عباس شريفة
تصدير المادة
المشاهدات : 3981
شـــــارك المادة
تمر الثورة السورية في هذه الأيام بمنعطف خطير وتحول كبير في قواعد الصراع، يضيف الى الصراع العسكري صرعاً سياسياً لا يقل ضراوة وشراسة عن المعركة العسكرية. هذه المعركة السياسية تُخاض على ثلاثة مستويات: 1-على مستوى الإسلاميين فيما بينهم في تحديد سقوفهم الدنية المقبولة والخطوط الحمراء التي لا يجوز المساس بها. 2- وعلى مستوى العلاقة بينهم وبين العلمانيين في صراع هوية الدولة وتحديد هويتها. 3- وعلى مستوى النظام العالمي والمحاور الدولية المتفاوتة في نظرتها لحل المسألة السورية. هذا الأمر يتطلب من التيار الإسلامي في الثورة السورية أن ينجز ثلاثة تحديات قبل الخوض في المعترك السياسي الداخلي والخارجي: إيجاد الجسم السياسي المخول بإدارة الملف السياسي للثورة السورية؛ ثمثيلاً ومفاوضة وتواصلاً . بلورة المشروع السياسي في رؤية واضحة نستطيع تسويقها لدى الرأي العام العالمي؛ خصوصاً مع المحور الذي يقترب من رؤيتنا ومطالبنا. تهيئة القواعد والجنود لتقبل الاستحقاق السياسي، وتحقيق النقلة الشعورية من الجهاد العسكري إلى الجهاد السياسي؛ حتى تعمل القيادة على قاعدة صلبة من الثقة بينها وبين قواعدها. تعاني الحركة الاسلامية أزمة حقيقية في تحديد الموقف المناسب بين الرخصة والعزيمة السياسية منها والجهادية، ذلك أنها تدخل ميدان السياسة بروح قتالية وترفّع عن الرخص. هنا لا بد أن نتين معنى الترخص السياسي: الرخصة في الشرع " (ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح ) روضة الناظر وجنة المناظرج 1 ص 190 وقال الآمدي : "الرخصة: قال أصحابنا الرُّخْصَةُ مَا جَازَ فِعْلُهُ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ، وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ، فَإِنَّ الرُّخْصَةَ كَمَا قَدْ تَكُونُ بِالْفِعْلِ قَدْ تَكُونُ بِتَرْكِ الْفِعْلِ، كَإِسْقَاطِ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ. فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُقَالَ: الرُّخْصَةُ مَا شُرِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ لِعُذْرٍ". الإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 132 يقول سفيان الثوري كما روى عنه الإمام النووي في مقدمات المجموع هذه الكلمة المضيئة: "إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد". وهنا لا أدعي أن العمل السياسي هو من الرخصة؛ بل قد يكون من أمهات العزائم وتتويج لجهاد طويل، لما فيه من مجاهدة للنفس التى تأبى قبول تحقيق جزئي لمطالبها وتتطلع الى أخذ المطالب كاملة غير منقوصة. هنا على القيادة وهي تدير العمل السياسي معرفة قدرات الأفراد لدى الجماعة، فهي التي تحدد إيقاع السير وإمكانيات المواجهة قبل اتخاذ القرار الجهادي والسياسي، وهو الضامن لنجاح القيادة في تحريك الجماعة نحو غايتها. فالقيادة التي تتخذ قرارها دون معرفة لقدرات أفراد الجماعة قد تسوقها بذلك الى الإنتحار والتهلكة بتحميلها من التحديات ما لا تطيق. وهنا نقصد القدرات المادية في تحمل الأعباء، والقدرات الإدراكية في استيعاب المرحلة واستحقاقاتها . جاء في الحديث الصحيح (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه ، قالوا : و كيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء ما لا يطيق " . قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 172 : رواه الترمذي ( 2 / 41 - بولاق ) و ابن ماجه ( 4016 ) و أحمد ( 5 / 405 ) وبنظرة إلى السلوك السياسي الرشيد للقيادة النبوية نلاحظ: لم يفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب والمواجهة على الأنصار يوم بدر وما قرر الحرب إلا بعد موافقتهم، واستشارتهم فجعل من قرار المواجهة خياراً عاماً اشتركت الجماعة في صياغته، وهذا يستدعي الجماعة أن تتحمل مسؤوليتها كاملة أمام النتائج. مصادرة قرار الأمة سيجعل القرار فاقداً للتأييد الشعبي منفصلاً عن قواعده، وقد ينظر إليه على أنه نوع من الافتئات، فما بال البعض يريد أن يزج الأمة في محاربة العالم ودون أن توكله الأمة بقرارها؟! هنا لا بد للقيادات أن تحذر من الخطوات المتسارعة والقرارت المفاجئة التي لم تتهيأ القواعد لتقبلها، ولا تغتر بأصحاب السقوف العالية فأن السير على سير الأقوى يؤدي إلى تساقط الأفراد في طريق الدعوة والجهاد حال نفاد الطاقة، لأنه من المسلم به بداهة تفاوت البشر بالقوة والتحمل؛ وهذا التفاوت وُجِد حتى بين الأنبياء فأولو العزم من الرسل ليسوا كغيرهم من الأنبياء. والسير على سير الأضعف قد يؤدي الى تأخر الحصاد، ولكنه يحافظ على تماسك الجماعة؛ وذلك برفع همة المبطئين وكبح جماح المتسرعين؛ فتلتقي الجماعة عند نقطة وسط. هنا لا بد من التمييز بين الضعف والوهن نراعي حالة الضعف ولا ننساق بالتنازل لإرضاء الواهنين. فالمحافظة على تماسك الجماعة مع تأخر الوصول والحصاد خير من تفتيت الجماعة مع سرعة الوصول ولن يكون هناك حصاد، كما أن تخفيف الصلاة مع تكثير الجماعة أولى من إطالة الصلاة مع افتتان بعض المصلين بترك الجماعة. لذلك كان التوجيه النبوي للأمة أن تسير على سير الأضعف، وكانت التوجيهات النبوية في هذا المضمار صارمة واضحة؛ فلاينبغي للأمير أن يحمل الأمة على العزيمة كرهاً وإن أخذ بها في خاصة نفسه. هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاهراً متحدياً وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا موارياً، ليس لأن عمر أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن فعل عمر يبقى تصرفاً شخصياً، وفعل رسول الله محل اقتداء وتأسٍّ، فلو فعل ذلك لشق على أصحابه المتابعة. حتى في قضية الجهاد ذروة سنام الإسلام كان يتخلف عن الغزوة شفقة بأمته، قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أنْ أشقَّ على المسلِمينَ؛ ما قعدتُ خلافَ سَرِيَّة تغزُو في سبيلِ اللهِ أبداً؛ ولكنِّي لا أجدُ سَعَة فيتبعُوني، ولا تطيبُ أنفُسُهم فيتخلفونَ بعْدي. ) أخرجه البخاري (36) ، ومسلم (6/33) ، وأبو عوانة (5/24) ، والبيهقي(9/157) ، وأحمد (2/ 231 و 384) والمتتبع لكثير من أحاديث السنة يجد امتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير من الأعمال التي يحبها لكنه يمتنع خشية أن تفرض على أمته، كما أمتنع عن الخروج للتراويح مخافة أن تفرض على أمته فيشق الأمر عليهم. مشكلة بعض الجماعات الإسلامية يبطلون الاستدلال بالسيرة النبوية وبما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تشابهت الحالة ضعفاً ومكنة، بناء على أن ما فعل في السيرة حال الاستضعاف وقع لما كانت الشريعة لم تكتمل أما وقد اكتملت شريعة الله تعالى فلا يجوز ذلك بحال . بل إن منهم من يبطل كل العمل السياسي بآية السيف ويضع الأمة أمام خيارٍ أُحادي لا يقبل التعدد، وهذا خطأ بيِن لأننا لا نقول بأن التزام الجماعات الإسلامية بمراحل السيرة النبوية وإسقاط مراحلها على عمل الجماعة هي مسألة توقيفية . وإنما نقول أن ارتباط التكليف بالقدرة حكم ثابت لا يلغيه اكتمال الشريعة بل هو من كمال الشريعة وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في السيرة من الترخص وترك العزيمة هو من هذا الباب، وكثير من الأحاديث الصحيحة التي تبدأ ( لولا أن أشق على أمتي ) وجدنا من يحمل الأمة على العزيمة في زمن الاستضعاف بطريقة التلبيس في توصيف الحالة عن طريق ضخ ثقافة معينة لا تتحملها الساحة بل تتطلب غيرها تماماً . كمن يُدَرِسُونَ أحكام جهاد الطلب في ساحةٍ الجهادُ فيها جهاد الدفع لسبب وحيد أنهم لايعرفون الجهاد إلا فرعاً عن التكفير. بعض التيارات الإسلامية تُعرض عن الرخصة إلى العزيمة لا لقناعتها وليس ورعاً؛ وإنما بسبب دخول مراتون من المزايدات مع الجماعات الأخرى التي تنتظر منها هكذا خطوة لتقلب مزاج الأتباع على قادتها وكسب أتباع جدد، من خلا ل المتاجرة وتصوير الرخصة بالخيانة وكذلك التزي بأردية الزور والتشبع بالمفقود لدغدغة عواطف الأتباع الذين يطربون لهذا النوع من الخطابات والشعارات. فقد عرفنا كثيراً من القادة أعرضوا عن إصلاحات وترددوا في قرارات مصيرية وتركوا أمر رشدٍ خوفاً من خسارة بعض الأتباع السفهاء الذين قد يفسرون الرخصة طعناً في الدين وخيانة لله ورسوله، حتى غدت خشية القادة من الأتباع أكثر من خشية الأتباع للقادة حرصاً على عدم تخلخل الجماعة. وهكذا نجد قيادات التيار الاسلامي تخرج في رسم سياستها من دوائر السياسة الشرعية الى التقيد بمزاج القوى النافذة داخل تياراتها وهكذا تهدر مصالح الأمة في سبيل الحفاظ على الفصيل، فتعيش القيادة حالة من الحجر على التصرفات والقرارات الشرعية في مؤداها من خلال إحاطتها بمجالس شورى صورية ليس مهمتها تقديم الشورى بقدر ما تكون مهمتها ممارسة الحجر على القيادة وتعطيل القرارت المصيرية، والسبب نوع التغذية التربوية التي نما عليها هؤلاء ضمن القوالب الجامدة؛ والتي يبوء بإثمها موجهون أساؤوا التربية بالتثقيف الأحادي الذي يراعي الحالة العسكرية الجهادية فقط، فلما وصلوا إلى مرحلة القطاف السياسي للجهد العسكري وجدوا القاعدة غير مهيأة للانتقال إلى الجهاد السياسي أو حتى أن تقبل رؤية قياداتها تخوض غمارها بسبب فقد التوازن في التوجيه والإعداد، فالنظرة إلى العمل السياسي عند أبناء التيار نظرة مفعمة بالتخوين وسوء الظن، وهذا بسبب ضعف التدبر للسيرة النبوية. نجد في الحديبية الأيادي التي امتدت لصلح الحديبية كاستحقاق سياسي هي نفس الأيادي التي امتدت لبيعة الموت تحت الشجرة قبلها، فالتربية الجهادية والسياسية تسير سواء بسواء. كان هناك من يرى القرار السياسي للقيادة النبوية إعطاء للدنية ولكن الأغلبية كانت على ثقة بكل ما يصدر عن قيادتها، رغم الشروط التي كان يراها البعض مجحفة بحق المسلمين، ولكن ما لم يفطن له الكثير أن أعظم نصر للمسلمين في الحديبية هو حصول المسلمين على اعتراف بهم ككيان ودولة تبرم المعاهدات، وهذا من أهم العوامل لقيام الدولة مما لا يفطن له أبناء التيار الإسلامي الذين يبحثون عن شكل دولة دون اعتراف من المجتمع الدولي بها. زمن الأمثلة على دعم قرارت القيادة وأهمية عامل الثقة في قضية تحول القبلة: لقد كان تغيير القبلة أمراً عظيماً على قلوب أصحاب رسول الله، وكانت الحكمة ليعلم الله من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، ولكن لما كانت التربية الإيمانية لأصحاب رسول الله راسخة وثقتهم بدينهم ورسولهم كان التسليم المطلق، حتى إنهم غيروا اتجاههم بعد ركعتين من صلاة رباعية بأثناء الصلاة وسمي المسجد مسجد القبلتين. قال تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }(143) البقرة في الآية ملحظ لطيف وهو: تقدير الجهد السابق للجماعة له أثره في ارتضاء الأمر اللاحق، هذا لما كانت الجماعة على حالٍ واحد من الايمان والتسليم، ولكن بعد الفتح مجرد تصحيح القبلة لم تُقدِم عليه القيادة النبوية لعدم الثقة بمسلمة الفتح حديثي العهد بالجاهلية، ثم إن تصحيح القبلة ليس مكسباً استراتيجياً حتى يشوش الناس من أجله؛ فتركه كان عين السياسة الرشيدة، أما تحويل القبلة فكان خطوة لا بد منها لتحقيق المفاصلة في الهوية مع أهل الكتاب والاستقلال بقبلة خاصة بالمسلمين. من هنا نخلص إلى ما يلي: لابد للفصائل المسلحة في سوريا من مد جسور الثقة بينها وبين قياداتها قبل الخوض في غمار العملية السياسية، حتى تنجح القيادة في العبور مع الفصيل من الجهاد والنصر العسكري إلى النصر السياسي، تحاشياً لحملات التخوين والتفسيق والإتهام بإعطاء الدنية، مما يودي إلى إجهاض المكاسب السياسية للثورة السورية والعودة إلى نقطة الصفر وخسارة أوراق القوة في مقامرة التخوين، وتضييع لمرحلة طويلة من البذار والجهد والحراثة. فالخطأ عند جني الثمرة سيهدر جهداً طويلاً قد يتطلب منا انتظار دورة زراعية أخرى حتى تنضج الثمار من جديد.
أحمد بن بازز
محمد العبدة
رابطة خطباء الشام
حاتم العوني
بعد هذا التشخيص الجميل لواقع الفصائل نرجو من شيخنا توضيح الطريق الواجب على القادة اتباعه للتعامل الشرعي مع هذا الواقع .
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير