يفعل المجاهدون الأولون، يرون في الشهادة لذة فيطلبونها ويحبونها، لأنهم يريدون النفع لأقوامهم وليتحقق فيهم قول الله - تعالى -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171]. 3 ـ وإن الإيثار خلق الإسلام، دعا إليه، وحث عليه، ومدح الذين يتحلون به راجين ما عند الله - تعالى -، انظر إلى قوله - تعالى - في وصف المؤمنين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. أي: أنهم يقدمون الطعام إلى غيرهم من المحاويج واليتامى، مع حبهم له ورغبتهم فيه، ولكنهم يؤثرون غيرهم، ويرون في ذلك لذة معنوية، وعلواً نفسياً. ولقد وصف الله - تعالى - الأنصار الذين آووا ونصروا بأن أخس أوصافهم هو أنهم يؤثرون على أنفسهم، فقال - تعالى -: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. والآية الكريمة تشير إلى أن الإيثار ينشأ من قوة النفس وسيطرتها على الأهواء والشهوات، لأن الإيثار حيث لا يحس بالحاجة، والإحساس بالحاجة ضعف في النفس يولِّد الأثرة، فالأثرة تنمو في ظله، ولذلك قال - سبحانه - بأبلغ إشارة وأدق عبارة: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا...} [الحشر: 9]. وإذا كان الإيثار قوة نفس غالبت الشح فانتصرت عليه، فالأثرة ضعف نفسي أو هي ثمرته، إذ يغلب عليها الشح ويسيّرها ويوجهها إلى دركة الحياة المادية التي تهوى معها النفس. ولقد قال الله - تعالى - في وصف الأبرار الأقوياء على نفوسهم: {وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ... } [البقرة: 177]. وهكذا نجد الإيثار قوة في النفس، وإحساساً بحق الناس، وهي غنى النفس الذي هو أعلى درجات الغنى، كما قال - عليه السلام -: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)). ولقد أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - أول تعاون جماعي على الإيثار لا على الأثرة، لأن الإيثار يكون معه المودة والمحبة والائتلاف، والاختيار للخير دون الإجبار عليه، وكان ذلك التعاون الجماعي الذي نظم به النبي - صلى الله عليه وسلم - الجماعة المؤمنة، في أول إقامة الدولة الفاضلة، هو بالإخاء بين المهاجرين والأنصار، والأنصار بعضهم مع بعض، والمهاجرين بعضهم مع بعض، وبذلك الإخاء في الله والمحبة في الله، وطلب رضوانه كان الإيثار، حتى إن الأنصاري كان يشاطر أخاه المهاجر، ماله، بل هم الرجل منهم يكون له زوجتان أن يطلق إحداهما ليتزوجها أخوه المهاجري بعد انتهاء عدتها. وبذلك العمل الجماعي الذي سنَّه محمد - صلى الله عليه وسلم - نظاماً قائماً لا ينتهي؛ بين كيف يكون الاشتراك في الخير، إذا قام على الأخوة الواصلة، والمودة الراحمة، من غير أن يكون حقد، ولا تحاسد ولا تباغض بل يكون التلاقي على طاعة الله وطلب ما عنده، من غير أضغان ولا إحن، ولا عداوات ولا بغضاء. 4 ـ وإن الإيثار يكون به بناء الجماعات، فإذا تحلى به القائمون على الشئون العامة والخاصة، والآحاد في ذات أنفسهم، فإن الأمور تستقيم على ميزان الحق والعدل والنفع العام، فإذا كان القوامون على الأمور التي يعود نفعها على الجماعة أو بعضها يؤثرون منفعة الناس على أهوائهم ومنافعهم الخاصة، فإنه يفتح العمل أطيب الثمرات، وتقوم المحبة بين الناس، فلو أن رئيس عمل ينسى نفسه، ويلاحظ القيام بالخدمة الكاملة في عمله ويشعر بأنه جاء لخدمة الجماعة، وتقديم أكبر قدر من الخير يستطيعه، لأنتج إنتاجاً حسناً، وما اضطربت المقاييس أمام الذين يعملون في رياسته، وعليهم أن يقوموا بحق طاعته. ولو أن نظرة فاحصة اتجهنا بها إلى تعرف أخلاق القوامين على المصالح العامة، وأردنا أن نضع مقياساً للصالحين، ومن دون ذلك لوجدنا أن أدق مقياس هو ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن الأمير الصالح وغيره فقال: ((الأمير الصالح من يعمل للمؤمنين، وغير الصالح من يعمل لنفسه)) أو كما قال، أي أن: الأمير الصالح هو الذي يتجه في عمله إلى تحري مصلحة المؤمنين غير ناظر إلى مصلحته الخاصة وإن هذه النظرة هي الإيثار، ونظرة الأمير غير الصالح هي الأثرة، أو الأنانية، وإنك لترى ذلك واضحاً في أعمال الراشدين - رضي الله عنهم -، وأعمال أولئك الذين ظلموا من الأمراء في الماضي وسقوا الأرض الإسلامية بنجيع الدماء، ووضعوا سيوفهم على عواتقهم فأصابوا بها مواضع البرء ومواضع السقم، كانوا ممن عملوا لأنفسهم، ولم يراعوا مصلحة الكافة، اقرأ سيرة عمر بن عبد العزيز، واقرأ أخبار الحجاج بن يوسف الثقفي، وطبق المقياس الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنك تجده، واضحاً في عمل الرجلين، فعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - كان أميراً مصلحاً، صالحاً، والحجاج بن يوسف الثقفي كان غير صالح ولما مات وجدوا في محبسه عشرين ومائة ألف لا يعرف واحد منهم لماذا حُبس... وإننا إذا تركنا الأثرة في الماضي وما يتصل بها من منازع، وطبقنا قاعدة الإيثار، فإنا نجد النجاح الكامل في تطبيقها ونجد أنه حيثما كانت الأثرة كانت مفسدة الأمور، وكان الظلم المردي وأكل أموال الناس بالباطل وضياع الحقوق، وفساد الذمم، وأكل الرشا، وما من عمل يغلب الإيثار عليه إلا استقامت معه الأمور، وساد العدل، وقامت دعائمه على أسس صالحة قوية البنيان، ثابتة الأركان. 5 ـ وإن العصور التي تجد فيها الشح المطاع، والهوى المتبع، وتعصب كل امرئ لرأيه فاعلم أنها الأثرة تسير رافعة رأسها بين رجال الفكر، وذوي الرأي، وعندئذ تكون الفتن، فإن من الناس من تدفعهم أثرتهم إلى الاستمساك بما يبدو لهم ولو كان خطأ، لأن تعصبه لفكرة تحت سيطرة الأثرة المقيتة يجعله لا يتنزل عن فكره، ولو كان محض الباطل، ومهما تكن حجة من يخالفه واضحة بيِّنة فإنه لا يترك فكره ويحسب أنه تنازل عن شخصه، ونقص في تفكيره، ويحمله على أن يكون من الذين قال الله - تعالى - فيهم، وقد رأوا الآيات واضحة، فقد قال فيهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ...} [النمل: 14]. وإنك إذا تتبعت أسباب كفر الكافرين، وتعنُّت المستكبرين، وجنوح الأكثرين إلى الباطل، بعد أن تظهر ظلماته، لوجدت الأثرة هي التي سيطرت فاختفى الإيثار، وسيطر حب الذات. وإن الأثرة تختم على القلب فلا يشرق فيه نور، وتعمى الأبصار، فلا ترى، وتجعل في الآذان وقرأ فلا تستمع، فلا يعلو لحق، ولا يصغى لصوته، ويكون ممن يقول الله - تعالى - فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ} [البقرة: 206]. وإن أي عمل لا يمكن أن يستقيم إلا كان الإيثار باعثه، ورغبة النفع هي الدافع. 6 ـ وإنه لأجل تكوين جماعة فاضلة يكون آحادها ممن يستمعون القول، ويتبعون أحسنه؛ لا بدّ من تربيتها على الإيثار فيأتلف الآحاد، ويكون الاجتماع القائم على الإخلاص. ولا يربَّى الإيثار في النفوس إلا بمنع سيطرة الأهواء والشهوات، وجعلها الحكم الذي ترضى، فالأهواء والشهوات قرينات للأثرة، وهي لا تتربى إلا في أحضانها، وبغذاء من لبنها، فإن رأيت جواً تسيطر فيه الأهواء وتثار فيه الشهوات، فاعلم أنه الجو الصالح للأثرة المخربة للجماعات المفسدة للأمم التي تهدم كل قائم، وتفرق كل مجتمع، وإن القرآن الكريم يصرح بأن فساد الأمم يكون بسيطرة الأهواء والشهوات، فقد قال - تعالى -: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. وحينما رأيت نظاماً يحيي إثارة الأهواء والشهوات، فاعلم أنه نظام قد احتوى على عوامل هدمه، ومقوضات بنائه ومفرقات جمعه، ومآله الانهيار لا محالة، لأنه يربي الأثرة، ويمنع الإيثار. إن الإيثار لا يوجد إلا مع الإخلاص، والإخلاص نور القلوب تشرق فيه الحكمة وتستقيم المقاصد، اللهم هبنا الإخلاص في أقوالنا وأفعالنا، ومقاصد حياتنا، وجنبنا الأثرة في الآراء التي تمحق صالح الأعمال، والأثرة في الأفكار التي تجعلنا معجبين بآرائنا، ولو كانت هادمة لكل خير، والأثرة في إدارة شؤون الكافة التي تفسدها، اللهم هبنا الاستقامة، وجنبنا الاعوجاج، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: رابطة العلماء السوريين، مجلة لواء الإسلام، العدد الرابع السنة 24، ذي الحجة 1389هـ.
حسان الجاجة
فايز الصلاح
إبراهيم الحقيل
عماد الدين خيتي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة