مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 4165
شـــــارك المادة
تروي كتب التاريخ أن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه أرسل إلى الشام أربعة جيوش بأربعة قادة وأربعة أهداف: حمص ودمشق والأردن وفلسطين، وكان عدد مقاتلي تلك الجيوش أربعة وعشرين ألفاً فيهم ألفٌ من الصحابة، منهم مئة من البدريين.
مضت ستة أشهر والجيوش الأربعة مشغولة باشتباكات محدودة على جبهات متفرقة دون أن تحقق نصراً يُذكَر. وبدأ هرقل بحشد جيش عظيم لقتال المسلمين، فلما علم أبو بكر بخبره أرسل إلى خالد بن الوليد يأمره بترك العراق والتوجه إلى الشام على جناح السرعة، فانطلق في رحلته المشهورة التي ما تزال لغزاً عسكرياً إلى اليوم، فقطع الصحراء بتسعة آلاف مقاتل في ثمانية عشر يوماً، وهي رحلة لم يُعرَف في ذلك الزمن أن أحداً قطعها في أقل من أربعة أسابيع.
* * *
وصل خالد إلى الشام فوجد الجيوش الأربعة متفرقة، كل واحد منها في ناحية. وكان جيش شرحبيل يقاتل على أسوار بُصرى وقد أوشك أن يتعرض لهزيمة قاسية، فأنجده خالد، وفُتحت بصرى صلحاً، فكانت أولَ مدينة كبيرة تسقط في أيدي المسلمين منذ بداية الحملة على الشام. عندئذ بدأ الروم بجمع قواتهم في أجنادين (وهي موقع قريب من القدس، بينها وبين غزة وعسقلان) وبدا أنهم مصممون على إخراج المسلمين من الشام، فقد كانت تلك أكبرَ قوة حشدوها في معركة واحدة حتى ذلك الحين.
دعا خالد الجيوش الأربعة إلى الاجتماع في أجنادين، وخاضت معاً مجتمعةً أولَ معركة حاسمة في بلاد الشام. بلغ عدد الروم نحو تسعين ألف مقاتل، أي ما يقارب ثلاثة أمثال المسلمين، لكن اجتماع جيوش المسلمين تحت قيادة واحدة عوّض نقص العدد والعدة. وهكذا تحقق أول نصر عظيم لجيوش فتح الشام في السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة الثالثة عشرة للهجرة، وتلاه انتصار كبير في مرج الصُّفَّر بعد ثلاثة أسابيع (وهو سهل واسع يمتد بين الكسوة وغباغب جنوب دمشق) ثم انتصاران كبيران في فحل وبيسان قبل نهاية السنة، وفي السنة التالية فُتحت دمشق، ثم فُتحت حمص في ربيع الثاني من السنة الخامسة عشرة.
أدرك هرقل أن بلاد الشام تكاد تخرج من ملك الروم إلى الأبد، فأمضى الأشهرَ التالية في تجميع واحدة من أكبر القُوى العسكرية التي عرفَتها أرضُ الشام على مَرّ التاريخ، حتى اجتمع له جيش يبلغ عدده نحواً من ربع مليون جندي، ونزل به على اليرموك. استشار أبو عبيدة أصحابَه (وكان عمر قد ولاه على جيوش الشام بعد وفاة أبي بكر) فأشار عليه أكثرهم بالخروج من الشام خوفاً على المسلمين من الفناء، وكانوا ثلاثة وثلاثين ألفاً، أي أن الروم كانوا يبلغون سبعة أمثال المسلمين. وأشار خالد بن الوليد بالقتال، فنزل أبو عبيدة على رأيه وولاّه قيادةَ المعركة.
حتى ذلك الوقت كان المسلمون يقاتلون متساندين، كل جيش من الجيوش الخمسة كيانٌ مستقل له أميرُه وتشكيله الخاص، وتتساند الجيوش في المعارك. فلما رأى خالدٌ جيشَ الروم كتلة متراصّة بتعبئة واحدة خاطب قادة الجيوش فقال: هل لكم -يا معشر الرؤساء- في أمر يُعزّ الله به الدين ولا تدخل عليكم منه نقيصة؟ إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه البغي ولا الفخر. أخلِصوا جهادكم وعملكم لله، ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار، فإن هذا لا ينبغي ولا يجوز.
قالوا: فما الرأي؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا قادة على الجيوش إلا وهو يرى أننا سَنَتياسر، ولو علم بالذي يكون لَجَمعكم في جيش واحد. إن الذي أنتم فيه من الفرقة أشدّ على المسلمين ممّا غشيهم وأنفع للمشركين من كثرتهم. ولقد علمت أن الدنيا فرّقت بينكم، فاللهَ الله، فقد أُفرِد كل أمير منكم ببلد من البلدان، ولا ينتقصه إنْ دان لغيره من الأمراء ولا يزيده إن دان له غيرُه. إنّ تأميرَ بعضكم عليكم لا ينقصكم عند الله، فهلمّوا، فإن هؤلاء قد تهيئوا واتحدوا ليوم له ما بعده، فإن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردّهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها.
قال أحمد عادل كمال في كتابه النفيس "الطريق إلى دمشق" يصف الجيشين يوم اليرموك: "خرجت الروم في تعبئة لم يَرَ الراؤون مثلها قط، وخرج جيش المسلمين في تعبئة لم يعرفها العرب قبل ذلك أبداً، فقد مزج خالد الجيوش الخمسة مزجاً تاماً حتى صارت جيشاً واحداً لا يمتّ إلى التقسيم الأول بصلة، فإذا تأملنا قطاعات الجيش الموحد وجدنا كلاً منها يشتمل على عناصر من الجيوش الخمسة الأولى، فلم يكن أي من الأمراء يوم اليرموك قائداً لجيشه الذي بعثه أبو بكر رضي الله عنه، وإنما كان كل أمير من الأمراء الأربعة قائداً لربع الجيش الموحد تحت قيادة خالد بن الوليد".
فثَمّ كان نصرٌ من أعظم الانتصارات العسكرية في التاريخ، فقُتل من الروم مئةُ ألفٍ وثلاثون ألفاً وتفرّق الباقون أشتاتاً في البوادي والشعاب، واستُشهد من المسلمين ثلاثة آلاف، وصارت بلاد الشام داراً للإسلام إلى آخر الزمان بأمر الله، والحمد لله رب العالمين.
وبعد، فإن خطاب خالد الذي خاطب به أمراء الجيوش في ذاك الزمان ما يزال صالحاً لخطاب الأمراء في هذا الزمان، وإنه لو بُعِث اليومَ حياً فرأى حالَ قادة الفصائل في الشام لما خاطبهم بغير هذا الخطاب.
فاللهَ الله يا أيها القادة، إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه البغي ولا الفخر. أخلِصوا جهادكم وعملكم لله، ولا تقاتلوا نظام الأسد وحلفاءه وأنتم أشتات متفرقون، فإن هذا لا يحل لكم ولا يجوز في عقل ولا دين. إن الذي أنتم فيه من الفرقة أشدّ على أهل سوريا من الكرب الذي غشيهم وأنفع للنظام من الكثرة والسلاح. لقد فرقت الدنيا بينكم وأُفرِد كل أمير منكم بفصيل من الفصائل، ولا ينتقصه إن دان لغيره من الأمراء ولا يزيده إن دان له غيره. إنّ تأميرَ بعضكم عليكم لا ينقصكم عند الله، فهلمّوا فوحدوا جمعكم ورصّوا صفكم، فإن أعداءكم قد تهيئوا واتحدوا ليوم له ما بعده، فإن غلبتموهم اليوم لم تزالوا غالبين، وإن هُزمتم لم تفلحوا بعدها أبداً لا قدّر الله.
هذا الخطابُ يخاطبكم به خالد بن الوليد من وراء حجاب القرون، فأين السامعون وأين المجيبون؟
الزلزال السوري
مظهر الويس
نجوى شبلي
إبراهيم السكران
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة