عمر كوش
تصدير المادة
المشاهدات : 6844
شـــــارك المادة
لا ترجع جذور الأزمة الوطنية العامة في سوريا إلى جملة إشكاليات سياسية أو اجتماعية أو دستورية، بالرغم من أهميتها، بل في إشكالية نظام سياسي بأكمله، نهض على حالات مركبة من الاستثناء والاستبعاد والإنكار، يدعمها نهج تسلطي، يستند إلى الاستعباد والهيمنة، وعلى مركبات توظيف مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، خدمة لتأبيد حكمها وسطوتها وسيطرتها على الدولة والمجتمع.
ففي ظل سيادة حالات الاستثناء والاستبعاد، التي ضربت حياة قطاعات واسعة من السوريين، طوال ما يزيد عن أربعة عقود، ابتعدت الدولة السورية عن الدولة الجامعة، الساعية إلى بناء وطنية سورية، بل، فقدت الدولة صورتها المدنية، حيث لم يعرف السوريون فيها سوى سلطة، تهيمن عليهم من خلال سطوة قوانين الطوارئ والمحاكم العرفية، وتعطيل العمل بالدستور، والقفز فوق القانون من طرف الأجهزة الأمنية والمتنفذين والمسؤولين وأولادهم، مع سعي قوى السلطة الدائم إلى الهيمنة على الفضاء العام للمجتمع وحراكه، فانتفى الرأي العام، وغابت تعددية أصوات قوى المجتمع الحيّة المتنوعة، مع اختفاء المؤسسات والمنظمات والهيئات، التي يمكنها الدفاع عن الصالح العام، وانتفاء مختلف أشكال الجسور والتوسطات ما بين الدولة وبين المجتمع. وعمل النظام السوري طوال عقود عديدة على استغلال مختلف تكوينات المجتمع، وتجيير قواها واختلافاتها لأهدافه السياسية، سواء من جهة ضرب القوى الحية، أم بالاستناد إلى فئة أو لنقل أقلية بعينها، وجعلها رهينة بين يديه، أو من جهة تخويف المكونات من بعضها البعض، وبخاصة عند استغلاله المكونات الأقلية لضرب المكون الأكثري وتهميش وحرمان غالبية ناسه من حقوقها الإنسانية المشروعة. كل ذلك كان يجري لصالح نزع صفة المواطنة عن جملة الأفراد السوريين، وتحويلهم إلى رعايا، ينتظرون عطاء الحاكم، وتحويلهم إلى أبناء أقليات، وإلى أقلويين، والنظر إلى سوريا بوصفها تجمع أقليات تابعة أو خاضعة، وأقليات يجب ترويضها وإخضاعها، بغية إدامة نظام سلطوي مافيوي، يعتمد الزبونية والاستزلام، اختلفت تعييناته، ولم تختلف مركباته ودعائمه بين نظام الأسد الأب والأسد الابن. وحين بدأت الثورة السورية حراكاً احتجاجياً سلمياً في الخامس عشر من شهر آذار/مارس 2011، لجأ النظام الحاكم منذ البداية إلى شن حرب شاملة على المحتجين وعلى البيئة الحاضنة له، الأمر الذي أعلن عن تغيرات في مسار الثورة، وتغاير مركبات ومكوناتها، بوصفها حدثاً تاريخياً، لم يشهد تاريخ سوريا مثيلاً له، ولن يتوقف عند حدود التغيير السياسي فقط، بل ستكون له تأثيرات وامتدادات، تطاول إعادة بناء الدولة، وولادة شعب جديد وهوية وطنية سورية جديدة. ونشأت أزمة وطنية عامة، عمقتها طريقة تعاطي النظام وممارساته مع الثورة وناسها، وهي أزمة تضرب جذورها في ممارسات عقود عديدة خلت، أفضت إلى تآكل قيم العيش المشترك والتعاقد الاجتماعي، وبدأت منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، بانقلاب عسكري في الثامن من آذار/ مارس عام 1963، الذي أعلن عن اعتلاء فئات، عسكرية ومدنية من الطبقة الوسطى والدنيا الريفية، سدة الحكم، وإزاحة الفئات البرجوازية المدينية التقليدية، بعد أن تمكن الحزب من قطف ثمار الحراك السياسي في سوريا، إبان فترة خمسينات القرن العشرين المنصرم. وترجع جذور الأزمة المركبة، إلى النظام السياسي، الذي بنته النخبة العسكرية الانقلابية، التي حكمت سوريا منذ سبعينات القرن العشرين المنصرم، وصادر وقمع جميع أشكال الحراك السياسي والمدني والاجتماعي المخالفة له، أو تلك التي لا تصب في مصلحة خدمة نظامه. وقد عملت سلطة النظام على تدمير القوى السياسية للنخب المدينية الغنية في دمشق وحلب وحمص وسواها، مقابل تنمية وتقوية نخب ريفية جديدة. وأسهم حزب البعث في بقاء سلطة النظام واستمرارها، من خلال توسيع قاعدتها اجتماعياً، حيث سعى إلى إدخال جموع كبيرة من الشغيلة والفلاحين في مؤسساته ومنظماته، لكنه اُستخدم في الوقت نفسه كأداة لقتل السياسة في المجتمع. وأنتجت السياسة السلطوية، منذ ثمانينات القرن الماضي، نمطاً من الإذعان، مُورس على مختلف التكوينات الاجتماعية. نهض على قوة من الضبط والمراقبة، الرمزية والمادية، طالت الجميع. فيما راحت السلطة تمارس الإجحاف والتفتيت والتخريب بحق مختلف تكوينات ومركبات المجتمع السوري، وبحق الوطنية السورية. والمفارقة في الأمر هي أن معظم السوريين، وخصوصاً من جيل الشباب، عاشوا ازدواجية مقيمة، ما بين ما يسمعونه ويلقنون به من شعارات إيديولوجية ومقولات وأهداف قومية وعروبية، عابرة للوطنية السورية، ومتعالية عليها، وبين ما يرونه على أرض الواقع السوري، ويعيشونه في مختلف تفاصيل حياتهم اليومية، من انتماءات وعلاقات وممارسات مذهبية وطائفية واثنية ما دون وطنية. وتطرح، اليوم، مهام كثيرة على قوى التغيير الديمقراطي، من أجل بناء دولة وطنية سورية، تنهض على عقد اجتماعي جديد، يجسد قيم ومبادئ المواطنة والتعددية والديمقراطية، ويفتح صيرورة لاندماج اجتماعي، ولصيرورة شعب سوري، يحمل هوية وطنية جامعة.
المستقبل
أكرم البني
عمار ديوب
سلوى أكسوي
أنور مالك
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة