مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 3986
شـــــارك المادة
ملاحظة: استطلتُ هذه المقالة بعد كتابتها فترددت: هل أنشرها قطعة واحدة أم أقطّعها وأنشرها في ثلاث مقالات؟ ثم وجدت أنها مقسّمة أصلاً إلى مقاطع مستقلة، فقررت نشرها كاملة وترك الخيار للقراء، فمن شاء قرأها جملةً واحدة ومن شاء قرأها على وجبات، ومن شاء الاختصار فإن في نهايتها خلاصة موجزة لما فيها من أفكار.
-1-
قرأت تعليقات لا تُحصى على عمليات الجيش الحر في المدن، كُتب أكثرها بلهجة النقد والإدانة لأن الجيش الحر يدخل -كما يقولون- في مغامرات غير محسوبة، فهو ينتشر في المدينة ويعلن سيطرته عليها، ثم يعجز عن الاحتفاظ بها ويضطر إلى الانسحاب منها تاركاً سكانها للموت والعذاب والدمار والخراب. ثم تصل تلك التعليقات إلى النتيجة المنطقية الوحيدة بعد تلك المقدمة الحزينة: ينبغي على الجيش الحر الابتعاد عن المدن، وعليه أن لا يورّط المدنيين في المعركة لأنهم يدفعون الثمن الباهظ بعد كل هزيمة للجيش الحر ويصيبهم البلاء بعد كل انسحاب. في الماضي كان لي رأي مشابه، وكنت أدعو إلى ابتعاد المجاهدين عن التجمعات السكانية لحماية المدنيين من انتقام النظام. ولكن أيّ ماض هذا الذي أتحدث عنه؟ لقد صار اليوم بعيداً، غَيّبته عن عالم اليوم شهورٌ طويلة تغير في أثنائها كل شيء. كانت مواجهتنا مع النظام ثورة شعبية سلمية يخرج فيها الأحرار بالمظاهرات فيقابلهم المجرمون بالقنص والقتل والاعتقال، فنشأت مجموعات من مجاهدي الثورة كانت في البداية قليلة العدد ضئيلة الحجم، وكادت تقتصر وظيفتها على حماية المدنيين فلا تتعداها إلى سواها. في تلك المرحلة لم يكن مقبولاً ولا معقولاً أن يسبب المقاتلون الأذى للمدنيين العُزّل وهم إنما وُجدوا لحمايتهم، فكان سائغاً أن يَدْعوَهم الداعون إلى الابتعاد عن التجمعات السكانية حتى لا يلحقها الأذى بسببهم. وهم صنعوا ذلك فعلاً، فانتشروا في أطراف المدن، في المزارع والبساتين والجبال. -2- في وقت لاحق انتقلنا إلى طور جديد. نعم، كان الانتقال بطيئاً ولكنه كان يمشي بثبات في اتجاه واحد، وصولاً إلى ما دأبت على تسميته في الآونة الأخيرة باسم "حرب التحرير".
في تلك المراحل التالية تغير الواقع، وصار مطلوباً من المدنيين احتواء المنشقين والمتطوعين وتوفير ما يحتاجون إليه من مأوى وغذاء وكساء ودواء، لأنهم إن لم تحضُنْهُم حاضنةٌ شعبية لا يستطيعون البقاء. هذا معناه أنني أخالف الذين يدعون الجيش الحر إلى ترك المدن والقرى والابتعاد عن المدنيين، ومعناه أنني سأتلقى لوماً شديداً منهم ومن ضحايا الآلة العسكرية الهمجية التي أطلقها النظام المجرم على أهلنا الأبرياء في أنحاء سوريا جميعاً. صدري مفتوح لمن شاء من أهل الصدق والإخلاص أن يرشقني بسهام النقد، ولكن اسمحوا لي أولاً أن أبيّن كيف وصلنا إلى حيث نحن الآن وأن أتحدث عن الحرب التي نخوضها في سوريا اليوم.
ثلاثة عوامل أوصلتنا إلى هنا: (1) خذلان العالم للثورة ودعمه للنظام سراً وجهراً، يستوي في ذلك العالم الغربي والعالم الشرقي. نعم، الشرق والغرب اشتركا في دعم النظام وفي مدّه بأسباب البقاء، فلا يتوهّمَنّ أحدٌ أن أميركا أقل شراً من روسيا، فإن لم تكن أكثرَ منها شراً فهما في الشر سواء. (2) إجرام النظام غير المحدود، فقد قاوم الأحرارُ طويلاً الوصولَ إلى النتيجة المرّة، ولكنهم وصلوا إليها أخيراً واعترفوا بها راغمين: سواء أكانوا سلميين أم حربيين فإن النظام سيُبيدهم ما داموا مصرّين على إسقاطه، إبادة خفيّة ناعمة بالقنص والقتل في الطرقات والمعتقلات، أو إبادة ظاهرة عنيفة بالمدافع والدبابات والطيّارات. (3) إصرار الثوار على المضيّ في الطريق وإكمال المشوار إلى خط النهاية، خط الانتصار، ولو خاضوا في دمائهم المُهراقة واحتملوا الموت والحصار والدمار. مهما تكن العوامل والأسباب فقد صرنا اليوم وسط معركة ضروس، معركة يخوضها طرفان يعرف كل منهما أنها تقوده إلى بقاء أو فناء. نعم، إننا نخوض اليوم حرباً حقيقية في سوريا، حرباً لا خلاف على وجودها، فتعالوا نتعرف على نوع هذه الحرب، لأن معرفتها هي العامل الحاسم في تحديد موقفنا الصحيح منها. -3- الحروب ثلاثة: حرب خارجية تكون بين الدول، وحرب أهلية تكون بين أهل الدولة الواحدة، وحرب ثالثة تكون بين أهل البلد وجيش الاحتلال، هي حرب التحرير والاستقلال. الحرب الأولى حرب ذات جبهة واضحة وخطوط قتال مستقرة تتحرك ببطء، تبدأ على جانبَي الحدود الفاصلة بين البلدين ثم تتحرك مع الوقت إلى هذا الجانب أو ذاك، ولا تصل إلى التجمعات السكانية الكبرى إلا إذا انهار دفاع إحدى الدولتين وسقطت بالكامل. هذه الحروب لا يصاب فيها المدنيون إلا قليلاً، وغالباً يدفع الثمنَ الأكبر فيها العسكريون من عناصر الجيشين المتحاربين، ومن أمثلتها التي نعرفها الحروب العربية الإسرائيلية، والحرب العراقية الإيرانية الطويلة (1980-1988) التي خسر فيها الجانبان مئات الآلاف من المقاتلين. الحرب الثانية مدمّرة تماماً وهي الأكثر كارثيةً بين الأنواع الثلاثة، وبما أنها تقع بين الأهالي فإنهم هم الذين يدفعون فاتورتها الكاملة، ولا يكاد العسكريون يصابون فيها إلا قليلاً. أما العامل الذي يحدد انحياز المتحاربين إلى هذا الطرف أو ذاك فإنه العرق، كما في الحرب الأهلية الرواندية (1990-1993، 800 ألف ضحية)، أو الدين والمذهب، كما في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990، 250 ألف ضحية)، أو الانتماء السياسي، كما في الحرب الأهلية الإسبانية بين الجمهوريين الاشتراكيين والفاشيين القوميين (1936-1939،500 ألف ضحية). ولعل أفظع تلك الحروب وأطولها هي الحرب الأهلية الصينية التي نشأت بين الوطنيين والشيوعيين واستمرت قرابة ربع قرن (1927-1950)، ولم يعرف أحدٌ عددَ ضحاياها على التأكيد، وإن كانت أكثر التقديرات تشير إلى أنهم يزيدون على خمسة ملايين. -4- ليس أيٌّ من النوعين السابقين هو ما يجري الآن في سوريا؛ إنه حرب من النوع الثالث: "حرب التحرير" أو "حرب الاستقلال". ولا يقول غيرَ ذلك إلا مخطئ أو مسيء إلى سوريا وثورتها الشريفة وشعبها العظيم. لم تهاجم أي دولة أجنبية سوريا من خارج الحدود حتى يهبّ جيشُها للدفاع عنها وحمايتها من العدوان، فانتفت الحرب الخارجية. ولم تعتدِ الأكثرية السنّية في سوريا على أي طائفة من طوائف الأقليات الدينية والمذهبية، المسيحيين والعلويين والدروز، ولم تحترب تلك الأقليات فيما بينها، ولم يختلف العرب مع غيرهم من الأعراق، الكرد والشركس والتركمان، وبذلك تنتفي حالة الحرب الأهلية بصورة جازمة. بقي النوع الثالث: سقطت سوريا تحت الاحتلال؛ احتلتها عصابة قذرة متمرسة في الإجرام، ثم جيّشت تلك العصابةُ جيشاً هائلاً من القتلة والسفاحين لتكرّس احتلالَها للبلاد وسيطرتها على سوريا، وهو جيش ينتمي أكثره إلى طائفة العصابة وأقله إلى غيرها من الطوائف، وباستغلال ذلك الجيش أحكمت السيطرةَ على سوريا لنحو نصف قرن من الزمان. أخيراً ثار الشعب السوري العربي الأبيّ الكريم العظيم وعزم على تحرير سوريا من الاحتلال، عزم على الفوز بالحرية ولو سالت الدماء أنهاراً وسقط الشهداء بالجبال... إنها حرب الاستقلال. -5- وما هي صفة حرب الاستقلال أو حرب التحرير؟ أرى أن معرفتنا بها ستساعدنا على الاستعداد النفسي والعملي لها، فلنتحدث عنها قليلاً. إنها الحرب التي يخوضها جيش وطني ضد عدو يحتل البلاد، وهي تختلف عن الحرب الخارجية في أمرين: أولهما أنها ليست لها جبهة قتال واضحة تَفْصل بين الطرفين ويصطفّ كل طرف على جهة من جهتَيها، بل تنتشر نقاط الاشتباك فيها على تراب الوطن كله وتتداخل مع التجمعات السكنية. وبسبب ذلك التداخل ينشأ الفرق الثاني المهم بين هذه الحرب والحرب الخارجية: ترتفع الخسائر البشرية في صفوف السكان المدنيين بحيث تزيد كثيراً على خسائر القوات المتحاربة من الطرفين. في حرب التحرير والاستقلال يدفع المدنيون الثمن الأكبر، وهم لا يدفعونه راغمين بل راغبين، لأنهم يشاركون في الحرب مختارين بصورة من الصور، فإما أن يقدّموا الخدمات التشغيلية (اللوجستية) للحرب، من نقل وتموين وعلاج وإعلام، وإما أن يقدموا للمقاتلين الأحرار المالَ والغذاء والكساء والدواء، أو يوفروا لهم المأوى داخل الأحياء السكنية في المدن والأرياف. في الحقيقة فإن حرب التحرير إذا بدأت لم يبقَ في البلاد مدني بالمعنى التقليدي، بل ينقسم الناس إلى واحد من اثنين؛ فإما أن يكون المرء جندياً من جنود الثورة -ظاهراً أو خفياً- أو يكون متواطئاً مع الأعداء. وليس في هذا الإطلاق بعد عن الحقيقة، ولو أنكم نظرتم إلى الأمر من زاويته الصحيحة فلن تجدوا فرقاً بين مدني وعسكري، لأن المقاتلين هم أبناء المدنيين ومنهم يستمدون القوة المادية والمعنوية والقدرة على الاستمرار في القتال. مَن هم المقاتلون؟ من أين يجيئون؟ إنهم أولاد المدنيين، أولادي وأولاد جاري القريب أو البعيد في العمارة والحارة هم الذين حملوا السلاح، فهل أقول لأولادي ويقول جاري لأولاده: اخرجوا عنا ولا تعودوا إلى بيوتكم حتى تنتهي الحرب؟ لا يقول ذلك والدٌ لولده، وكلاهما مشتركان في الجهاد، أحدهما يحمل السلاح والآخر يقدم الدعم النفسي والعملي ويوفر المال والمأوى والحماية والغطاء. -6- يا أيها الأحرار: إنها حرب التحرير، حرب الاستقلال. فهل أنتم راغبون في الحرية ومستعدون لدفع ثمنها الكبير؟
إن كنتم حقاً راغبين، وإن كنتم في رغبتكم صادقين، فلا تَلاوموا. لا يشتغل بعضكم من القاعدين بلوم بعضكم من العاملين والمجاهدين، فيقول بعض القائلين: لو لم يدخل الجيش الحر إلى تلك المنطقة لما قصفها النظام ولو لم يحرر تلك المدينةَ لما اجتاحها المجرمون. لا أرى في أولئك القائلين علّة إلا ضعف الذاكرة. أكان في درعا جيش حر يوم اجتاحها جيش الاحتلال الأسدي بعد بداية الثورة بأسابيع؟ أكان في مزرعة القبير جيش حر لما أبادتها مليشيات القتل والإجرام؟ لو شئتم لجمعتم ألف مثال ومثال تثبت لكم أن النظام المجرم لم ينتظر أبداً دخول المجاهدين إلى أرض حتى يشنّ عليها حملات القمع والإجرام. يقولون: ليخرج الجيش الحر إلى البراري والجبال.
أقول: لماذا يكلف نفسه هذا العناء؟
ليخرج من سوريا كلها إلى تركيا أو إلى غيرها من دول الجوار. بل أسهل من ذلك وأقرب: "افرطوا المَسْبحة" وليَعُدْ كل مقاتل إلى بيته ويترك سلاحه! ما هذا القول أيها العقلاء؟ سوريا المحتلة تحتاج إلى جيش يحررها، وهذا الجيش ليس إلا أبناءنا وإخواننا ولا مكان له سوى بيوتنا وأحيائنا، بل إن وجوده بيننا يدفع عنا شرّ الاجتياح الذي هو أكبر ضرراً من القصف بالمدافع والطيارات. نعم، إن موتاً كريماً تحت القصف أهون من موت ذليل: إعدام ميداني على قارعة الطريق، أو قطع لأعناق النساء والرجال والأطفال. يقولون: إذن ليبقَ الجيش الحر بيننا، ولكنْ لا يعلن عن تحرير مدينة لا يستطيع الدفاع عنها. أقول: أما رأيتم ما جرى في داريا ومعضمية الشام؟
لم يعلن أحدٌ تحريرَهما ومع ذلك سقط فيهما أكثر من نصف ألف شهيد في أيام معدودات، فلم يكن مصابُهما أهونَ من مصاب التلّ الشهيدة التي سقط فيها نحو مئتين بعد إعلان التحرير. فعلمنا من ذلك أن الإجرام لا يزيد ولا ينقص بسبب الإعلان وعدم الإعلان. وقبل التل والمعضمية وداريا اقتحم المجرمون جدَيْدة عرطوز في نهار رمضان، فأخرجوا من رجالها ستين رجلاً من البيوت وهم صائمون فقيّدوا أياديهم ثم أعدموهم بالرصاص. البلدة لم يكن فيها أي وجود سابق للجيش الحر، كل ما في الأمر أن كتيبة من الكتائب القريبة تعقبت ضابطاً من ضباط جيش الاحتلال الكبار فاغتالته في الجديدة، وهو من أقرباء رئيس أركان جيش الاحتلال، فانتقم المجرمون الجبناء من المدنيين الأبرياء حين عجزوا عن إدراك المجاهدين الأحرار. -7- قد يقول قائل: إذا كان هذا هو ثمن قتل ضابط أو استهداف مركز أمني أو تدمير حاجز أو ضرب دورية من دوريات جيش الاحتلال... إذا كان الثمن هو قتل المدنيين فلا نريد أياً من تلك العمليات. ممتاز، هذا هو تماماً ما يريده النظام:
لا نريد أي عمليات ولا نريد كتائب الجيش الحر ونريد أن نعيش في أمان. هنيئاً لكم بهذا الأمان الزائف تحت ظلال المدافع وراجمات الصواريخ، وليبقَ النظام لكي تعيشوا آمنين وليبقَ الظلم والظلام في سوريا ألف عام! أهذا ما تريدونه حقاً يا من تدعون الجيش الحر إلى وقف القتال؟
ألا تدركون الحقيقة؟ سأخبركم بخلاصة المسألة، وإنكم لتعلمونها جميعاً ولكن البعض ينسون: ما ترونه من إجرام النظام في المناطق التي ينسحب الجيش الحر منها بعد سيطرته عليها هو المصير الذي ينتظر سوريا كلها لو فشلت الثورة. لن يبقى أحد بمعزل عن الانتقام ولن يعيش أحد في أمان، فخيرٌ لنا أن نكمل الطريق مهما تكن التضحيات. لقد وصلنا إلى نقطة يستحيل فيها عكس الاتجاه، فإما نصرٌ بالتضحيات الجسام وإما استسلام سيحمل الموت الزؤام لسوريا وشعب سوريا لخمسين عاماً أو مئة عام.
لقد عرفنا هذا النظام وجربناه؛ إنه نظام غادر لا عهد له ولا أمان، وإنه نظام حاقد لا يعرف الرحمة أو الغفران. لقد طعنّاه طعنة نجلاء لن يتعافى منها أبداً، فلو أنه هزمَنا في هذه المعركة -لا قدّر الله- فسوف يضع يده على خاصرته كل حين فيتحسس جرحه ثم يقول: لأعذبنّهم عذاباً لم يروا له مثيلاً من قبل، ولأسحقنّهم فلا يرتفع لهم رأس، ولأصدمنّهم صدمة تستأصل الأملَ من قلوبهم ومن قلوب أولادهم والأحفاد. أترضون الوصول إلى هذا المصير؟ -8- بعض المكلومين والمصدومين من إجرام النظام ومذابحه وفظائعه لم يجد حلاً إلا وقف القتال وانسحاب الجيش الحر، ويكادون يقولون (أو أنهم يقولون) إن الجيش الحر هو سبب ما ينزل بالمدنيين من بلاء. هل صحيحٌ ما يقولون؟ لا تظلموا جيشكم الحر يا أيها الأحرار ولا تقولوا ما لا ينبغي أن يُقال؛ إذا لم تتحرر البلاد قطعة بعد قطعة فكيف يكون تحريرها من الاحتلال؟ وهل سيسكت العدو وهو يرى تلك القطع تخرج من بين يديه ومن تحت سلطانه؟ لن يفعل. إنه يحاول أولاً استرجاعها وإخضاعها بالحصار والاقتحام، فإذا استعصت عليه وفشل في حملته البرية فإنه يلجأ إلى القصف بالدبابات والمدفعية من الأرض والقصف بالطيارات العمودية والمقاتلة من السماء. هذا القصف يسبب دماراً عشوائياً ويُسقط الكثير من الضحايا، ولكن هو هل أسوأ من اقتحام المدن؟ كلما انسحب الجيش الحر من مدينة واقتحمها العدو استباحها وعاث فيها الفساد، فلا تَسْلم الأنفس من الإعدامات الميدانية والاعتقالات العشوائية، ولا تسلم الأعراض ولا الأموال والممتلكات، فأيهما أشد بلاء يا أيها المنصفون: الموت الكريم تحت القصف والتهديم أم الموت الذليل الذي يعقب السقوط؟ هذه الرستن وتلبيسة ودير الزور والبوكمال، ما يزال الجيش الحر صامداً فيها رغم القصف والحصار ورغم الحملات بعد الحملات. هل ترون أن انسحاب الجيش الحر منها خيرٌ لها أم هو شرّ عليها؟
نعم، إن الأهالي الذين بقوا فيها يعانون من الحصار ويموت منهم تحت القصف من يموت، ولكن أشهد أنهم أحسن حالاً ممن اجتاحت مليشيات القتل والإجرام مدنهم وقراهم، كأهلنا في دوما وداريا والحراك على سبيل المثال. بل انظروا إلى مدينة حمص التي اجتمعت فيها الحالتان: انسحب الجيش الحر من بابا عمرو ودير بعلبة وكرم الزيتون فذُبح المئات من رجالها ونسائها وأطفالها بالسكاكين، وصمد الجيش الحر في حمص القديمة والقرابيص والخالدية فنجت من الذبح ولكنها عانت من الحصار والدمار. أليس الحصار والقصف -على سوئه- أهون من الاجتياح وما يعقب الاجتياحَ من فظائع وويلات؟ -9- يا أيها الأحرار: لقد دفعتم إلى اليوم ثمناً عظيماً لتحرير سوريا من الاحتلال، فاستعدوا لدفع بقية الثمن ولا تستكثروه. لا تضعفوا في الساعة الأخيرة من ساعات القتال؛ إن ثمن الاستقلال كبير كبير، لا يقاس بالمال ولا بالرجال. كلما رأيتم العدو اشتدت شراسته وزاد إجرامه فاعلموا أن الأيام الباقية له قليل. لم أكن يوماً من المتشائمين ولا أريد أن أنشر الهلع في القلوب، ولكن معرفة الآتي والاستعداد له أفضل من التعامي عنه واستقباله على غير استعداد. العدو لن يستسلم استسلاماً هيّناً، فإن كبار مجرميه يعلمون ما ينتظرهم: الموت في المعركة أو الأسر والمحاكمة وسوء المصير. لقد تجاوزوا خط الرجعة منذ زمن طويل وباتوا أمام واحد من خيارين: قاتل أو مقتول، آكل أو مأكول، ولسوف يجتهدون أن يكونوا قاتلين آكلين لا مأكولين ولا مقتولين. سوف يحاولون النجاة بأي طريق، وربما استعملوا كل ما يملكون من قوة وقدرة على الردع والتدمير. إن التصعيد المستمر في استعمال القوة يعني أن النظام يستعمل سلاحاً أقوى كلما فشل السلاح الحالي في تحقيق هدفه، وهو القضاء على الثورة. لقد بدأ بقصف المناطق المحررة بالهاونات، ثم بالدبابات وراجمات الصواريخ ومدفعية الميدان، وها هم المجرمون قد بدؤوا بقصفها بالطيّارات الحربية أخيراً، وهو سلاح تأخر دخوله إلى المعركة ظناً منهم بأنهم يمكن أن يحسموها دون الحاجة إليه، وقد رأيتم آثاره التدميرية الهائلة في إعزاز وفي الميادين. ما هو السلاح الأقوى الذي بقي في جعبته بعدما وصل إلى ما وصل إليه الآن؟ يمكن أن يتوسع في استعمال المقاتلات والقاذفات النفاثة فيشنّ على المناطق المحررة غارات تشترك فيها أسراب كاملة، وليس طيارة منفردة كما حصل حتى الآن. إن غارات من هذا النوع يمكن أن تتسبب في دمار واسع لا سمح الله، لأن الطيارة الواحدة تحمل عدة أطنان من القنابل والصواريخ (بين ثلاثة أطنان وأربعة)، فكيف لو اشتركت في الغارات عشر طيارات أو عشرون؟ أسأل الله أن يحمي سوريا وأهل سوريا من هذا البلاء. لكن الطيارات ليست أسوأ سلاح، فما زال عندهم سلاحان أشد فتكاً وأعظم تدميراً، أدعو الله أن تنتهي المعركة قبل خروجهما من الترسانات: الصواريخ الأرضية، والأسلحة الكيماوية. -10- أستبعد أن يستعمل النظام السلاحَ الكيماوي لأنه يعلم أن استعماله يشبه إطلاق رصاصة الانتحار على الرأس، وهو سيقاوم الانهيار ويتجنب الانتحار. ولكن ماذا عن الصواريخ؟
يملك جيش الاحتلال الأسدي نوعين رئيسيين من صورايخ أرض-أرض ذات القدرة التدميرية الكبيرة، صواريخ "فروغ" (Frog) التي تحمل رأساً وزنه نصف طن، وصواريخ "سكود" (Scud) التي يصل وزن الرأس الحربي فيها إلى طن كامل تقريباً. وهي ذات مدى طويل، يمكن إطلاقها من جنوب سوريا فتصل إلى شمالها، حمى الله سوريا وأهل سوريا من شرها وأذاها الكبير. لا يُعرَف عدد ما يملكه النظام المجرم من هذه الصواريخ على التحقيق، ولكنه كبير، يتراوح بين ألف ونصف ألف كما تقول أكثر التقديرات. مع اقتراب الثورة من النصر سيجد النظام البائس أنه على عتبات الانهيار، وربما وصل إلى درجة من اليأس فأطلق بعض تلك الصواريخ على المدن لا قدّر الله. ماذا يمكن أن نصنع؟ لا سبيل لرد الصاروخ بعد انطلاقه إلا بصواريخ مضادة لا يملك الجيش الحر شيئاً منها، بل لا تملك مثلَها إلا دولٌ قليلة في العالم، وحتى لو امتلكها فإن نسبة نجاحها في اعتراض صاروخ يقطع مئة كيلومتر أو مئتين قبل الوصول إلى الهدف ضئيلة جداً، وإنما تزداد النسبة كلما زادت المسافة التي يقطعها الصاروخ في طريقه إلى الهدف، وهو أمر مستبعَد لو قرر النظام إطلاقها على المدن من قواعد قريبة لا سمح الله. ماذا يمكن للناس أو يفعلوا إذن؟ التوكل على الله والوقاية وحسن الاستعداد. لنأخذ مدينة حلب مثالاً: ما يزال الجيش الحر صامداً أمام هجوم جيش الاحتلال وتزداد سيطرته انتشاراً على أحياء المدينة، وقد فشلت حملات النظام البرية في استرجاعها، ولذلك فإنه قد ينتقل في مرحلة لاحقة إلى قصفها قصفاً عشوائياً من البر ومن الجو. ربما تصدى الجيش الحر للطيارات المقاتلة بصواريخ محمولة على الكتف (مانباد) مثل صواريخ ستينغر التي ورد أول خبر شبه موثوق عن دخول عدد منها إلى سوريا قبل نحو أسبوعين. إذا استُعملت هذه الصواريخ بكفاءة فقد يفقد النظام عدداً من طياراته المقاتلة في سماء حلب، وعندها قد يلجأ إلى أخطر الأسلحة وأسوئها لا سمح الله: صواريخ أرض-أرض. لا ينبغي أبداً أن ننتظر ذلك الحدث السيئ بلا استعداد. على السكان في حلب (وفي كل منطقة محررة في سوريا، وإنما اعتبرت مدينة حلب مثالاً نموذجياً لمدينة كبيرة محررة)، عليهم أن يهتموا بتجهيز الملاجئ، وهي غالباً متوفرة في كل المدن السورية أصلاً. على السكان والجيش الحر التعاون في تحسين وتحصين الملاجئ، وتزويدها بما يلزم للحياة من فرش وأغطية ومواد تموينية تكفي للعدد الكبير من الأيام، وليُزَوَّد كل ملجأ بمولّد كهرباء وبتجهيزات طبية وإسعافية في الحدود الضرورية الدنيا على الأقل، ولو أن القصف بدأ على المدينة لا قدر الله (حمى الله حلب ومدن سوريا كلها وأهلها أجمعين) فينبغي الإسراع إلى الملاجئ والبقاء فيها حتى تنتهي الغارات. -11- أيها السادة:
إننا نخوض اليوم حرباً من أهم الحروب التي كُتبت على سوريا في تاريخ سوريا الطويل، حرباً لتحرير بلادنا من أسوأ كابوس عرفته من أيام المغول والتتار والصليبيين.
فمن يوم حرر المسلمون سوريا من الرومان لم تسقط تحت الاحتلال سوى أربع مرات: احتلها الصليبيون، ومن بعدهم التتار، ثم احتلها الفرنسيون بعد الحرب الأولى، ثم جاء الاحتلال الرابع، الاحتلال الأسدي الطائفي البغيض، وهو الأسوأ والأقسى بين الأربعة جميعاً، بل إنه احتلال من أبشع أنواع الاحتلال. أيها الأحرار:
عندما تسعى الشعوب إلى الحرية والاستقلال فإنها لا تشتغل بحساب خسائرها من الرجال والأموال. لقد علم الناس منذ الأزل، من يوم خاضت أولُ جماعة منهم أولَ حرب لتحرير أرضها من عدو باغ محتل، علموا أن حرية الوطن سلعة غالية لا يُستكثَر في سبيلها ثمن، مهما يكن الثمن. لو أن عصابة من اللصوص اختطفت ولدك -لا سمح الله- فإنك لا تقول: أنا مستعد لافتدائه بمئة ألف أو مئتين، ولو طلب الخاطفون مني أكثر من ذلك فسوف أتركه لهم! لا، لا يصنع ذلك أبٌ يحبّ ولده، بل إنه ليدفع كل ما يملك ليعود إليه الولد. أكرر: كل ما يملك. وكذلك تفعل الشعوب الحيّة مع الأوطان. إنها لا تساوم ولا تقول: نضحي في سبيل الحرية بألف شهيد أو بعشرة آلاف، بل تقول: نضحي بكل ما نملك في سبيل الحرية والاستقلال. حتى لو لم يبقَ منا -نحن أهل هذا الجيل- أحد فسوف يأتي من بعدنا من يعيش حراً، لأن الوطن يبقى للأحفاد ولحَفَدة الأحفاد. يا أيها الأحرار: لا تَلاوَموا ولا تُساوموا على الحرية. لا تَشغلوا أنفسكم بحساب التضحيات، فإن التضحيات سوف تستمر حتى لحظة الانتصار، بل إنها سوف تتعاظم كلما اقتربنا من لحظة الانتصار، بل إن تعاظمها (كما هو كائن اليوم) دليل على اقتراب الثورة من الانتصار الكبير بإذن الله الواحد القهّار. -الخلاصة- (1) عندما حمل مجاهدونا السلاح أول مرة -بعد بداية ثورتنا السلمية ببضعة أشهر- اقتصر عملهم على حماية الحراك الشعبي السلمي وعلى مناوشات محدودة مع جيش الاحتلال، وكان عددهم قليلاً، فابتعدوا عن أحياء المدنيين حتى لا يسبّبوا لهم الأذى ويجرّوا عليهم انتقام النظام، وعاشوا غالباً في أطراف المدن وفي المزارع والبساتين والجبال. (2) ردّ المجتمع الدولي على ثورتنا الشعبية السلمية بالتجاهل التام والدعم الخفي والظاهر للنظام، فاستشرس وبالغ في الإجرام، ولم يترك للشعب الذي أصر على المضي في ثورته خياراً إلا الدفاع عن نفسه وعن الثورة، فزادت أعداد المتطوعين لحمل السلاح وتتالت الانشقاقات، ومع الوقت تحولت المناوشات المحدودة إلى صدام واسع، وانتقلنا إلى حالة حرب حقيقية عمّت أنحاء البلاد. (3) إذا أردنا تعريف هذه الحرب وتسميتها باسمها الصحيح فسوف نجد أنها ليست حرباً خارجية مما يكون بين الدول، وليست حرباً أهلية مما يقع بين أهل الدولة الواحدة، وإنما هي على التحقيق حرب بين أهل سوريا المحتلّة من جهة وجيش الاحتلال الأسدي من الجهة الأخرى، فهي إذن يجب أن تسمى "حرب التحرير" أو "حرب الاستقلال". (4) من خصائص حروب التحرير أن المدنيين والمقاتلين (جيش التحرير الوطني) يشتركون معاً في دفع فاتورة الحرية، وفي الحقيقة فإنه يصعب الفصل الدقيق بين الفريقين لأن المقاتلين لا يعيشون إلا ضمن الحاضنة الشعبية الوطنية، فما يصيب أحد الطرفين يصيب الآخر، وبما أن أعداد المدنيين أكبر بكثير من أعداد المقاتلين فإن الإصابات بينهم تكون أضعافاً مضاعفة. (5) حرب التحرير هي حرب حقيقية يتحقق نصرُها الكبير بتراكم انتصارات صغيرة جزئية، وهذا معناه أن على جيش التحرير الوطني (الجيش الحر) الاستمرار في القتال يوماً بعد يوم وعلى كل الجبهات لإنهاك العدو وتحرير البلاد قطعة بعد قطعة. وسوف يكون رد جيش الاحتلال قاسياً وهائجاً، وسوف يستهدف المدنيين بالانتقام العشوائي لكي يجبرهم على التخلي عن المقاتلين، فإذا حُرموا من حاضنتهم الشعبية استطاع القضاء عليهم وأنهى الثورة. (6) الجيش الحر يواجه حالياً انتقادات كثيرة بسبب الحملات الانتقامية التي يوجهها النظام ضد المناطق التي يتترّس فيها، ويوافق بعض المنتقدين على بقاء المقاتلين داخل المناطق السكنية ولكن بشرط عدم الاشتباك مع العدو. هذه الانتقادات ليست منطقية لأن الجيش الحر يجب أن يستمر في المعركة، ولأنه لا يستطيع البقاء إلا ضمن الحواضن السكانية التي توفر له الحماية والغطاء. (7) لم تَسْلم أي منطقة انسحب منها الجيش الحر من انتقام النظام وإجرامه وبطشه الفظيع، أما المناطق التي صمد فيها الجيش الحر ولم ينسحب منها فإنها تعرضت للقصف والحصار. وقد ثبت بالتجربة أن القصف مع وجود الجيش الحر أقل سوءاً من الاقتحام الذي يعقب انسحابه، والذي ترافق دائماً مع إعدامات ميدانية واسعة واستباحة للأعراض والأموال وتخريب للدور والممتلكات. (8) كلما زادت انتصارات الجيش الحر وكلما ضاق الخناق على النظام سوف يرتقي في استعمال قوته التدميرية، فقد انتقل باطّراد من قنص المتظاهرين بالقناصات إلى مواجهة المظاهرات بالرشاشات، ثم اقتحم المدن وقصفها بالهاونات، ثم بمدافع الميدان والدبابات، واستعمل الطيارات العمودية لشهور قبل أن يطيّر أول مقاتلة نفاثة في السماء ويستعملها في قصف المناطق المحررة. (9) إذا عجز النظام عن قمع الثورة رغم كل ذلك التصعيد (وهو عاجز حتى الآن) فقد لا يتردد في استعمال المزيد من القوة، فيبدأ بشن غارات واسعة بأسراب من القاذفات، وإذا أسقط المجاهدون طياراته فقد يلجأ إلى استعمال أسوأ الأسلحة وأكثرها تدميراً، وهي الصواريخ الأرضية ذات الرؤوس التدميرية الكبيرة. نسأل الله أن يحمي الله سوريا ومدنها وأهلها منها، وأن يسقط النظام قبل الوصول إلى تلك الدرجة من الإجرام. (10) مهما يكن الثمن ومهما تكن التضحيات الآتية فعلينا أن ندرك أن الاستسلام خيار غير متاح، لأن النظام أثبت أنه سيعاقب أي منطقة ثارت عليه، وسوف يخص بالعقاب الأشد المناطقَ التي كانت أكثر مقاومة من غيرها، وما نراه من مجازر وفظائع ليس سوى عينات صغيرة مما يمكن أن يحل بسوريا كلها لو انتصر النظام وفشلت الثورة لا قدّر الله. لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة، ليس لنا خيار إلا الاستمرار إلى نهاية الطريق، وصولاً إلى الحرية والاستقلال.
المصدر: الزلزال السوري
برهان غليون
خالد مصطفى
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة