..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

إدلب ونهاية المعارك التقليدية في سوريا

حسن أبو هنية

١٥ يناير ٢٠١٨ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2570

إدلب ونهاية المعارك التقليدية في سوريا

شـــــارك المادة

 

منذ أن تغير تعريف ما يحدث في سوريا من ثورة إلى أزمة، واستقر على اختزاله بحرب "الإرهاب"، وهو مصطلح غير موضوعي يشكل ذريعة قانونية معاصرة للتدخلات الدولية والإقليمية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، باتت سوريا ساحة للتنافس والصراع، وتبدلت الأولويات من المطالبة برحيل الأسد إلى القضاء على تنظيمي الدولة الإسلامية والقاعدة. لكن الإعلان عن هزيمة تنظيم الدولة أدى إلى بروز حقائق الصراعات الدولية، فما تبقى من مناطق تحت سيطرة المعارضة، وثقلها الرئيس في إدلب، يشهد إعادة النظر في تعريف الإرهاب والحركات الإرهابية. وتستند الحجج بالهجوم على إدلب إلى كونها تخضع لجبهة النصرة، والتي لا تزال تعرّف باعتبارها تنتمي لتنظيم القاعدة، رغم تحولاتها وفك ارتباطاتها وتغيير تسمياتها من "جبهة فتح الشام" إلى "هيئة تحرير الشام".

بحلول كانون الثاني/ يناير 2017، كانت روسيا قد أصبحت اللاعب الرئيس في سوريا، عبر مسار "أستانا". فالديناميكية الجديدة مثلت لحظة تاريخية فارقة؛ دشنت تخلي الدول الغربية والعربية ممن أطلقت على نفسها "مجموعة أصدقاء سوريا" عن المعارضة السورية، وأقرت ببقاء الأسد، وانحسرت المنافسة بين روسيا وتركيا وإيران. وقد دشنت اجتماعات أستانا في عاصمة جمهورية كازاخستان برعاية روسية تركية إيرانية، في 23 كانون الثاني/ يناير 2017، مسألة تثبيت وقف إطلاق النار، وشهدت الجولة الرابعة من مفاوضات أستانا في أيار/ مايو 2017؛ التأكيد على وقف إطلاق النار، والاتفاق على إقامة أربع مناطق لخفض التصعيد، واتخاذ جميع التدابير اللازمة من طرف المشاركين لمواصلة القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة فتح الشام؛ وغيرهما من الأفراد والمجموعات والمنظمات التابعة لهما في داخل مناطق خفض التصعيد.

كشفت اجتماعات "أستانا" عن غياب استراتيجية أمريكية في سوريا، وبرهنت في ذات الوقت على أن ثمة استراتيجية روسية واضحة وعملية تقوم على الحفاظ على نظام الأسد، والتخلص من المعارضة المسلحة التي ترفض بقاء الأسد ولا تقبل المشاركة في الحرب على "الإرهاب" بتعريفاته الروسية. وإذا كانت المعارضة المسلحة قد قبلت، دون تردد، حرب تنظيم الدولة الإسلامية، وتلكأت في حرب جبهة النصرة في البداية، فقد أصبحت لاحقا ركنا أساسيا بقبول الانخراط في حرب النصرة وما نتج من سلالاتها، كجبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام، وأصبح العنوان الرئيس لاجتماع "أستانا 6"، المنعقد في 14 أيلول/ سبتمبر 2017، يدور حول سيناريوهات معركة إدلب وطرد هيئة تحرير الشام.


إذا كان العام الماضي قد شكل هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بالنسبة لروسيا، فإن العام الحالي سيخصص للتخلص من تنظيم القاعدة. فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2017 أن الجيش الروسي "أنجز" المهمة في سوريا، وأن هذا البلد "تحرر بالكامل" من تنظيم الدولة الإسلامية. وقد احتفى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتحقيق النصر وهزيمة تنظيم الدولة، حيث ذهب بنفسه إلى سوريا وأعلن من قاعدة حميميم، التي منحها بشار الأسد لموسكو في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2017، انسحاب بلاده من سوريا. وقد هدد بوتين من سمّاهم "الإرهابيين" قائلاً: "إذا رفع الإرهابيّون رأسهم من جديد، فسنوجه إليهم ضربات لم يروها من قبل"، مضيفاً: "لن ننسى أبداً الضحايا والخسائر التي تكبّدناها أثناء محاربة الإرهاب هنا في سوريا وفي روسيا أيضا"، وهو انسحاب دعائي هدف إلى نزع ذريعة وجود أي قوات أجنبية في سوريا، والتي دخلت بذريعة حرب الإرهاب. ولذلك شككت القوى المقصود بالانسحاب الروسي، وخصوصا أمريكا وتركيا، وشبّهوه بتكرار سيناريو العام 2016؛ عندما أعلن بوتين بنفسه حينها سحب قواته.

أصبحت سيناريوهات الإعلان عن الانسحاب الروسية مكرورة. فعندما أعلنت عن انسحابها في المرة الأولى نهاية 2016، دشنت حملة عسكرية جوية عنيفة على مدينة حلب، وفي هذه المرة - نهاية 2017 - دشنت حملة أعنف على إدلب. وإذا كانت الحملة الأولى أفضت إلى تفاهمات تركية روسية أسفرت عن سيطرة النظام على حلب مقابل إطلاق يد تركيا في "الباب"، لا تزال الحملة الحالية على إدلب لم تسفر عن صفقة بمبادلة إدلب بعفرين، الأمر الذي ييرز تناقضات بين روسيا وتركيا، ويكشف عن جوهر الاستراتيجية الروسية بالتفرد في سوريا. 

كانت ردة فعل تركيا على التصعيد الروسي في إدلب مفهومة، ودخلت مسارات مؤتمر "سوتشي" التي يفترض أن تستكمل "أستانا" مرحلة الشك، حيث استدعت وزارة الخارجية التركية سفيري روسيا وإيران للاحتجاج على انتهاكات قوات النظام لاتفاق خفض التصعيد في إدلب وحماة. واعتبر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن "استهداف النظام للمعارضة المعتدلة يقوض عملية السلام السياسية في البلاد". وقال أوغلو في تصريحات صحفية بمقر البرلمان التركي؛ إن "قوات النظام تستهدف المعارضين المعتدلين تحت ذريعة مواجهة جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً)، وهذا أمر يقوض عملية الحل السياسي الجارية". كما أكد الوزير التركي على أنه من الضروري أن تتجنب الأطراف التي ستجتمع في مدينة سوتشي الروسية ارتكاب مثل هذه الأفعال، والمتوقع في الفترة من 29 إلى 30 كانون الثاني/ يناير الجاري.

في هذا السياق، حاولت الفصائل المسلحة، بدعم من تركيا إيقاف هجوم الجيش السوري في محيط مطار أبو الضهور، عبر هجوم منسّق استهدف خطوط التماس غرب بلدة أبو دالي في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، وشنت هجوما معاكسا يستهدف خط إمداد القوات المتقدمة نحو المطار، في ريف إدلب الجنوبي الشرقي. وشاركت في المعارك فصائل "تحرير الشام" و"الحزب الإسلامي التركستاني" و"أحرار الشام" و"فيلق الشام" و"جيش الأحرار"، إلى جانب "جيش العزة" و"جيش النصر"، إضافة إلى تنظيم "قاعدة الجهاد في الشام" الذي يشكل"جيش البادية" هيكله الأساس.

 
لا تزال معركة إدلب في بداياتها بانتظار صفقة ما، لكنها كشفت الاختلافات الاستراتيجية الدولية والإقليمية. فالولايات المتحدة وتركيا عادت إلى مناكفة روسيا، ورفعت من مستوى خطابها حول مصير الأسد ومستقبل الحل في سوريا. فقد خفضت الولايات المتحدة الأمريكية مستوى تمثيلها في مفاوضات أستانا، معتبرة أنها "تجاوزت أهدافها"، ومؤكدة أن الأمم المتحدة هي فقط من تستطيع إضفاء الشرعية على المفاوضات، وأن واشنطن لن تدعم إعادة إعمار سوريا إذا بقي الأسد على رأس السلطة. وقال ديفيد ساترفيلد، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، إن واشنطن فعلت ذلك خشية أن "يتجاوز الاعتراف بأستانا الأهداف التي وضعت من أجلها، والتي دعمناها". وكشف ساترفيلد أن الأمم المتحدة خفضت أيضاً مستوى مشاركتها في المفاوضات للأسباب ذاتها، معتبراً أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وليس الإدارة الأمريكية، هو من يملك القدرة على إضفاء الشرعية أو دعم أو معارضة أي مسار قد يقال إنه يدعم مسار جنيف بموجب قرار 2254. وأشار ساترفيلد إلى أن غوتيريش متحفظ بشأن الضمانات الروسية المتعلقة بمؤتمر سوتشي، وأنه من دون تصديق الأمم المتحدة على مسار سوتشي سيكون الروس فعلياً في طريق خاصة بهم، وهم "يقامرون في هذا الأمر". لكن المسؤول الأمريكي تماهى مع روسيا حول مسألة "الإرهاب"، وأشار إلى أن إدلب تشكِّل منطقة مضطربة بسبب "سيطرة فرع القاعدة عليها بشكل واسع"، في إشارة إلى "هيئة تحرير الشام".

إحدى الرسائل الأكثر تصعيدا في الصراع الإقليمي والدولي في سوريا؛ تشير إلى أن التفرد الروسي ليس مضمونا. فنهاية "حرب الإرهاب" تشكل بداية لحروب الوكالة الدولية، حيث كشفت سلسلة من الهجمات الغامضة التي استهدفت القاعدة العسكرية الروسية بسوريا، ومن ضمنها الهجوم الذي شنه سرب من الطائرات المسيَّرة من دون طيار والمسلحة، ضعف روسيا المستمر على الرغم من ادعاءات الانتصار في الحرب السورية. وقد اعترفت وزارة الدفاع الروسية، في بيان صحفي في 8 كانون الثاني/ يناير 2018، أنه "تم في ليل الخامس من كانون ثاني/ يناير الجاري، مهاجمة قاعدة حميميم الجوية، ونقطة إمداد الأسطول في طرطوس، باستخدام 13 طائرة بدون طيار على الأقل". وجاءت هذه الهجمات بعد أقل من أسبوع من مقتل جنديين روسيين في هجوم بقذائف الهاون، استهدف القاعدة نفسها، وتسبب في خسائر بالمعدات العسكرية الروسية بقاعدة حميميم. ونفت وزارة الدفاع الروسية، في بيان لها تقريراً نشرته صحيفة "كومرسانت" الروسية، أن تكون سبعة من الطائرات الحربية تضررت وخرجت من الخدمة نتيجة الهجوم بقذائف صاروخية.

لا جدال في أن الهجمات على القواعد الروسية تحمل بصمات الصراع الدولي والإقليمي، فقد اتهمت وزارة الدفاع الروسية الولايات المتحدة بالوقوف وراء الهجوم بطائرات من دون طيار، مشيرة إلى أن "طائرة استطلاع أمريكية، من نوع بوسيدون، كانت تحلّق في سماء المنطقة مدة أربع ساعات خلال الهجوم. وأكدت موسكو أن القدرات الهجومية لتلك الطائرات لا تتوافر لدى أي جماعة مسلحة في سوريا". إلا أن المتحدث باسم "البنتاغون"، أريك باهون، كذّب هذا الكلام تماماً، مضيفاً أن تنظيم داعش سبق له أن استخدم مثل هذا النوع من الطائرات ضد القوات الأمريكية بالعراق وفي شرق سوريا، دون أن تخلّف أثراً كبيراً.

أظهرت الهجمات على القواعد الروسية حجم التنافس والصراع وعمق التناقضات الدولية والإقليمية، حيث برزت نظريات عديدة حول الجهة المهاجمة، فمن بين النظريات المنتشرة على نطاق واسع حسب "واشنطن بوست"، أن العلويين الساخطين على نظام الأسد والأقلية الحاكمة، هم من يقفون وراء الهجوم، خاصة أن القاعدة تقع في منطقة ذات أغلبية علوية. وأعقب الهجوم إعلان حركة على الإنترنت، تطلق على نفسها "الحركة العلوية الحرة"، أنها سوف تستهدف العلويين المؤيدين للنظام السوري. وثمة رواية أخرى، خرجت بها وسائل إعلام المعارضة السورية، أشارت إلى أن "مليشيا مسلحة تابعة لإيران وتعمل لصالح النظام السوري، هي من يقف وراء تلك الهجمات، وذلك في إطار الجهود الإيرانية لتقويض الجهود الروسية الرامية إلى فرض تسوية سلمية في سورياح يمكن أن تؤدي بالمحصلة إلى تقويض المصالح الإيرانية". وذهبت بعض التحليلات إلى وقوف جماعات مدعومة من تركيا خلف الهجمات. فقد أفادت صحيفة "النجم الأحمر"، الناطقة باسم وزارة الدفاع الروسية، بأن الطائرات المسيرة التي هاجمت قاعدة حميميم؛ انطلقت من جنوب غرب منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، على حد زعمها. وتابعت الصحيفة أن وزارة الدفاع الروسية بعثت برسالة إلى رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة التركية، الجنرال أكار خالوصي، وأخرى لرئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان.

خلاصة القول؛ أن معركة إدلب تشكل نقطة تحول أخيرة في مسار الثورة/ الأزمة/ الإرهاب في سوريا، إذ تسعى كافة أطراف الصراع الدولي والإقليمي إلى حرمان أي طرف من فرض استراتيجيته على الطرف الآخر. وفي حال أصرت روسيا على المضي بمعركة إدلب حتى النهاية والتفرد بالحل في سوريا، فإن الهجمات على قواعدها شكلت رسالة قاسية وواضحة بأن الثمن سيكون باهظا، ذلك أن الإعلان عن هزيمة "الإرهاب" يشكل مدخلا لنهاية حروب تقليدية وبداية حروب جديدة.

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع