..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

بين نوع الدولة وهُويّتها

مجاهد مأمون ديرانية

٢١ سبتمبر ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2838

بين نوع الدولة وهُويّتها
مامون +00.jpg

شـــــارك المادة

بدأ منذ ثلاث سنوات جدلٌ طويل بشأن الدولة السورية الجديدة لمّا يَنْتَهِ حتى الآن. والذي أراه أن هذا الجدل سابق لأوانه، فمن العبث الاختلاف على جلد الدبّ قبل صيده كما يقول المثل العاقل، ثم إنه لا يمكن حسمُه إلا بمشاركة المَعنيين بآثاره ونتائجه؛ أقصد الملايين من أحرار سوريا الذي ثاروا على نظام الظلم والإجرام والاستبداد الأسدي ليستبدلوا به خيراً منه، وهؤلاء أكثرُهم مشغولون اليوم بدفن مَوتاهم ومعالجة جَرحاهم، والبحث عن مدارس يتعلم فيها أولادُهم، وبيوت يسكنون فيها بدلاً من بيوتهم التي دمرتها البراميل أو خلّفها النزوحُ وراء ظهورهم، فهم أبعدُ ما يكون المرء عن الاهتمام بمستقبلٍ لا يَعرف: أيأتي بعد سنة أو بعد عشر سنين؟

مع ذلك فإنني أميل إلى بحث المسألة بإيجاز، من باب تضييق الخلاف بين الأطراف، ورجاءَ الاتفاق على الحد الأدنى الذي يرضى به الجميع، فإنّ مثل هذا الاتفاق يوفر الوقت الضائع في الجدل، ويجمع الجهود والطاقات للوصول إلى الهدف المتفق عليه.

*   *   *

يذهب فريقٌ من أهل الثورة إلى المطالبة بدولة إسلامية، ويطالب آخرون بدولة مدنية. وقد اكتشفت بعد متابعة طويلة لمناقشات الطرفين في الفضاء الثوري أن جزءاً كبيراً من نقاشهما هو "حوار طرشان"، لأن أحد طرفيه يناقش أمراً يختلف تماماً عن الأمر الذي يناقشه الطرف الآخر!

الذين يطالبون بدولة إسلامية يتحدثون عن "هُويّة" الدولة ولا يناقشون "القالب" الذي يريدون تفريغ الهوية فيه، والذين يطالبون بدولة مدنية يتحدثون عن قالب الدولة وشكلها ونوعها ولا يتحدثون عن هويتها. ولو فهم الطرفان الفرق بين نوع الدولة وهويتها لَحُلَّت ثلاثة أرباع المشكلة.

*   *   *

سأضرب مثالاً من شأنه توضيحُ الفرق بين النوع والهوية (أو بين الشكل والمضمون): إذا ذهب تاجرٌ إلى وزارة التجارة لتسجيل شركة جديدة فإنهم يسألونه: ما نوع الشركة التي تريد تسجيلها؟ فإذا قال: أريد تسجيل "شركة إسلامية" فإنهم يقولون: لا يوجد في تصنيف وتعريف الوزارة شركة بهذا الاسم، فما قصدك؟ يقول: أريد شركة تطبّق شرع الله في البيع والشراء فلا تستبيح حراماً ولا تعطل فريضة.

 

سيقولون: هذا شأنك، سجّلْ أيَّ شركة تريد، ثم احرصْ على الوفاء بالحقوق الشرعية وتجنَّبْ المعاملات المحرَّمة تكن شركتك إسلامية. أوفِ بالعقود، أتقِنْ عملك، امنَحْ موظفيك وعمالك ما يستحقون فلا تأكل عليهم رواتبهم ولا تؤخرها عنهم، لا تقترض من البنوك بالربا، لا تغشّ ولا تحتكر، تجنب الاتّجار بالبضائع المحرَّمة... إلى غير ذلك من القيود والأحكام التي تعرفها عن التجارة والمعاملات الشرعية، فتصبح شركتك "إسلامية". أمّا التسجيل فلا بد من اختيار "نوع" من الأنواع التي تعرفها وزارة التجارة وتعترف بها: شركة مضاربة، شركة محاصصة، شركة ذات مسؤولية محدودة، شركة مساهمة عامة... إلى آخر هذه الأنواع.

*   *   *

نعود الآن إلى مشكلة الدولة. ما معنى وصفها بأنها دولة مدنية؟ معناه أنها دولة مؤسسات وقانون، معناه أنها ليست دولة عسكرية يحكمها العسكر، ولا دولة شمولية يحكمها حزب واحد، ولا دولة دينية (ثيوقراطية) أو فردية (أوتوقراطية).

هذا هو "نوعها"، أما "هويتها" فسوف تحددها مرجعيّتُها الدستورية وقوانينها وأنظمتها، فالدولة العسكرية التي يحكمها الجنرالات قد تكون هويتها شيوعية (كما في بورما مثلاً) وقد تكون نصرانية أرثوذوكسية (كما صارت اليونان بعد انقلاب سنة 1967). والدولة الشمولية التي يحكمها الحزب الواحد قد تكون هويتها بعثية (كالعراق سابقاً) أو نازية (كما في ألمانيا الهتلرية). والدولة الدينية يمكن أن تُحكَم بأي دين أو مذهب (كالنصرانية الكاثوليكية في الفاتيكان والمذهب الشيعي في إيران). والدولة الأوتوقراطية التي يحكمها الفرد المستبد قد يكون حاكمها من أي دين فيفرض دينَه على الأمة (كما صنع شاه إيران الذي فرض العلمانية على إيران وكما صنع القذافي بدينه الأخضر المزعوم).

قد يستغرب بعض القراء لو قلت إن كل أنواع الدول المذكورة يمكن أن تكون إسلامية! فإننا نجد في تاريخنا الماضي أن أكثر الدول كانت أوتوقراطية، كالدولة العباسية والدولة العثمانية. ومنها دول عسكرية كدولتَي السلاجقة والمماليك، ودول ثيوقراطية كدولتَي الموحدين والعبيديين (الفاطميين)، ويمكن أن نمثل للدولة الشمولية الإسلامية بحكم طالبان في أفغانستان.

*   *   *

لمّا كان نوع الدولة لا علاقة له بهويتها -كما رأينا آنفاً- فإن من العبث أن نختلف على الشكل والنوع ونحن نظنّ أننا نختلف على الدين والهوية. فما أراه فريضةَ الوقت هو أن يتفق أحرار سوريا ويبذلوا غاية الجهد للوصول إلى دولة مدنية من حيث الشكل والنوع، دولة قانون ومؤسسات تمنع الظلم والاستبداد والجَبْر والتوريث، لأن هذه الدولة هي التي تحقق أحلام السوريين جميعاً في الحرية والكرامة والاستقلال.

بعد ذلك من حق كل فريق أن يدعو إلى الهوية التي يحملها وأن يسعى إليها "بالوسائل المشروعة". وهذا القيد يُخرج الجَبْرَ والتسلط والتغلّب من المعادلة، فلا يحق لأي طرف أن يفرض على المجموع الهويّةَ التي يريدها بالقوة، ومن حق الشعب أن يثور على أي متغلّب كما ثار على النظام الأسدي المستبد. كل استبداد مرفوض، حتى لو كان باسم الدين، فقد علّمَتنا تجاربُ التاريخ المريرة أن الدين الذي يأتي مع الاستبداد لا يلبث أن يذهب بعد جيل أو جيلين، ويبقى الاستبدادُ ألفَ عام!

*   *   *

أنا لي رسالة في الحياة، وأحسب أن كثيرين في سوريا مثلي، فإننا نريد أن تصبح سوريا دولة حرة مستقلة تُحكم بالإسلام، ولكننا نأبى أن نصل إلى هذا الهدف النبيل بالقهر والتغلب والاستبداد، لأن عمر التغلب قصير وثمرته كريهة، فما فائدة أن يُجبَر الناس على الإسلام وهم له كارهون؟

أنا وأمثالي ندعو إلى الدولة المدنية التي تشكّل مرجعيّتُها الإسلاميةُ الصريحةُ جزءاً لا يتجزأ من إعلانها ومادةً عليا (فوق دستورية) في دستورها، فنقول إن ما نريده هو "دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية"، الإسلامُ أرضُها والسماء، فلا تتجاوزه مهما عَلَتْ ولا تتجاوزه مهما هَوَتْ. بذلك نضمن اعتماد القوانين والتشريعات التي لا تتعارض مع الإسلام، فلا تعطّل واجباً من واجباته ولا تُحِلّ محرَّماً من محرماته، ونضمن أيضاً إسنادَ السلطات إلى الأمة عبر ممثليها المنتخَبين دون ترك أي ثغرات لولادة حكم استبدادي فردي أو شمولي جديد في سوريا المستقبل بأمر الله.

 

 

 الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع