..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

الاندماج الانتحاري.. استنساخ الجيا

أمير سعيد

١١ يناير ٢٠١٧ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4694

الاندماج الانتحاري.. استنساخ الجيا
1427733339549380200.jpg

شـــــارك المادة

في شهادة لأحد ضباط "الحركة الوطنية للضباط الأحرار" الجزائرية، أبدى تعجبه الشديد فيها من صدور عفو شامل في أول نوفمبر 1989 عن الضباط المتورطين في التعذيب في وقت أفرج فيه عن عشرات من مسلحي "الحركة الإسلامية المسلحة" ح.إ.م التي ترك لها المجال لتتمدد في الجبال قبل الانتخابات الجزائرية تحضيراً لسيناريو الفوضى والإرهاب في أعقاب إلغاء الانتخابات النيابية في حال تجاوزت الجبهة الإسلامية للإنقاذ نسبة 30% من مقاعد البرلمان (النسبة التي كان سيسمح بها الجنرالات للتعايش مع الجبهة تحت قبة البرلمان).
كان قادة الجبهة حديثي عهد بسياسة وبتقييم موازين القوى الحقيقية في الأرض، لم يفهموا قواعد اللعبة فاندفعوا فتم إقصاؤهم وتدميرهم.. بدأ العمل المسلح تحت مطرقة القمع، كانت الجبهة أو ما تبقى منها مترددة لكن كان المسلحون المخترقون في الجبال جاهزين للعب دورهم في الإجهاز على ما تبقى من ثورة ما بعد مصادرة التجربة الديمقراطية في الجزائر.
بعض قادة الإنقاذ من تيار الجزأرة انضموا لاحقاً للكيان المخترق الوليد المسمى بالجماعة الإسلامية المسلحة (الجيا) وريثة ح.إ.م، وبرغم ما قيل عن نضج أفكار هذا التيار إلا أن بعض أبرز قادته قد أعلنوا "الاندماج" ووقعوا وثيقته، بدأ تهميشهم لاحقاً، ثم وجدت جثثهم تباعاً في الجبال، أبرزهم كان الشيخ مصطفى السعيد، وعبدالرزاق رجام اللذان أعدما رمياً بالرصاص من قبل قائد الجماعة بتهمة "الخيانة".
تذكرت هذه القصة جيداً، وأنا أقرأ أنباء اتفاق الاندماج في سوريا، والذي يفضي في النهاية إلى تمكين أحد الفصائل الذي تميز بمنهجه المتعالي عما سواه من لعب دور رئيس في التشكيل الجديد في سوريا تحت لافتة "الاندماج". صحيح أن الجيا تختلف في منهجها ودمويتها كثيراً عن هذا الفصيل، لجهة الإفراط في التكفير والإسراع في القتل، لكنهما يتقاسمان منهجاً إقصائياً لطالما أفضى إلى الوصول إلى النقطة التي تريدها الأنظمة الشمولية تماماً.


كان دور الجيا هو تمثيل "ثقب أسود" يبتلع كل المسلحين وأصحاب الأفكار الراديكالية ثم تدمير نفسها بنفسها بهم، كان دور "مجلس شورى المجاهدين" الذي تشكل في الأنبار في ظل حصار والعدوان الأمريكي على مدينة الفلوجة هو ذاته سواء أكان باختراق أم لم يكن، لقد دمر هذا المجلس الذي ورثه الزرقاوي المقاومة العراقية للاحتلال تماماً عبر توزيع اتهامات الخيانة والصحوات على جميع فصائل المقاومة العراقية ثم انزوى تماماً ليعود بشكل جديد في سوريا والعراق للعب الدور ذاته.
تدغدغت مشاعر الشباب المسلح في سوريا – كالعادة – للخطاب الراديكالي الذي يعيش حالة إنكار مع الواقع السياسي العالمي، فاجتذبت البسطاء منهم ولم تزل، ثم انتفش فاجتذب البسطاء من "القادة" و"الشرعيين"، لتبدأ فصول المسلسل المعروف.
مكمن هذا الاندفاع معلوم، فلم تقتت تنظيمات الغلو يوماً إلا على واقع أسيف، يغذي خطابها المندفع فكرياً وميدانياً، فلولا الهزائم التي منيت بها فصائل وسطية في سوريا ما اندفع البسطاء في صف الغلاة، ولولا قلة الدعم الإقليمي لتلك الفصائل، والتفوق الذي تتعمد محركات الاختراق في ترجيح كفة الغلاة به لما حصل هذا، لولا الواقع الدولي الرافض لإرادات الشعوب ما تمدد مثل هؤلاء ووجدوا لخطابهم جاذبية، ثم لولا الإدارة السياسية الإقليمية المخفقة دوماً من الدول التي أعلنت تأييدها للثورة السورية، ولولا المفاوضات الهزلية والاتفاقات الموجعة لما وجد هؤلاء ضالتهم، إذ أفضت هذه السياسات البائسة إلى خذلان الفصائل الوسطية وارتفاع أسهم الغلاة ليس في سوريا وحدها بل في كل مكان بالمحيط الإقليمي.


يدرك البسطاء أن هذا التنظيم لا يقبل أبداً إلا أن يقود، لا لكونه مشبوهاً بالضرورة، وإنما لأنه ينظر للآخرين جميعاً من عدسة الريبة والتكفير، فهم إن لم يكونوا "كفاراً" فهم "مشاريع كفار"، وإن لم يصبحوا بعد "صحوات" فسيكونوها عن قريب! يدرك البسطاء هذا ثم ينكرونه بأنفسهم وكأنهم مسحورون!
يعلمون عن يقين أن هذا التنظيم لم يرَ أبداً لأحد ولاية عليه، حتى حين كان زعيمه يبايع الملا عمر أميراً للمسلمين! نعم، حتى كانوا يدينون للرجل بالولاء ويعترفون له بالولاية احتفظوا لأنفسهم بتنظيم، بل خرجوا عن ولايته تلك بادعاء مسؤوليتهم عن أحداث 11 سبتمبر بأمريكا ومن ثم جلب كل جيوش العالم لتطارد جيش الرجل وتنزع "ولايته" تلك دون استئذان أو إحاطة! يعلنون الحرب على الدولة العظمى من داخل دولته وتحت ولايته وهم له مبايعون، فكيف لو لم يكونوا كذلك!
الاندماج الانتحاري الذي أقدمت عليه فصائل من الثورة السورية بعيداً عن وقوعهم به في فخ من لا يرضون لغيرهم إلا اتباع العبيد، هو أيضاً انتحاري لجهة عدم واقعيته واصطدامه بحائط سميك من نظام دولي لن يسمح أبداً إلا بتركيع من لا يقبلون بقدر من التعايش معه على نحو تقدر فيه الفصائل موازين القوى وأقدار المصالح والمفاسد المجتلبة والمترتبة على ما يصنعون من سياساتهم وخطواتهم.
الطريق كان معلوماً منذ اللحظة الأولى للوحدة في سوريا للفصائل الثورية، وهو البناء على الواقع عبر كيانين سياسي وميداني متناغمين قادرين على التعامل السياسي الواقعي، آخذين بالاعتبار جميع محددات الاستراتيجية والواقع، تحت مظلة علمائية حكيمة راسخة. وسوى هذا هدر وهزر، دونه انتحار بمسمى الاندماج، دونه تكرار النماذج الجزائرية والعراقية والأفغانية الإرهابية البائسة.


نعم، ليس ثمة رضا عن الحالة البائسة التي آلت إليها الفصائل السورية، ولا مفاوضات أستانا، ولا انسحابات الفصائل المتوالية تحت ضغط القوى الإقليمية والواقع الميداني والانكشاف الجوي والتذمر الأهلي، ليس هناك رضا عن استلاب الداعمين لإرادات المقاومين، ولا التدخلات الخارجية الشائنة في مسار الثورة السورية، ليس هناك رضا أبداً عن مجمل الجبهات المسكنة عبر الغرف الدولية المشبوهة، لكن مع كل هذا فلن يكون الحل أبداً في الاصطفاف مع الغلاة والخضوع لهم وتكرار مآسي العراق والجزائر وأفغانستان وغيرها مع اختلاف التجارب والنماذج.. لن يكون الحل بتسليم رقبة المقاومة لمن ينحرها في مذبح الغلو والتفرد بالقيادة والقرار، أو الاختراق سواء بسواء في المآل.
الثورة السورية مرت بمنعطفات وعراقيل معروفة تماماً لمن أراد رصدها وتعيين أسباب تراجعها، وهي مبرمجة لتنتهي هذه النهاية، لكن لم يزل هناك أمل في الانتباه إلى خطورة السير في الطريق حتى منتهاه الخطير، حيث لا السنن الربانية تتفق مع هذا العبث، ولا الحسابات السياسية، ولا الرؤى الاستراتيجية. وفي قلب هذا، قد لا تستطيع تخوين هذا الفصيل أو ذاك أو اتهامه بالعمالة، لأنك لا تملك أدلة دامغة، فالقيم والأخلاق تدعوانك لهذا بالتأكيد، لكن بوسعك أن تدرك أن سلوك بعض الفصائل يفضي تماماً إلى ذات المسار الذي تسلكه فصائل مخترقة أو عميلة.

الاندماج الأخير على الساحة السورية ليس إلا مشروع انقلاب عسكري على الفصائل السورية من فصيل لا يرى نفسه إلا في الصدارة؛ فاقتنص "وزارة الدفاع"! وليس بهذه الروح ينتصر المخلصون، ولا بهذا الأسلوب يمكن أن تنجح ثورة، وإذا كان السلوك الاجتماعي حيال المناطق التي حكمها هذا الفصيل تبرهن على هذه الإقصائية والتفرد، والاستبداد أحياناً، حيث التكفير المفرط، والسجون المتخمة بالمناضلين، والقمع المستمر للمظاهرات، إذا كان هكذا فلن يصلح هذا بمزيد من الإمساك بتلابيب السلطة داخل المناطق المحررة، كما لا يصلح أن يقود "ثورة" من لا يؤمنون بها بالأصل، ولا يعالجون واقعاً دولياً وإقليمياً معقداً من ينظرون للعالم من ثقب إبرة.
إن الطريق واضحة، عرفها من قبل أمثال حجي مارع، حسان عبود، - ممن نحسبهم ذابوا إخلاصاً في الثورة وتفانياً في تحقيق أهدافها النقية – ممن ملؤوا مناطقهم المحررة حباً للبسطاء والمضطهدين، وممن نشروا العدل في ربوعها ولانوا للمخلصين، أما صائدو الفرص لتحقيق أجنداتهم الغريبة فلن يحصد المندمجون معهم إلا حصاد القتاد. 

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع