نواف القديمي
تصدير المادة
المشاهدات : 4832
شـــــارك المادة
منذ اشتعلت احتجاجات الربيع العربي، وحتى ظهور داعش وتمددها، بدا هذا المشرق عصيّاً على التنبؤ والاستشراف. وبالتزامن مع طغيان الظاهرة التلفزيونية، المتوائمة مع نمط الوجبات السريعة في التحضير والتقديم، تتعملق الظواهر، وتتغير الخرائط، وتنفجر المكبوتات، من دون أن تحظى بما يلزم من دراسةٍ متأنيةٍ، وفهمٍ لدواعي النشوء وسواقي التغذية والنمو. وبسبب ذلك، وخارج فضاء التجاذب الفكري والسياسي،
لم يحظ التنظيم الذي طغى على المشهد السياسي في سورية والعراق، تحت اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" بدراسةٍ بحثيةٍ موسعةٍ، تسعى إلى تفسير وتحليل أسباب نشوء وتشكّل هذا التنظيم، الذي غدا الأكثر غموضاً وتطرفاً وتمدداً وتقويضاً لجغرافيا الدولة الوطنية الحديثة.
ربما، ليس أيٌّ من التفسيرين، الاجتماعي السياسي والعقائدي اللاهوتي قادراً، بمفرده، على الإجابة عن تساؤلاتٍ مركّبة ترافق حضور هذا التنظيم و"تمدده"، وتزايد أعداد المنتمين إليه، وقوته المالية والإعلامية، بشكلٍ فاق توقعات أكثر المحللين مجازفة في استشراف ما يحدث في سورية والعراق.
في السادس من أغسطس/آب الجاري، كتب الدكتور عزمي بشارة مقالاً مهماً في "العربي الجديد" بعنوان "من يقف خلف داعش؟ سؤال عقيم"، شرح فيه كيف بدا التراشق السياسي هو الطاغي في ثنايا البحث عن "الطرف" الذي يقف خلف تأسيس تنظيم داعش، باعتبار أن وجود طرف سياسي، دول على وجه الخصوص، أنشأ هذا التنظيم، للاستفادة منه في إفشال مشروع الخصوم، بات أمراً مُسلّماً به، وخارج دائرة التفكير والاختبار. فيما هو لا يعدو أن يكون تكراراً لما جرى كثيراً في التاريخ السياسي الحديث، من ناحية استثمار كل طرف ما هو متاح لتبشيع الخصم السياسي وشيطنته، واعتباره مصدراً لكل الشرور والموبقات.
وإذا كان الصراع السياسي المحتدم أنتج تراشقاً في الاتهام بالمسؤولية عن تأسيس هذا التنظيم، بهدف الإدانة، واستثمار المناخ الدولي القلق من تنامي ظاهرة الإرهاب، فإن لنشوء "تنظيم الدولة الإسلامية"، من دون شك، ظروفاً موضوعية، هي التي أدت إلى تشكّل هذا التنظيم ونموه وتمدده، وهي المساحة التي لم تحظ بعد بما تستحقه من تقصٍ وتحليل. وقد ألمح الدكتور بشارة إلى بعض هذه الأسباب في مقاله القصير. وإذا كان النزوع المؤآمراتي والخصومة السياسية هما اللذان أنتجا سؤال: من يقف خلف داعش؟ فإن الهمّ المعرفي والبحث عن مصلحة الجماعة العربية ومستقبلها هما اللذان يضعاننا، اليوم، أمام سؤال: كيف تشكّلت داعش؟ "ليس أيٌّ من التفسيرين، الاجتماعي السياسي والعقائدي اللاهوتي قادراً، بمفرده، على الإجابة عن التساؤلات المركّبة التي ترافق حضور تنظيم داعش وتمدده"
ولا يمكن استسهال الإجابة عن هذا السؤال، بمجرد اعتبار داعش تطوراً منطقياً للسلفية الجهادية، ولا بكونها امتداداً طبيعياً للمدرسة الوهابية النجدية، ولا باعتبارها نتيجة متوقعة لتنامي الاستبداد والتهميش والحروب والبطالة التي سادت دوائر واسعة من المجتمعات العربية.
من المؤكد أن لنشوء داعش علاقة بذلك كله. لكن، لا يمكن لأيٍ من هذه القوالب التفسيرية أن تقدم إجابات متماسكة لأسئلةٍ كثيرة ممتدة بحجم الجغرافيا التي بات يهيمن عليها هذا التنظيم.
محاولة توصيف..
سأحاول، فيما يلي، أن أسجل ملامح في الخطاب السياسي والسلوك الميداني لتنظيم "الدولة الإسلامية" اللذين يجعلانه، في تقديري، متمايزاً عن التنظيمات الجهادية التقليدية، وخارج قوالب التفسير المألوف لنشوء هذه التنظيمات: 1- فمن ناحية، نحن أمام "تنظيم عقائدي وسياسي"، يمثّل أقصى حالات التوحش والساديّة والغلو الديني والعنف العسكري، إلى درجة بدا معها تنظيم القاعدة، الذي تسيد زمناً المربع الأخير في اليمين الديني والسياسي، معتدلاً وقابلاً للحوار، بل وصلت المفارقة إلى درجة أن غدا خطاب القيادات الشرعية التاريخية لتنظيم القاعدة لا يفتأ يُحذّر من الغلو والتكفير وفكر الخوارج الذي يرونه تجلى بأبشع صوره في سلوك تنظيم داعش.
2-ومن ناحية أخرى، ومع كل هذه الصلابة العقائدية، نحن أمام تنظيم يمثّل حالة متقدمة من البراغماتية والانتهازية السياسية، في سلوكه على الأرض، وفي اختياره معاركه، وفي تقديره الأوزان العسكرية للدول والقوى المحيطة به، والتعامل معها وفق ذلك. ولهذا السلوك البراغماتي شواهد كثيرة. منها ما فعله تنظيم الدولة الإسلامية، حين بقي، أكثر من عام، يخوض معارك شرسة ضد الفصائل الثورية في سورية، وكثيرٌ منها منتمٍ بشكل ما، يزيد أو ينقص، للسلفية الجهادية، في حين أن جبهاته الواسعة مع النظام، الذي يعتبره نُصيرياً كافراً، هادئة، ومعاركه معه لا تكاد تُذكر. "الهمّ المعرفي والبحث عن مصلحة الجماعة العربية ومستقبلها هما اللذان يضعاننا، اليوم، أمام سؤال: كيف تشكّلت داعش؟"
ولو نظرنا إلى خريطة المساحات التي يهيمن عليها تنظيم داعش في سورية، لوجدنا أن جميعها مساحات مُنتزعة من الفصائل الثورية، لا من النظام السوري. وفي المقابل، نجد أنّ النظام السوري تجنّب، عمداً، خلال هذا العام، الدخول في أي مواجهات تُذكر، أو قصف المواقع والمدن التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (يمكن المقارنة مثلاً بين قصفه حلب والرقة)، بل كان النظام يتعمّد، كما في شواهد كثيرة، مقاتلة وقصف أي فصائل ثورية تدخل في مواجهات ومعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية، وكأنه يخوض معه المعركة نفسها. أيضاً، رأينا مقدار تشدد تنظيم الدولة الإسلامية في هدم كل المراقد والمزارات والأضرحة، حتى تلك التي تُنسب إلى الأنبياء والصحابة، باعتبارها مظاهر شركيّة. لكن، حين تعلق الأمر بضريح جد العثمانيين "سليمان باشا" الموجود داخل سورية، وفي المناطق الخاضعة لتنظيم الدولة الإسلامية، فلم يكتفِ التنظيم بالامتناع عن هدمه، بل سهّل دخول القوات التركية للضريح وحماها. وحتى الآن، تقوم قوات داعش بحمايته، ولم تتعرض له بالهدم.
أيضاً، فيما يخص علاقة تنظيم الدولة الإسلامية بالفصائل المسلحة في سورية، ففي وقت تخوض فيه داعش معارك شرسة، لا تخلو من نزعات انتقامية، وإعدامات ميدانية، وقطع رؤوس أسرى، وخطاب تكفيري حاد مع فصائل محسوبة على السلفية الجهادية، مثل جبهة النصرة وأحرار الشام وسواهما، فإن التنظيم، في المقابل، قَبِل بمبايعة فصائل مسلحة وولائها، هم أقرب لقطاع طرق وجباة أموال ومليشيات ارتزاق، وكثيرٌ من هذه الفصائل بايعت تنظيم الدولة الإسلامية، لدوافع مادية، أو للاحتماء بها، من العقاب الذي فرضته عليها الهيئات الشرعية (كما تكرر ذلك مراراً في ريفي حلب ودير الزور وسواهما). ومن الشواهد أيضاً، يمكن أن نذكر قدرة تنظيم الدولة الإسلامية على معرفة المناطق التي تُمثل خطوطاً حمراء لدول مؤثرة وعدم اقتحامها (كما في أربيل التي تُمثّل خطّاً أحمر أميركياً، وبغداد ومناطق الكثافة الشيعية في العراق التي تُمثل خطاً أحمر إيرانياً)، فضلاً عن عدم فتح هذا التنظيم جبهات مع قوات النظام السوري، سوى باستثناءات محدودة، على الرغم من الحدود الواسعة بينهما. لذلك، تجد أن كل المدن التي تخضع، الآن، لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، هي مدن مُنتزعة من الفصائل الثورية، ولم تنتزع داعش أي مدينة من النظام السوري، لأنها، في الأصل، لا تخوض معارك معه. وثمّة شواهد أخرى عديدة على هذا السلوك المفرط في البراغماتية لتنظيم الدولة الإسلامية.
3-لا يمكن اعتبار تنظيم الدولة الإسلامية مجرد تطور طبيعي للسلفية الجهادية، أو للمدرسة الوهابية، ففي وقت تتباين فيه المرجعيات المدرسية للسلفيات الجهادية في العالم العربي (مثلاً جماعة الجهاد في مصر اتكأت في تأصيلها مواقفها على نصوص ابن تيمية وفتاويه، مع استلهامٍ لأفكار المفاصلة لدى سيد قطب).
في المقابل، كانت التنظيمات الجهادية في الجزائر والمغرب تعتمد على تراث المذهب المالكي، في تأصيل التكفير والقتال، خصوصاً التراث الذي تكوّن، في المرحلة التي هيمنت بها الدولة الفاطمية على المغرب العربي الذي ينتمي معظم سكانه للمذهب المالكي، فتراكم تراثٌ لفقهاءٍ مالكية يكفّر السلطة الفاطمية، ويدعو إلى الخروج عليها. فيما كانت التنظيمات الجهادية في الشام والعراق والخليج أقرب لاستلهام نصوص المدرسة النجدية الوهابية في التكفير والقتال). لكن تنظيم الدولة الإسلامية يبدو خارج هذه الدوائر جميعها، فهو تنظيم، على الرغم من امتداده وكثرة المنتمين إليه، لم يُصدر تنظيراً شرعياً تأسيسياً موسّعاً لمواقفه العقدية والسياسية، يمكن الاعتماد عليه ودراسته، وما أصدره لا يعدو أن يكون تأصيلاً لاحقاً ذا طابعٍ تبريريٍ جدلي، كما لا تنتسب لهذا التنظيم أيٌّ من الشخصيات الشرعية المعروفة، والمؤثرة في الوسط الجهادي، ويخلو من أي شخصية شرعية لها وزن. بل إن جميع الشخصيات الشرعية التاريخية المرموقة في الوسط الجهادي، أو المؤثرة عليه (من أمثال أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وأبو بصير الطرطوسي، وسليمان العلوان، وهاني السباعي، فضلاً عن زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري) أصدرت بياناتٍ متعددة، تُحذر من غلو تنظيم الدولة الإسلامية، وتساهله في التكفير وسفك الدماء، وعدم شرعيّة إعلانه الدولة ثم الخلافة.
4-وفي مقابل خلو تنظيم الدولة الإسلامية من شخصيات شرعية معتبرة، تتصدر السلّم القيادي لهذا التنظيم شخصيات عسكرية، معظمهم كانوا ضباطاً في الجيش العراقي البعثي زمن صدام حسين، (مثل حجي بكر، وأبو مسلم التركماني، وأبو عبد الرحمن البيلاوي، وأبو أحمد العلواني، وأبو مهند السويداوي، ومحمد الندى الجبوري، وسواهم).
فوجود مثل هذه الأسماء على رأس تنظيم الدولة الإسلامية، من دون أن يكون لها أي سابقة، أو تاريخ في العمل الجهادي، ومن دون أي مخزون شرعي أو "ثقافة جهادية"، أو تطور منطقي في تراتبية التنظيم والولاء، تبرر قيادتهم تنظيماً، يقع في أقصى يمين السلفية الجهادية، هو أمرٌ يثير أسئلة مشروعة عن الدوافع المحركة لهذه القيادات، وطبيعة هذا التنظيم وظروف تكوّنه، وعن مدى وجود "بنية نظرية صلبة" لدى هذه القيادات تُمثل محركاً رئيسياً للقيام بهذا "المشروع الجهادي".
يمكن اعتبار ما سبق بعضاً من مناطق التمايز والاختلاف بين تنظيم الدولة الإسلامية وما ألفه الدارسون، على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، من تنظيماتٍ تنتمي للسلفية الجهادية. لذلك، حين نبحث في أسباب نشوء هذا التنظيم، ونقيّم خطابه الشرعي وسلوكه السياسي والعسكري، يجب أن نأخذ هذه التباينات بعين الاعتبار.
ويبقى السؤال: كيف استطاع تنظيم الدولة الإسلامية امتلاك كل هذه القوة العسكرية، والامتداد الجغرافي، وتوفير هذا الكم من التمويل والتسليح، والقدرة العالية على التعبئة والحشد في مواقع التواصل الاجتماعي ومقاطع اليوتيوب والأفلام التوثيقية؟ وقبل ذلك كله، كيف استطاع كسب آلاف الأنصار والمقاتلين، مع وجود هذا الكم من التوحش والشغف بالقتل، وعلى الرغم من انتقاد واتهام جميع الشخصيات الشرعية المعتبرة للحالة الجهادية لهذا التنظيم؟ خصوصاً إذا ما قورن ذلك كله بالإمكانات المتواضعة للتنظيمات الجهادية الأخرى في الساحة السورية والعراقية.
العربي الجديد
مجاهد مأمون ديرانية
أبو عبد الرحمن التميمي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة