سعد محيو
تصدير المادة
المشاهدات : 6730
شـــــارك المادة
- I -
استعرضنا بالأمس الأفكار الرئيسة في كتاب إيمانيل تود المشوَّق "مابعد الإمبراطورية"، وأبرزها قوله: "كل شيء يدل على أن الولايات المتحدة، ولسبب غامض، تعمل للحفاظ على درجة من التوتر الدولي: حالة حرب محدودة ولكن دائمة"، وتساءلنا: أين يتركنا كل ذلك؟
ليس هناك، برأي المؤلف، تفسير مُرضٍ للسلوك الأميركي، الذي كان إمبريالياً حميداً بعيد الحرب العالمية الثانية، عدا ذلك الذي يقول بأن الولايات المتحدة باتت تشعر بأنها لم تعد مفيدة للعالم.
وهذا يمكن أن يفسر قلقها وتوتر بعض توجهات سياساتها الخارجية. تهميش أميركا قد يكون مفاجئاً لعالم يعيش وهم القوة الأميركية الطاغية. لكن، هذه هي الحقيقة: أميركا التي لم يعد في وسعها العودة إلى العزلة، تخشى الانعزال في عالم لم يعد يحتاجها. خوف أميركا من الانعزال ليس أمراً مستجداً. فحتى حين كان تعيش في عزلة في القرن التاسع عشر، إلا أن هذا لم يكن انعزالا لأنها كانت متصلة بالعالم اقتصاديا ومستقلة عنه سياسياً ودبلوماسياً. منذ وقت مبكر، كانت أميركا في حاجة إلى المال والعمال المهرة من الخارج، خاصة من أوروبا. في الحرب العالمية العالمية الأولى، لم تكن الولايات المتحدة في حاجة إلى العالم. العالم كان في حاجة إليها. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت أميركا تنتج نصف سلع العالم الاقتصادية، لكن في تلك الفترة بدأت تحولات خطيرة. فنظام العولمة الذي أقامته أميركا في أوروبا واليابان استنادا إلى فتح أسواقها في إطار التجارة الحرة، أدى في النهاية إلى تغيير بناها الداخلية هي نفسها، فأضعف اقتصادها، وشوّه مجتمعها.. وحينها، باتت أميركا معتمدة على العالم بدل أن يكون العكس هو الصحيح. العجوزات التجارية الأميركية بدأت بالظهور في السبعينات، وأصبحت منذ ذلك الحين معلماً بارزاً من معالم الاقتصاد العالمي. سقوط الشيوعية أدى إلى تسارع الاعتماد الأميركي على العالم. فبين 1990 و2000 قفز العجز التجاري الأميركي من 100 إلى 450 مليار دولار. وفي بداية القرن الحادي والعشرين، لم يعد في وسع أميركا أن تعيش مما تنتج. وهنا نشأت المفارقة: في الوقت الذي كانت فيه بقية دول العالم تستقر بفضل التقدم في الصحة والتعليم والديموغرافيا والديمقراطية فتصبح غير معتمدة على أميركا، لم يعد في وسع هذه الأخيرة العيش من دون العالم. لكن مهلاً. إذا ما كانت الولايات المتحدة انحدرت إلى درجة كبيرة كقوة اقتصادية، إلا أنها نجحت إلى حد كبير في امتصاص ثروات الاقتصاد العالمي. وهذا ما يدفعها إلى القتال سياسياً وعسكرياً للحفاظ على هيمنتها بصفتها قوة لايمكن الاستغناء عنها في العالم. وهذا الآن يطرح المشكلة الآتية بالنسبة للعالم: كيف يمكن التعاطي مع قوة عظمى معتمدة على غيرها اقتصاديا، لكنها أيضاً بلا فائدة سياسياً ؟.
- II -
هذه التطورات في السياسة الخارجية ترافقت مع أخرى لا تقل خطورة في الداخل الأميركي. فالمجتمع يتغير إلى نظام لا مساواتي إلى حد كبير. وهذه نقطة أوضحها بجلاء الكاتب الأميركي مايكل ليند في كتابه "الأمة الأميركية الجديدة "، والتي ركَّز فيها على بروز طبقة فاحشة الثراء تمسك بكل مفاصل الاقتصاد الأميركي، وتعيد توجيه السياسات الاقتصادية بما يكرسّ اللامساواة إلى حد كبير. وهذا ما يضعف الآن الديمقراطية الأميركية، في الوقت ذاته الذي تتقدم فيه هذه الديمقراطية في العالم. إن انتقال الولايات المتحدة إلى الأوليغارشية (حكم الأقلية) المتطرفة، يدفع إلى توقُّع قيامها بممارسات عدوانية ومغامرات عسكرية أكثر خطورة. لا بل لا يمكننا الآن استبعاد أن تشن هذه الاعتداءات حتى على دول ديمقراطية، لان النخب الأوليغارشية مستعدة لإشعال الحروب بين الديمقراطيات. العالم، إذا، يقف أمام تناقضين: الأول: الاعتماد الاقتصادي الأميركي الجديد على العالم. والثاني: التوزيع الجديد للطاقة الديمقراطية في كل أنحاء العالم، خاصة في قارة أوراسيا. وحالما نضع هذه التطورات بعين الاعتبار، نستطيع أن نفهم بعض أسباب غرابة التصرفات الأميركية. فبما أن الديمقراطية تضعف في داخل أميركا نفسها، سيكون من الصعب على هذه الأخيرة الدفاع عنها في العالم. الأولوية الأولى لأميركا الآن هي الحصول على السلع والموارد والرساميل من العالم. وبالتالي، من الآن فصاعداً سيكون هدف الولايات المتحدة هو السيطرة السياسية على موارد العالم. بيد أن القوة الاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية المنحدرة للولايات المتحدة، لاتسمح لها بالسيطرة بفعالية على العالم الذي أصبح شاسعاً، وكثير السكان، ومتعلماً، وأكثر ديمقراطية. وإخضاع العقبات الحقيقية أمام الهيمنة الأميركية (أساساً اللاعبين الاستراتيجيين الأوروبيين والروس واليابانيين والصينيين) هي ببساطة مهمة مستحيلة. سيكون على أميركا بشكل متزايد التفاوض مع هذه القوى، والرضوخ لها في كثير من الأحيان. لكن في نهاية المطاف، سيكون على الولايات المتحدة العثور على حل، سواء أكان حقيقياً أو متخيلاً ، لتبعتيها الاقتصادية المقلقة للعالم. حتى ذلك الحين، ستفعل الولايات المتحدة كل ما في سعها للبقاء كمركز للعالم، خاصة القيام بنشاطات عسكرية درامية تتمحور حول ثلاثة أمور: 1- عدم حل أي مشكلة بشكل نهائي، لتبرير سلسلة لا تنتهي من العمليات العسكرية في كل أنحاء العالم من جانب الدولة العظمى الوحيدة. 2- تركيز كل الطاقات على الدول الضعيفة كالعراق وإيران وكوريا الشمالية وكوبا .. الخ، بهدف استعراض القوة الأميركية ومنع الدول الكبرى الأخرى من التفكير بالقيام بأدوار ما. وهذه الدول هي أوروبا واليابان وروسيا والصين. 3- تطوير أنظمة أسلحة جديدة يتم تسويقها إعلامياً على أنها دليل التفوق الكاسح الأميركي، في إطار سباق تسلح لا نهاية له. مثل هذه الإستراتيجية تجعل الولايات المتحدة بشكل غير متوقع عقبة في طريق السلام العالمي. لكن ليس ثمة ضرورة هنا، برأي تود، للإصابة بالهستيريا حول بروز إمبراطورية أميركية ، لأن هذه الأخيرة في الحقيقة في طور التفكك لا الصعود.
- III -
ماذا الآن عن أميركا والعالم العربي – الإسلامي ؟. يرى المؤلف أن التطرف الراهن في هذا العالم الإسلامي ليس أمراً مفاجئاً، بل هو مجرد أزمة انتقالية مؤقتة ناجمة عن التمزقات التي تسببها الحداثة. لا بل هو يرى أن العالم الإسلامي يتقدم على الجبهتين اللتين ستخرجانه من الأزمة، وهما انتشار التعليم وانخفاض معدلات الولادة. النموذج هنا هو ماليزيا التي بلغت نسبة التعلم فيها 88 في المائة، وهو يرى أن إيران اقتربت كثيراً لهذين السببين من مصيرها الديمقراطي.لكنه يتوقع اضطرابات في السعودية وباكستان. ويلاحظ الكاتب أن معظم العنف العسكري الأميركي موّجه ضد العالم الإسلامي، للأسباب الآتية: 1- العرب والمسلمون باتوا " الآخر " في العلاقات الخارجية الأميركية، تماماً كما أن الزنوج والمكسيكيين من أصل هندي أحمر كانوا "الآخر" في داخل المجتمع الأميركي. وهذا ترجم نفسه انحيازاً أميركياً مطلقاً لإسرائيل 2- وجهود هوس الأميركي بالسيطرة على النفط العربي، بهدف إحكام الخناق على أوروبا واليابان والصين التي تعتمد عليه كلياً. 3- رغبة أميركا في ضرب قوى ضعيفة لإبراز مدى قوتها الهائلة. والدول العربية والإسلامية نموذج مثالي لذلك بسبب ضعفها . هل تنبؤات تود في محلها؟. الثغرة الكبرى في تحليلاته تكمن في إغفاله الكلي تقريباً للانقلابات التاريخية الكبرى التي تجري على الساحة الآسيوية، والتي بدأت تؤثر بشكل مباشر على ميزان القوى الدولي. صحيح أنه يهتم بدور اليابان، لكنه يغفل دور الصين، ومعها الهند ونمور جنوب شرق آسيا التي باتت الآن "الموتور" الحقيقي الأقتصاد العالم. وفي خضم تنبؤاته لاحتمال قيام حلف روسي – أوروبي قد ينسف أسس الزعامة الأميركية في العالم، يسقط المؤلف إمكانية قيام حلف أميركي – آسيوي في حوضي الباسيفيك والمحيط الهندي، قادر على قذف القارة الأوروبية إلى قاع التاريخ. إضافة، لايهتم تود بالقضية الخطيرة المتعلقة بالروابط بين ظاهرة تغّير المناخ وبين انفلات الرأسمالية من عقالها. وهي القضية التي ستسيطر قريباً على جداول الأعمال الدولية بصفتها العامل الاستراتيجي الأهم. لكن ، وعلى رغم هذه الثغرات، يشكّل كتاب تود إضافة نوعية الى تلك التحليلات التي تحاول الذهاب الى أبعد من التصورات الراهنة للدور الأميركي الكاسح في السياسة الدولية .
اليوم غداً
يوسف الحريري
سلوى الوفائي
طارق الحميد
برهان غليون
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة