..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


نجاح الثورة

الأحداث المتسارعة تقرع بابَ النهاية

مجاهد مأمون ديرانية

١٨ ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3003

الأحداث المتسارعة تقرع بابَ النهاية
89898000.jpg

شـــــارك المادة

هذه هي الرسالة الحادية والثلاثون من رسائل الثورة، سأبدؤها لأول مرة -وخلافاً لعادتي في سائر الرسائل- بموجز أقدم فيه فكرة المقالة الرئيسية، ثم أستطرد في تفصيلات يستطيع تركَها من يكره قراءة المطوَّلات.
قلت في الرسالة الماضية والتي قبلها إن النظام يعيش الآن أيامه الأخيرة -بإذن الله-، وإن الحكم عليه بالإعدام صدر بالفعل، وأؤكد الآن مرة أخرى أن هذا الحكم قد صدر نهائياً، واشترك في إصداره تحالف دولي إقليمي عربي يضم -على الأقل- أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأكثرَ الدول العربية وفي مقدمتها دول الخليج، ونحن نشهد في هذه الأيام اللحظات الأخيرة الفاصلةَ قبل البدء بتنفيذ قرار الإعدام.
إذا كان كلامي هذا صحيحاً فينبغي أن تدل عليه مجموعة من المؤشرات -خمسة على الأقل- وسوف أستعرضها وأفحصها أمامكم في النقاط التالية، فإذا كانت تعمل بشكل صحيح فينبغي أن يكون الاستنتاج صحيحاً.
(1)  زيادة الحصار والضغط الدولي على النظام:
هذا المؤشر يعمل بكفاءة على المستويين الرسمي الدولي والشعبي العربي، وفيما يلي بعضٌ من آخر التطورات والمواقف المعلَنة في اليومين الأخيرين فقط:
واشنطن تشدد على أهمية التحالف الدولي في التعامل مع نظام الأسد، كلينتون تدعو الدول إلى قطع تجارة النفط والأسلحة مع سوريا، وزير الخارجية الهولندية للتلفزيون الألماني: "الدول الأوربية تبدأ فوراً بتنفيذ عقوبات على جميع شركات الاتصالات والبنوك والنفط والغاز التي تتعامل مع النظام السوري"، كندا تجمد أصول وممتلكات عدد إضافي من كبار الشخصيات المرتبطة بالنظام السوري.
أما الضغط الشعبي فقد شاهدناه بأقوى صوره في الكويت والبحرين، وفي تجمعات غير مسبوقة في الرياض وجدة والخبر، وفي مظاهرات شعبية ضخمة في القاهرة والإسكندرية في مصر، ومثلها في طرابلس وبيروت في لبنان، وفي الجزائر، وأخيراً في مظاهرات هائلة مؤيدة لثورة الشعب السوري خرجت في ثلاث وثمانين مدينة وقرية في المغرب.
بالإضافة إلى الضغط الدولي والضغط الشعبي يجب أن ندرس مواقف أصدقاء النظام. شاهدنا موقف روسيا في الأيام الماضية، وهو يعكس -ببساطة- تخلياً صريحاً عن الصديق القديم -الحليف الآخر- إيران، يلوذ بالصمت الكامل أمام التطورات المتسارعة الأخيرة منذ صدور الإعلان الرئاسي لمجلس الأمن قبل خمسة أيام. أما آخر الحلفاء -حزب الله- فقد نطق أخيراً على لسان نائب أمينه العام -نعيم قاسم- فحضّ سوريا على الحوار مع المعارضة ومع كل مكونات الشعب السوري والقيام بخطوات إصلاحية لتدعيم مسار الحوار وعدم اللجوء إلى السلاح! ثم رأينا رئيس الحكومة -نجيب ميقاتي- يلهث وراء حزب الله في تصريحات تدور حول المعاني ذاتها. أما جنبلاط –الحرباء- فواضح أنه قرر أنّ الأوان آنَ لتغيير لون جلده، وذلك بعد جولة شملت السعودية وتركيا وروسيا. ماذا تقرؤون في ذلك كله؟ لقد انكشف ظهر النظام السوري وباعه حلفاؤه.
(2)  ارتفاع حرارة التحركات السياسية والدبلوماسية:
الاتصالات والتحركات الدولية في ازدياد محموم، ولا بدّ أن تزداد باطّراد خلال الأيام القليلة القادمة، الرئيس التركي وصل أمس إلى جدة للقاء بالملك عبد الله بن عبد العزيز، وبعده سيصل ملك الأردن للغرض ذاته، اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون غداً، الإعلان عن اجتماع وشيك لمجلس الأمن يوم الخميس القادم لمناقشة الملف السوري، البيت الأبيض: "الرئيس الأميركي باراك أوباما والعاهل السعودي الملك عبد الله في اتصال هاتفي اليوم السبت: على النظام السوري وقف حملة العنف الإجرامية الوحشية التي يشنها النظام السوري ضد شعبه الأعزل فوراً وبدون شروط"، محطة (سي إن إن): "الرئيس الأمريكي باراك أوباما أعرب عن قلقه العميق بسبب استخدام الحكومة السورية العنف ضد المدنيين، وذلك في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، مشدداً على ضرورة تطبيق مطالب الشعب بالانتقال نحو الديمقراطية".
(3)  ارتفاع حدة إجرام النظام ووصوله إلى درجات جنونية عالية:
هذا المؤشر يعمل أيضاً بكفاءة عالية، الأسبوع الماضي الفاصل بين جمعتَي (الله معنا) و(لن نركع إلا لله)، (أعظم اسمَين لجمعتين اهتدى الثوارُ إليهما)، هذا الأسبوع شهد تصعيداً جنونياً في القمع والإجرام، فقد توسعت قائمة المدن التي اقتحمها الجيش اقتحاماً وحشياً لتضم حماة ودير الزور والقصير وسراقب وتفتناز وخان شيخون وبنّش ومعرة النعمان والمسيفرة، وأخيراً اللاذقية التي ضربها براً وبحراً، أما المدن التي اقتحمها الأمن في الأسبوع الأخير أو استمر باحتلالها وخنقها فتضم غالبية المواقع الثائرة في دمشق وأطرافها: المهاجرين وركن الدين والحجر الأسود ونهر عيشة والقدم والعسالي، وزملكا وسقبا وعربين وحمورية والتل والزبداني وعرطوز وقطنا والمعضمية وداريا والكسوة، وانضمت بصرى الشام إلى قائمة اجتياحات الأمن الغادر وأنا أكتب هذه السطور.
لقد استعمل النظام السوري ضد شعبه الثائر الصابر الدبابات والمدافع والبوارج الحربية، ولم يبقَ إلا الصواريخ والطائرات، وهذا التسارع في الحملات العسكرية والتصعيد الجنوني في العنف لا يدل إلا على أمر واحد: النظام يسابق الزمن. إنه يعلم أن الوقت المتبقي له قليل، فهو يستميت في سبيل القضاء على الثورة قبل صدور أي قرار دولي، تماماً كما يستميت فريقٌ رياضي لإدخال هدف الفوز قبل سماع صفارة الحكم.
(4) زيادة مستويات الصمود والتحدي من طرف الشعب الثائر:
هذا المؤشر يعمل بكفاءة خرافية لا يكاد يستطيع الإنسان تصديقها! لقد انتهيت قبل ساعات من إحصاء مواقع الثورة في جمعة (لن نركع إلا لله)، اعتماداً على أخبار العشرات من صفحات الثورة في المناطق والمدن المختلفة، فوصلت إلى مائتين وعشرين، وهي نتيجة مقاربة للنتائج التي تدور حولها حصيلة كل جمعة من الجمع خلال الشهرين الأخيرين، أي أن الجهود الإجرامية المستميتة للنظام لم تصنع شيئاً يذكر. والأعجب من ذلك أن المدن المصابة كانت في الطليعة، فقد خرجت في حماة نفسها إحدى عشرة مظاهرة على الأقل هتف المتظاهرون فيها:(حموية وما نهاب الموت)، وخرجت في دير الزور ست مظاهرات على الأقل هتف المتظاهرون فيها: (ما أحلى النوم على صوت الدبابة).
صدقوني إن هذه المظاهرات أقرب إلى الأساطير! وليس أقل أسطورية منها مظاهرات بابا عمرو التي لم تكد تفرغ من دفن شهداء مجزرة الأربعاء، ومظاهرات قرى الحولة التي كانت تحت القصف قبل ثلاثة أيام، ومظاهرات القصير التي خرجت تحت الانتشار الأمني المسعور في البلدة، ومظاهرات سراقب الواقعة تحت الاحتلال، ومظاهرات خان شيخون ومعرة النعمان وبنّش وتفتناز التي لم تكد تغادرها الدبابات، ومظاهرات القدم في دمشق وعربين وحمورية وسقبا في غوطتها… كل هذه المظاهرات أقرب إلى الخيال وإلى الأساطير، وهي مؤشر هائل على حيوية الثورة وثباتها وصمودها في وجه الهجمة الهولاكية غير المسبوقة من حيث الكثافة ودرجة الإجرام.
(5)  تشقق وتهاوي شخصيات من داخل النظام:
هذا المؤشر متوقف عن العمل؛ إما أن النظام يعاني من تصدعات خفية غير ظاهرة للعلن، أو أنها لم تبدأ بشكل حاسم بعد، فأرجو أن تراقبوا هذا المؤشر خلال الأسبوع القادم والذي بعده لأنه سيؤكد ظنوننا أو ينفيها.
توقفنا في الأسبوع الماضي عند خبرين كبيرين،؛ منع ذي الهمة شاليش من السفر -وهو من صلب العائلة الأسدية وله وزنه في النظام-، واغتيال وزير الدفاع علي حبيب. بعد ذلك لم تصلنا أخبارٌ ذات شأن، فلنفتح أعيننا ونراقب لنرى ما يَجِدّ، وأتوقع أن نسمع أخباراً كبيرة عما قريب.
المؤشرات الخمسة السابقة واضحة الدلالة، وهي تدل على أن تطوراً كبيراً اقترب أوانُه، تطوراً حاسماً سيضع نقطة النهاية للملحمة. لا أقصد إنهاء الأزمة وإسقاط النظام فوراً بالضرورة، بل أقصد الدخول في المرحلة الأخيرة من الثورة التي ليس بعدها إلا سقوط النظام. لكن قطعاً لا أحد يستطيع أن يجزم كيف سيكون الحسم، لا أنا ولا غيري، فهو يمكن أن يكون:
(أ) عملاً سريعاً جداً اعتماداً على اختراق للنظام وشق لقياداته العليا، ربما مع بعض العمليات الخاصة السريعة والخاطفة لإخراج بعض الرؤوس الكبيرة من المعادلة، مما يهيّئ لانهيار سريع لبنية النظام على مستوياته الوسطى والسفلى.
(ب) أو عملاً طويلاً يتمثل في مواجهة على الأرض اعتماداً على قوات منشقّة تتحرك من منطقة آمنة. هذا السيناريو يحتاج إلى تنسيق وتعاون مع طرفَي الحدود الشمالية والجنوبية (تركيا والأردن)، أو أحدهما على الأقل، ويمكن أن يترافق مع حظر طيران.
ما سبق هو خلاصة الرسالة، وإلى مزيد من البحث والتفصيل لمن يحب:
التطورات القادمة خلال الأسبوعين القادمين ستحسم الأمر وتحدد واحداً من المسارين السابقين أو مساراً قريباً من أحدهما، أما التدخل العسكري الغربي فإنه يبقى احتمالاً بعيداً جداً أو شبهَ مستحيل بسبب إجماع المعارضة على رفضه. وعلى أية حال فإن أي تحركات عسكرية لم يتم رصدها لدعم اتجاه كهذا، ولا حتى تحريك أي قطعة بحرية أميركية أو غيرها باتجاه الساحل السوري، مع ملاحظة أن القطع البحرية بطيئة الحركة وعادة تسبق حركتُها أيَّ موقف سياسي حاسم.
على العكس من التحركات الغربية التي لم يُرصَد منها أي شيء حتى الآن فإن الجانب التركي من الحدود يشهد نشاطاً عسكرياً ملحوظاً، ولكنه ما يزال على مستوى ألوية ولم يصل إلى مستوى فِرَق، وهذا لا يدل على عملية عسكرية شاملة لكنه يمكن أن يشير إلى استعداد تركي لمواجهة توتّر متوقَّع على الحدود، أو يشير إلى استعداد لإنشاء منطقة آمنة. الأيام الأخيرة شهدت أيضاً استدعاء لبعض ضباط الاحتياط في الجيش التركي، وهي خطوة يمكن أن تفسَّر ضمن السياق نفسه أو أنها جزء من إعادة ترتيب داخلية بعد التعديلات الأخيرة التي جاءت برئيس جديد لهيئة الأركان.
وبالمناسبة فإن التطور المفاجئ الأخير في الجيش التركي ينبغي أن يخدم التحركات التركية لا أن يعوقها. فقد قدم رئيس هيئة الأركان الجنرال "إيشيق كوشانير"، وقادة القوات البرية والبحرية والجوية استقالاتهم، حيث قبلها الرئيس التركي على الفور وعيّن قائد قوات الدرك الجنرال "نجدت أوزال" قائداً للقوات البرية، ومن ثم رئيساً جديداً لهيئة الأركان -تقضي أعراف القوات المسلحة التركية بأن يكون رئيس هيئة الأركان التركي قائداً للقوات البرية أو البحرية أو الجوية ولو ليوم واحد على الأقل قبل استلامه رئاسة هيئة الأركان-، مع العلم بأن الجنرال "نجدت أوزال" من الموالين لأردوغان وقد سبق استبعاده من قيادة القوات البرية لحرمانه من أية فرصة لاستلام رئاسة الأركان. إن هذا التطور الأخير لا يعني إلا أمراً وحداً: لقد صار الجيش أقرب إلى الحكومة من أي وقت مضى، بل إن رئاسة الأركان صارت عملياً جزءاً من رئاسة الدولة، وهكذا فإن الطريق صار مفتوحاً أكثر من ذي قبل لأي عمل يمكن أن تفكر فيه الحكومة التركية.
إن المعارضة مجمعة بالكامل وبلا استثناء على رفض التدخل الخارجي، لكنها لم تمانع في تلقي مساعدة عربية أو إسلامية، دون أن تحدد شكل أو حجم هذه (المساعدة)، مما يترك الخيارات مفتوحة. وبمناسبة الحديث عن المعارضة فإنني سأوضح نقطة ذكرتها في رسالتي الماضية وشرحتها شفهياً لبعض من تحاورت معهم، فقالوا: إنهم فهموها من العرض الشفهي كما لم يفهموها من المقالة، فأحببت أن أعود إليها بتوضيح، وهي النقطة الخاصة بمؤتمر الحوار الوطني.
الأزمة انتقلت مع التطورات الأخيرة إلى الأروقة الدولية، هذا النقل يسمى (تدويلاً) وينقل المشكلة من (قضية داخلية) كما يصرّ النظام على وصفها (أي أنه يقول للعالم: هذا شعبنا ونحن نذبحه كما نشاء، فما علاقتكم أنتم بنا؟) ينقلها من قضية داخلية إلى مشكلة دولية. النقل بدأ بتبنّي العرب للمشكلة على المستوى الخليجي، ولا يُستبعَد أن تمرّ بعد ذلك عبر الجامعة العربية وصولاً إلى هيئة الأمم المتحدة. عندما تصل أي مشكلة إلى هيئة الأمم توصف بأنها مشكلة أممية، أي أنها تخص أمم العالم وليس فقط الدولة التي تقع فيها المشكلة، ولو أن اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة أو اجتماع مجلس الأمن ناقشها وقرر أنها تشكل خطراً على الدول الأخرى، إقليمياً أو عالمياً، بمعنى أنها (تهدد السلام العالمي)، فإنه يفتح الباب لاستثمار المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة، وفي هذه الحالة يصبح التدخل الدولي مباحاً قانونياً، ويمكن للجمعية العامة أو لمجلس الأمن أن يفوّض أي جهة للقيام بما يلزم لحل المشكلة وحماية السلم العالمي.
هذا التسلسل الطويل من الإجراءات يحتاج إلى مظلة شرعية يتحرك تحتها، وهذه المظلة وفرها جزئياً التصريح الملكي السعودي الذي ساعد على حشد خليجي سريع يمكن أن يتحول بسهولة إلى حشد عربي وإسلامي بمساعدة تركيا والجامعة العربية، ولكن بقي عنصر مهم ناقصاً، وهو السوريون أنفسهم. لو رفض طرفاً الأزمة في سوريا أيَّ تدخل أو مساعدة خارجية من أي نوع فسوف تفقد أيُّ مبادرة القدرةَ على الحركة. الطرف القاتل لن يطلب أي مساعدة لوقفه عن القتل بالطبع، إذن فإن الطرف الذي يمكن أن يقدم غطاء قانونياً لأي عمل خارجي هو الطرف المقتول، أي الثورة والمعارضة.
من هنا كان الاهتمام الشديد بصناعة هيئة رسمية تمثل المعارضة، وقد بذل الأتراك جهوداً في سبيل تحقيق هذا الهدف باحتضان مؤتمرات المعارضة ودعمها من وراء الستار، وحينما فشلت المحاولات الأولى بدا التوتر على الأميركيين وطالبت وزيرة الخارجية الأميركية المعارضة بالاتفاق السريع على هيئة تمثلهم. مطالبتها التي سمعناها قبل عدة أسابيع كانت بلهجة (عنيفة) بالمقاييس الدبلوماسية، وأنا شخصياً فهمت أن القوى الدولية التي بدأت بالترتيب لما بعد الأسد كانت بحاجة ملحّة لوجود هيئة من هذا النوع، وأنها دفعت في هذا الاتجاه، وأنها انزعجت من إخفاق المعارضة المتكرر في الاتفاق على هيئة تمثلها.
بالنتيجة صار واضحاً للجميع أن أي تجمع يستثني معارضةَ وثوّارَ الداخل لا يمكن أن ينجح، ويبدو أن المهتمين بتشكيل هيئة ممثِّلة للثورة أدركوا أن هيثم المالح هو الشخصية الوحيدة القادرة على تجميع الداخل والخارج معاً والتي تحظى بقبول عام، لذلك كانت الخطوة الحاسمة هي إخراجه من سوريا وتنظيم مؤتمر إنقاذ برئاسته وانتخاب هيئة تنفيذية مقبولة من ثوار الداخل ومعارضي الخارج، وهذه الهيئة ستكون قادرة بعد ذلك على التفاوض باسم الثورة وعلى تمثيلها أمام المحافل الدولية. لتنفيذ ذلك كله كان لا بدّ من خروج المالح من سوريا، وهو أمرٌ كان النظام سيقاومه بشراسة إلا إذا تعرض لضغط شديد من جهة خارجية، ومعلوم أن الجهة الأكثر قدرة على الضغط على النظام السوري هي أميركا، ومن ثم فقد استعمل الأميركيون نفوذهم وأخرجوا هيثم المالح من سوريا رغم أنف النظام. هذا كله حدس حدسته واستنتاج وصلت إليه بمراقبة تسلسل الأحداث ودراسة خلفياتها، إما أن تصدقه الأيام القادمة أو تكذبه، لكن الأمر المهم حصل على أية حال، وصار للمعارضة أخيراً من ينطق باسمها.
والآن أنتقل إلى الموقف التركي:
لقد راقبت باستغراب مشاعر وعبارات الغضب التي ملأت مواقع صفحات الثورة بسبب ما أشيع من أن وزير الخارجية التركي منح الأسد مهلة أسبوعين، وكأنه يقول له: حاول أن تقضي على الثورة في هذين الأسبوعين وأنا سأبذل جهدي لتأخير أي تحرك دولي ضدك! سبب الاستغراب ليس الموقف التركي الذي راح الكل يتحدثون عنه بلا توثق، الاستغراب من تصديق الناس السريع لمثل هذه الأخبار.
إن المنطق العقلي هو المصفاة الأولى لكل ما يتلقاه المرء من أخبار، وعندما تكون فتحات المصفاة واسعة يمرّ منها كل غريب وعجيب من الأوهام والخرافات، أما عندما تضيق هذه الفتحات فإن الحقائق والمعلومات الرصينة وحدها هي التي تمر إلى العقل. إن فهم هذه القاعدة والعمل على أساسها يصنع الفرق بين التفكير العامي والتفكير العلمي، ويمكن أن أتحدث في هذا الأمر كثيراً في غير هذه الرسائل، أما الآن فلنبقَ في موضوعنا.
بالمنطق والعقل يمكننا الجزم بأن الخبر المتداوَل عن تركيا غير صحيح، أي أنه مختلَق. فزيارة الوزير التركي لدمشق ليست تحركاً في فراغ بل هي جزء من منظومة متكاملة من التطورات الدولية الدرامية، وتركيا جزء أصلي من هذه المنظومة ولا يمكن أن تمشي في طريق خاص بها، ليس الآن على الأقل. في الماضي نعم، أما الآن فهذا مستبعد جداً، بل الغالب أن تركيا هي رأس الحربة في المشروع الأممي القادم بسرعة.
وضع الأمور في أماكنها الصحيحة ينبئنا على الفور بأن في الخبر المنشور بصيغته تلك خطأ ما، فهو (لا يركب على بعضه -بالتعبير العامي-). إذا وصلنا إلى هذه الدرجة من الشك فسوف نبدأ بالبحث عن مصدر الخبر، لا سيما وأننا لم نقرأه في صحيفة رصينة أو موقع إخباري موثوق. هذا ما صنعته، وكما هو متوقع فقد نقل الخبرَ واحدٌ عن واحد من المواقع والصفحات حتى كاد يضيع مصدره الأصلي، لكني نجحت أخيراً في الوصول إلى أصله في موقع قناة (روسيا اليوم). يبدو أن الخبر انطلق منها أول مرة (يوم الخميس، قبل نشره في موقع (الراي) يوم السبت ومن ثم انتشاره على نطاق واسع). هذا الأمر بحد ذاته، انطلاق الخبر من موقع روسيا اليوم، سيُفقده نصف قيمته. لا أريد أن أستفيض بذكر السبب ولكن كل من تابع هذه القناة من الأيام الأولى لانتفاضة العرب الكبرى لاحظ تحيزها الدائم للدكتاتوريات ضد شعوبها، ثم ألقت على بعير مصداقيتها قشةَ الرحمة التي قصمته بوقوفها الصريح مع طاغية سوريا ضد شعبه الثائر المصابر. هذا أولاً، ثم انظروا إلى الكاتب، هل لاحظتم اسمه؟ جاء في الخبر: "قال حسين عبد الحسين الكاتب والمحلل السياسي في حديث لقناة روسيا اليوم إن الرئيس الأميركي لن يدعو قريباً إلى تنحي الرئيس السوري، مشيراً إلى أن رئيس الوزراء التركي طلب من الرئيس الأميركي إعطاء مهلة أخيرة للأسد…"، هل لاحظتم اسم مصدر الخبر؟ "عبد الحسين"… وفهمكم كفاية.
إن الأخبار السياسية لا تُقرأ كما تُقرأ التقارير العلمية. عندما تقرأ مقالة علمية تأخذ ما فيها على أنه صحيح من حيث المبدأ إلا أنه يحتمل الخطأ، أما الأخبار السياسية فتُقرأ بالمقلوب، أعني أنك إذا قرأت خبراً سياسياً فالأصل أن تفترض أنه لا يعني أي شيء في الحقيقة، أو أنه يعني عكس الحقيقة تماماً. سأضرب لكم مثالاً من تطورات الأحداث الأخيرة. لقد وصل الرئيس التركي إلى جدة قبل ساعات، فلماذا جاء؟ لا داعي لأن نتعب أنفسنا بالتفكير لأن وكالة الأنباء السعودية تقدم لنا الجواب: "يصل الرئيس التركي عبد الله غول إلى جدة في زيارة إلى المملكة تستمر يومين، يشارك خلالهما في اجتماع مجلس الأمناء لمراكز الدراسات الإسلامية بجامعة أكسفورد والذي سيُعقد في جدة، ويؤدي خلال الزيارة مناسك العمرة".
أرجو أن تضعوا هذا الخبر مع التطورات الدولية والإقليمية الثلاثين التي سردتها عليكم في الرسالتين الماضيتين، والآن لا بأس بأن تتوقفوا عن القراءة ثلاث دقائق تصرفوها في الضحك على هذه الفكاهة! العالم يضطرب ويغلي من غربه إلى شرقه والمسرح الدولي يجري ترتيبه على عجل لشهود الفصل الأخير من الأزمة السورية التي تحولت إلى مشكلة عالمية، وتركيا معنية أكثر من غيرها بالأزمة باعتبار الجوار، لكن رئيسها قرر أن يترك ذلك كله ليعتمر ويشارك في اجتماع تشريفي!
ربما لا يكون هذا هو المقام المناسب لتقديم نصيحة في القراءة السياسية، لكنها فرصة قد لا تتكرر، فاحتملوا مني بعض الاستطراد، ومن مَلّ من طول القراءة فليقفز من فوق هذه الفقرة غيرَ مَلوم.

منذ نحو أربعين سنة أو أقل قليلاً فُتنت بقراءة مقالات سياسية كان يكتبها في جريدة (الحياة) كاتب دأب على نشر مقالاته باسمين مستعارين، فكان يكتب عموداً يومياً باسم (عامر)، ومقالة أسبوعية طويلة باسم (كريم). كان ذلك وأنا في أوائل سنوات الدراسة الثانوية، وكان أبي -الحريص على الثقافة السياسية- يُحضر إلى البيت كل يوم جريدة أو اثنتين ومجلتين كل أسبوع، فأما الجريدتان فإحداهما كانت (الحياة) دائماً، الحياة التي كان يصدرها "كامل مروّة" قبل أن يغتاله النظام السوري، والأخرى تتغير فربما كانت (النهار) أو (الأنوار) أو غيرهما، والمجلتان هما (الحوادث) و(الوطن العربي). ربما اختار هذه الجريدة تحديداً وهاتين المجلتين لأنها كانت ضد النظام السوري، فهو -ككل واحد في العائلة- من أشد كارهي البعث أولاً ثم النظام الأسدي الذي ورثه من بعد. لقد كرهنا النظامَ السوري دائماً، وطبيعي أنه لم يحبّنا كما لم نحبّه، فانتقم من الأسرة بالقتل والتهجير.
من بين المقالات السياسية الكثيرة التي كنت أقرؤها في تلك الأيام كانت مقالات (كريم) أو (عامر) هي الأكثر قرباً إلى قلبي، وقد قرأت منها مئات ومئات وتعلمت منها الكثير، بل لعلي لا أبالغ إن قلت إن أساس ثقافتي السياسية قد جاء من تلك القراءات، وجمعت منها ملفاً كبيراً احتفظت به سنين طويلة، ثم استعاره مني صديق ذات يوم وأضاعه! الدرس الأكبر الذي تعلمته منذ تلك الأيام هو: لا تثق أبداً بما يتداوله الساسة على السطح، فهو يخفي غالباً النقيض الصحيح. الحقائق في عالم السياسة تختبئ وراء ستار من التمويه المتعمَّد، وغالباً تأتي مبعثرة جداً في نُتَف صغيرة متفرقة ومتباعدة، وعليك أن تحسن قراءة الأخبار وفرز صحيحها من سقيمها ثم ترتيبها في نسق صحيح لتخرج بالخبر الصحيح، وهذه المهمة ليست سهلة؛ لأن الخبر الصحيح يضيع دائماً بين عشرات الأخبار الملفقة. حاولوا أن تتعلموا هذه المبادئ ومع الوقت ستتعلمون كيف تقرؤون الأخبار قراءة صحيحة، أما مجرد عبارة: (دا في الجورنال) التي سمعتها ذات مرة من سائق سيارة أجرة في القاهرة  -وكأنها فصل الختام في نقاش سياسي دار بيني وبينه- فسوف تتركونها للعامة، ومثلها تماماً الأخبار التي تتداولها الفضائيات ومواقع الإنترنت.
مع الوقت ومع الانتباه واليقظة أثناء القراءة وتشغيل العقل الواعي يمكن للقارئ أن يطوّر مَلَكة صالحة لتمييز الأخبار الصحيحة من الأخبار الملفقة. سأعطيكم مثالاً من ثورتنا السورية العظيمة. في كل جمعة أقرأ في عدد كبير من صفحات الثورة خبراً منقولاً عن وكالة رويترز يقول: إن عدة ملايين خرجوا في مظاهرات في أنحاء سوريا. أول مرة نُشر فيها هذا الخبر كانت في جمعة سقوط الشرعية قبل نحو شهرين، ويومها كان العدد ثلاثة ملايين، وقد زاد مع النشرات اللاحقة في الأسابيع التالية ليصل إلى خمسة ملايين مؤخراً. بما أنني معتاد على أسلوب وكالات الأنباء العالمية في صياغة أخبارها –كرويترز، والبي بي سي، ومن في طبقتهما من المصادر الإعلامية العالمية الموثوقة- فقد شمَمتُ في الخبر رائحةَ الوضع -كما يقول علماء الحديث-، ففتحت صفحة وكالة رويترز وقرأت فيها أن: "بضعة آلاف من المتظاهرين خرجوا في مظاهرات في شوارع سوريا". ثم تتبعت الخبر في الإنترنت فوصلت إلى مصدره، وهو موقع لبناني تابع لقوى 14 آذار كنت قد قرأت فيه من قبل مقالات وأخباراً تغلب عليها (الفبركة). وبما أني أعتقد أن نشر الأخبار (المفبركة) يضر الثورة ولا يفيدها -لأنه يطعن في مصداقية مصادرها الإعلامية- فقد بادرت إلى إرسال تنبيه إلى كل الصفحات بهذا الخصوص، وتكرّم بعضها مشكوراً بالرد وتجنّبَ ترويج الخبر في الأسابيع اللاحقة.
هذا المثال يذكّرني بأمر آخر طالما أحببت أن أنبه إليه، وقد جاءت مناسبته؛ بعض الإخوة من مراسلي صفحات الثورة يبالغون في تقدير أعداد المظاهرات، فيجعلون المئات ألوفاً والألوف عشرات ألوف أو مئات ألوف. لاحظت هذه المبالغات كثيراً في تقارير مظاهرات معرة النعمان، وحماة، ودير الزور على الأخص، حيث ذُكرت دائماً أعداد غير واقعية. اسمحوا لي أولاً أن أؤكد أن كل متظاهر في سوريا يعادل ألف متظاهر في غيرها من البلدان، هذه المعادلة قالها كثيرون ولست أنا من يخترعها اليوم، وتفسيرها واضح. فلو أن الذين تظاهروا في كل جمعة ألف رجل فقط لكانت مظاهرات عظيمة، فهم ألف انتحاري وألف مشروع شهيد يخرجون إلى حتفهم حينما يخرجون إلى الشوارع، فقد أبى النظام المجرم إلا أن يحول المتظاهرين إلى نعوش. ومع ذلك فإن الذين يخرجون في المظاهرات أكثر مما يمكن تخيله، قطعاً وبلا مبالغة يشارك في المظاهرات في كل جمعة مئات الآلاف، ربما وصولاً إلى نصف مليون حسب اجتهادي وتقديري الذي أتحرى فيه الدقة وأجتهد في الاقتراب فيه من الصواب. لكن ليس ثلاثة ملايين قطعاً ولا خمسة، ولا يجتمع في مظاهرات حماة ثلاثة أرباع المليون أبداً.
أجدني أُكثر اليوم من الاستطرادات، ولكني انتهيت من زبدة المقالة في أولها لذلك أسمح لنفسي بكتابة ما أشاء هنا. قلت لكم إني كنت أتابع جرائد ومجلات سياسية وأنا صغير، وأذكر أني قرأت في واحدة منها مقالة (أو قصة) أثرت فيّ كثيراً وتعلمت منها منهجاً صالحاً في التفكير والتقدير. القصة كتبها صحفي عربي تخرج في كلية الإعلام والصحافة في جامعة عربية ثم التحق بوظيفة في جريدة عربية، وذات يوم خرجت مظاهرة في مكان قريب فأرسل رئيسُ التحرير الصحفي الناشئ لتغطيتها وكتابة تقرير عنها. ذهب صاحبنا إلى موقع المظاهرة فوجد جمعاً من الناس يرفعون لافتات ويتجمعون في الطريق، فأحصاهم فوجدهم نحو خمسين أو ستين، فكتب خبراً قال فيه: "إن مظاهرة خرجت في المكان الفلاني وشارك فيها العشرات"، وحمل المقالة إلى رئيسه سعيداً بتغطيته الصادقة للحدث، فلما قرأها الرئيس انفجر فيه قائلاً بغضب: "أنت مجنون؟ مظاهرة من بضع عشرات؟ زوّد العدد". فشطب المحرر العشرات وجعلها مئات، فعاد الرئيس إلى ثورته قائلاً: "أتريد أن يتوقف القراء عن شراء جريدتنا؟ زوّد العدد". فشطب المئات وجعلها آلافاً. وبعد المزيد من المفاوضات طُبعت الجريدة أخيراً والخبر فيها يتحدث عن مظاهرة شارك فيها عشرات الآلاف. ثم دارت الأيام وانتقل المحرر للعمل في وكالة أنباء عالمية، ومرة أخرى أُرسل لتغطية مظاهرة، فكتب تقريراً عن عشرات الآلاف من المتظاهرين وحمله إلى رئيسه، فلما قرأ الرئيس التقرير دُهش وقال له: "عشرات الآلاف؟ هل أنت واثق؟ هل أحصيتهم بدقة"؟ فشطب العشرات الآلاف وجعلها آلافاً فقط. قال الرئيس: "لكن موقع المظاهرة لا يتسع لآلاف، راجع نفسك". فشطب الآلاف وجعلها مئات. قال الرئيس: "تخيل الكتلة البشرية في صورة مستطيل، كم شخصاً في المحور الطولي وكم في العرضي، واضرب هذا بهذا". فشطب المحرر المئات وجعلها عشرات!
خذوا مثلاً ساحة العاصي، اقسموها إلى أربعة أرباع، والربع إلى أرباع أيضاً، والآن أحصوا عدد الرؤوس في ضلعَي الربع الأصغر واضربوا هذا بهذا لتحصلوا على عدد المتظاهرين في ربع ربع الساحة، اضربوا الحاصل في ستة عشر لتعرفوا عدد المتظاهرين. هل يبلغون نصف مليون؟ لو اتبعتم هذا المنهج الدقيق فسوف تشكّون في التقديرات التي يقدمها المراسلون لكثير من المظاهرات والاعتصامات، ليس في سوريا فقط بل في غيرها، وقد فكرت بهذا الأمر في كل مرة شاهدت فيه اعتصام إخواننا المصريين في ميدان التحرير أثناء ثورتهم، وكنت أسأل نفسي: هل يعرف الذين قدروا عدد المعتصمين بمليونين والذين نقلوا هذا التقدير عنهم وروّجوه، هل يعرفون جميعاً ما معنى مليونَي إنسان؟ لا يمكن أن يتسع الميدان لمليونَي شخص، ولا حتى مع ميدان عبد المنعم رياض القريب والشوارع المحيطة بالميدانين، وأنا أعرفها كلها معرفة جيدة وقد مشيت فيها كثيراً. مع ذلك كان اعتصامهم مهيباً رهيباً، وكذلك مظاهراتنا في سوريا، هي أعظم مظاهرات في الدنيا والذين يشاركون فيها هم أشجع الرجال في الدنيا، حتى وإن تحفظنا في تقدير أعدادهم وقلنا إنهم نصف مليون مثلاً وليسوا ثلاثة ملايين.
وهذا يذكرني بذلك السخيف الذي أرسل لي رسالة ملأها بما جادت به قريحته (المهذبة) من شتائم رداً على مقالة صغيرة نشرتها قبل شهر بعنوان (يا مصفقون، ألا تخجلون؟ )، خاطبت فيها أولئك الذين رقصوا على جراح الأمة وجثث شهدائها في ساحة الأمويين بدمشق احتفالاً بعيد الرئيس المسخ، وفي تلك الرسالة القبيحة قال الرجل: "افترض أن مليون شخص تظاهروا ضد الرئيس فهل هم أهم من اثنين وعشرين مليوناً يريدون بقاءه"؟ ذلك التفكير الناقص أوحى لصاحبه بأن الذين لم يخرجوا في المظاهرات هم -حكماً- ضدها، ولم يخطر بباله أن هؤلاء المليون هم صفوة شجعان الأمة، وأن وراء كل واحد منهم عشرة مع الثورة بقلوبهم، منعهم من الخروج كِبَر السن أو الصِّغَر، أو الخوف من بطش النظام وإجرامه وقمعه، فهؤلاء عشرة ملايين، ومثلهم من النساء، فلم يبقَ خارج الثورة إلا عصابة المجرمين ومن صفّق لها وسجد لرئيسها من العبيد. هكذا تُحسَب الأمور.
أعود بعد هذا الاستطراد إلى الموقف التركي:
لقد تعلق الناس بتقرير أو تعليق كتبه شخص مشبوه أو مجهول وراحوا يتناقلونه بينهم بحماسة بالغة، وتغاضوا عن تصريح رسمي وتوضيح صدر عن مستشار الرئيس التركي "إرشاد هورموزلو" نفى فيه أن تكون بلاده قد منحت النظام السوري مهلة أسبوعين، بل أكد أن تركيا تتوقع إجراءات سورية حاسمة خلال أيام، على أن ينتهي الإصلاح خلال أسبوعين إذا كانت النية صالحة. ولدفع اللبس أو سوء التفسير قال الرجل: إن الرسالة الخطية التي حملها وزير الخارجية التركي للرئيس الأسد أكدت ضرورة التوقف عن إراقة الدماء وإطلاق سراح جميع المعتقلين والبدء فوراً بإصلاحات تلبي طموحات الشعب السوري.
القراءة الدقيقة للتصريح التركي الذي صدر على لسان مستشار الرئيس يجب أن تلاحظ كلمة (ينتهي) في الحديث عن الإصلاح، الإصلاح (ينتهي خلال أسبوعين)، أما الخطوات المطلوبة فلم تُترَك لاجتهاد الجانب السوري بل حُدِّدَت بوضوح: وقف العنف، وإطلاق المعتقلين، والبدء الفوري بالإصلاحات. ثم لاحظوا أن الرسالة خطية وليست شفهية، رغم أن حاملها هو واحد من أركان الحكومة التركية الكبار، وهذا لا يعني إلا أن المطالب التركية يجب أن تصل بوضوح وبلا رتوش أو مجاملات.
ولنعد إلى قاعدة الأخبار السياسية:
ما يُعلَن هو أقل القليل من الحقيقة أو هو خلافها. إذا كان هذا أمراً عاماً في عالم السياسة فهو أشد لزوماً في أيام الأزمات، أما أن نقطف خبراً من هنا وخبراً من هناك ونشتغل بنشره وإذاعته وبناء المواقف عليه فما هذا من فقه السياسة في شيء.
وأغرب من الخبر السابق، بل غريبة الغرائب وقاصمة الظهر، هو ذلك البيان الذي صدر باسم أحد من ينسبون أنفسهم إلى المعارضة -ولا أريد أن أسمّيه- وهذا هو نصه بعد أن بذلت جهداً كبيراً في تحريره وتحسين أسلوبه ولغته: "علمت مصادر من المعارضة السورية أن أوغلو قد اتفق مع بشار الأسد على مهلة عشرة أيام ينهي بها بشار الأعمال العسكرية مقابل عدم صدور أي قرار أممي أو أي تصرف دولي ضد بشار، ثم أن يقود بشار نفسه برنامج الإصلاح الذي كتبت نصه تركيا، في حين ضمنت تركيا المعارضة الإسلامية لبشار بأن تقوم بالحوار القادم والقبول به. وقد اطلعت مصادرنا من بعض هذه المصادر الإسلامية نفسها أن البعض غير راض عن هذا الاتفاق الذي يبقي بشار الأسد في الحكم وغير راضين عن شروط الصفقة التي تضمن لهم تمثيلاً وقبولاً في الحكومة التي يزعم بشار تشكيلها لقيام ببرنامج الإصلاحات التركي".
لم أذكر اسم الشخص الذي نُسب البيان إليه لأني أرجّح أنه منسوب إليه زوراً، فقد قرأت لهذا الشخص من قبل وأعرف أن له قلماً أفضل من القلم الذي صيغ به هذا النص المهلهل، ثم إنه أرجح عقلاً من أن يردد أمثال هذه الترّهات التي لا يقبلها الأطفال. من الواضح لكل ذي لب أن هذا الخبر من صياغة بعض الهواة، وما أظنه اختُرع إلا لتلويت سمعة الإسلاميين في هذه المرحلة الدقيقة والفاصلة التي تمر بها الثورة. إن المعارضة الإسلامية أشرف من أن تتعاون مع السفاح الكبير وتضع يدها في يده، وحتى لو لم تملك ذرة شرف فإنها تملك بعض العقل على الأقل، ومن يملك ذرة عقل يدرك أن النظام يغرق حالياً غرقاً سريعاً وأنه لا مصلحة له بركوب سفينته!
يا سادة: إن الموقف التركي لم يكن يوماً بهذا الوضوح وبهذا الحسم، وهو لا يختلف عن الموقف الأميركي أو الدولي الذي تشكل في الأيام الأخيرة في صورة جبهة موحَّدة ضد النظام، بل إن تركيا لا بد أن تمثل رأس الحربة في تنفيذ أي مشروع لحل الأزمة كما قلت سابقاً، ولا قيمة لما يُتداوَل على الملأ من تعليقات وأخبار. وعموماً فأنا أرى أن لا نستعجل بالهجوم على حكومة تركيا ولا نتسرع في الحكم عليها اعتماداً على (ظاهر) الأخبار، وأن لا نساهم بالإساءة إلى إسلاميّي المعارضة أو إلى غيرهم من الشرفاء الذين نعتمد عليهم في الأيام المقبلة من تاريخ سوريا بعد اعتمادنا على الله، ولننتظر قليلاً فإن الأيام القادمة حُبالى بالكثير.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع