سلوى الوفائي
تصدير المادة
المشاهدات : 7760
شـــــارك المادة
هكذا انتهت الحكاية، بموتٍ رخيص، لا يهمّ من كان سببه، النظام الأسدي أم الجيش الحرّ، المهمّ أنّه موت رخيص و كفى. محمد سعيد رمضان البوطي، كان الكبير فينا، كان رمزاً نقيّاً كما الذهب الخالص لا تخالطه الشوائب، لا يخلو بيت سوريّ من كتبه، وقراءاته وتحليلاته وتسجيلات خطبه ومحاضراته، وبقدر ما كان كبيراً فينا، بقدر ما كانت صدمتنا كبيرة فيه.
فالعلم الغزير و الفكر السديد و الفلسفة الربانية تبقى مجرد وهم مالم تقترن بقوة التطبيق و العمل، و الإيمان هو ما وقر في القلب و صدّقه العمل، و البوطي لم يستطع أن يختم حياته كبيراً كما بدأها، إذْ أنّ موقفه في تأييد الأسد وتبرير جرائمه ألبسه عمامة الذلّ بعد العزّ، وملاءة الشيطان بعد روحانية الملائكة. تفاوتت الأقاويل في سبب تأييده للأسد، بعضهم قال: أصابه خرف كبار السنّ، وبعضهم قال خائف جبان مرغم مهدد، وبعضهم قال منافق رعديد ممالئ وصوليّ منتفع. مات وذهب سرّه معه دون تبرير لمواقف الذلّ والمهانة. كرّم الله العلماء وضرب مثلاً لعلماء السلطان الفسقة قائلاً جلّ في علاه "واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَو تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" الأعراف:175-176. مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كلّ الجدة على ذخيرة اللغة من التصويرات. إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والارتقاء ولكنه ينسلخ من هذا كله انسلاخاً. ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه فهو ينسلخ منها بعنف ومشقة، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق ويتجرد من الغطاء الواقي وينحرف عن الهدي ليتبع الهوى فيلتصق بالطين المعتم، ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد. وفي صورة جلية أخرى، يصوّر الله - تعالى - العالِم الضّال بالحمار؛ "مثلُ الذين حُمّلوا التوراة ثمّ لم يحمّلوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً" الجمعة: 5. وكذلك عبّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولئك حين قال: "إنّما أخاف على أمتي الأئمة المضلّين"، والإمام المضلّ يحمل وزر نفسه ووزر من تبعه إلى يوم الدين. ومن فضل الفتن في الدنيا أنّها تكشف المنافقين المدّعين الأفّاقين من المؤمنين، وتميز الخبيث من الطيب، وتمحّص القلوب ليصطفي الله من عباده المخلصين. وكم سقطت عمائم ولحى لم تكن خالصة لوجه الله، بل كانت أداة بيد الحاكم استخدمها لاستمالة الأغلبية المسلمة ولتبرير سوء أعماله، ووسيلتهم إلى ذلك ليّ أعناق الآيات لتخدم السّفاح وتلتمس له الأعذار وتزيّن له الباطل، وتظهره بمظهر المصلح الأمين وهو الطاغوت الزنيم. وكبير هؤلاء كان علامة الشام البوطي الذي علّم السحرة فنون السحر. وإن تتبعاً عميقاً لتصريحاته منذ قيام الحراك الثوري في الشام يجعلنا نوقن بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّه منافقٌ عند الله كذابٌ، فمرة يتّهم المتظاهرين بأنّ جباههم لا تعرف السجود، ومرة يصفهم بالحثالة المأجورين والملاحدة الحاقدين على كتاب الله الذين يتمردون عليه كلّ جمعة، ومرة يدّعي أنّ أصابع صهيونية تحركهم بتخطيط من الخارج، ومرّة يتحدّث عن سلّة إصلاحات سيده لتخدير الثورة وشلّ يد الثائرين، ومرة يتمنّى أن يكون إصبعاً في يد حسن نصر الله، ومرة يفتي الناس أن تسجد فوق صورة بشار لله - تعالى - وتعتبرها سجّادة، ومرة يردّ على معتقل يستفتيه بمن عذّبه في السجن ليشهد أنّ لا إله إلا بشار، فيردّ عليه: "لا تسألني عن النتيجة واسأل عن السبب، فلو لم تخرج على النظام الحاكم لما سجنت أصلاً"، و مرة وجد روسيا والصين أفضل عند الله من علماء المسلمين. و مرة يشبّه جند الأسد بالصحابة ويتمنى أن ينضمّ لصفوفهم وآخر إبداعاته التي توّجت نفاقه فتوى إعلان الجهاد في صفوف جيش الأسد. فكيف لا يمعن الأسد بالقتل وسفك الدماء وقد وجد من يبرّر له جريمته ويزيّن له قبح عمله؟ لقد رأى البوطي فساد الحاكم ولم يدعو للخروج عليه، وهو يعرف بطلان ولايته أصلاً، ويصفها بأنّها "بيعة خالية من الشوائب". وقد اتّضح اليوم وضوحاً خالياً من الشوائب أنّ البوطي ما هو إلا أحد المتاجرين بالدين، علماء السلاطين، الذين جعلوا إلههم هواهم، وصدق من قال: "إنّ شرّ العلماء أقربهم إلى الأمراء". مات البوطي وكما تفاوتت الأقاويل في موقفه تفاوتت أيضاً في طريقة موته.حسب رواية الإعلام السوري الأسدي قتل البوطي في عملية تفجير انتحاري استهدفت جامع الإيمان في حيّ المزرعة في دمشق حيث يصلّي البوطي ويعطي الدروس الإيمانية، و نسب الإعلام الأسدي الجريمة للجيش الحرّ رغم وجود المسجد في منطقة يستحيل وصول الجيش الحرّ إليها بسبب التعزيزات الأمنية الكبيرة. و قد نفى الجيش الحرّ مسؤوليته عن الجريمة و استنكرها فالجيش الحرّ لا يستهدف بيوت الله أبداً و لم يكن البوطي أصلاً أحد أهدافهم، فحربهم تستهدف الوصول لرأس الطاغية و جنوده المحاربين على الأرض. كما أنّ الصور التي بثّت من موقع الحادث لا تبدي أيّ آثار لتفجيرات فالمكان نظيف لم يحركه ساكن سوى بعض التخريب الذي بدا مفتعلاً، و الجثث مصابة بالرأس فقط دون آثار تفجير وأشلاء مقطّعة وحرق جثث كما العادة نتيجة التفجيرات. و الأهم من هذا كلّه لم تشاهد جثة البوطي أبداً مما آثار شكوكاً أنّ القصة مفبركة برّمتها وأنّ البوطي لم يقتل. في رواية الشيخ عدنان العرعور، قال أنّ البوطي كان مريضاً وقد مات موتاً طبيعياً بين أهله واختلق نظام الأسد هذه القصة ليتّهم جبهة النصرة والجيش الحرّ بالإرهاب وأنّهم يستهدفون رجال الدين وبيوت الله تشويهاً لسمعتهم. و في رواية من أحد أقرباء البوطي أنّه كان مريضاً وقد دخل مشفى أميّة بدمشق قبل وفاته بأيام حيث توفي. كما أنّ أسماء الشهداء الذين راحوا ضحية العملية كانت لشباب صرّح أهلهم أنهم كانوا معتقلين في أمن الدولة منذ فترة. وكلّ المؤشرات تدلّ على أنّ النظام الأسدي هو الفاعل الحقيقي المجرم الجبان الذي أتقن لعبة تبادل الأدوار و تمثيل دور الضحية ليغطي أعمال الإرهاب التي يمارسها ضد شعب خرج على الظلم ونادى بالحرية والعدالة والكرامة. رحل البوطي ومن فضل الله أنّ رحيله كشف البوطيين من رجال الدين، أولئك الذين ترحّموا عليه وحاولوا تبرير مواقفه الخسيسة، ونسوا أن فتاويه في دعم المجرم كافية لعقابه عند الله بل إنّ أرواح أطفال الحولة الذين ذُبحوا على يد العصابة الأسدية لو وضعت في ميزانه لكفت أن تهوي به في جهنم سبعين خريفاً.
فطوبى للفتن.. فهي التي تميز الخبيث من الطيب، وفي أشدّ أوقات الفتنة تشتدّ الحاجة إلى معين صاف نرده وننهل منه ونستمد منه النور والرؤية الصالحة والقدوة الحسنة، وأهل الشام اليوم بأمس الحاجة لصوت أئمتهم الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه، والذين لا يخشون في الله لومة لائم، وإنّ أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر.
رياض نعسان أغا
سركيس نعوم
جمال خاشقجي
ياسر الزعاترة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة