..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

الحرية في الإسلام

عطية عدلان

٧ فبراير ٢٠١٨ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2964

الحرية في الإسلام

شـــــارك المادة

 

في البَدْءِ كانت كلمة: (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة 35) وكانت هذه الكلمة التي تلقاها آدم وحواء قبل نزولهما إلى الأرض مُفَجِّرة لطاقة الحرية الفطرية في الكيان الإنسانيّ: “حيث شئتما” وكانت كذلك مُوَسعة لمدى هذه الحرية بتضييقها لدائرة الاستثناء: “ولا تقربا هذه الشجرة” ومُعَلِّلَةً ذلك الاستثناء بعلة تتسق مع كرامة الإنسان؛ بخطابها للعقل المدرك بطبيعته لمغبة الانحراف: “فتكونا من الظالمين".

ولقد مهدت سورة البقرة لتلك الكلمة بتقرير مُتْرع روعةً وجلالاً: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة 29) ونظير ذلك في كتاب الله كثير، لكنّ هذا التقرير تحديداً يتميز بمجاورته للميلاد، أعني ميلاد التوأم (الإنسان والحرية) فإذا كان جميع ما في الأرض خُلق للإنسان فهذا يعني إطلاق يده فيه، وهذا هو ما قررته الشريعة في قواعدها الكلية بعبارات صارمة، وقوانين غاية في الاستقرار والثبات، فالأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في العبادات التوقف، والأصل في المعاملات والعقود الصحة، والأصل في الاكتساب والارتزاق الحرية، والأصل براءة الذمة وخلوها من الالتزام.

 

فالإباحة والإتاحة والحرية والبراءة هي الأصل؛ ولا ريب أنَّ “مِنْ تناوُلِ المباح الاحترافُ بأنواع الحرف المباحة، والنزولُ بالمَوَاطن المأذون في نزولها، وتناوُلُ ما أبيح للناس من الماء والكلأ، والتصرفُ في المكاسب بالوجوه المباحة، واختيارُ المطاعم والملابس والمساكن، وتناولُ الشهوات المأذون فيها" كل ذلك وغيره مما أطلقت الشريعة يد الإنسان فيه هو الأصل، ثمّ يأتي المحظور استثناء من هذا الأصل؛ لذلك كان القائل بالتحريم هو المطالب بالدليل؛ لأنَّه يدعي خلاف الأصل.

غير أنَّ الإنسان الذي وُلد مع الحرية في مهد واحد لم تكن له هذه الحرية غايةً، وإنَّما غايته التي خلق لها والتي لم يخلق إلا لها هي هذه الغاية التي نص عليها الكتاب العزيز: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56) ومن هنا فالحرية والعبادة وجهان لعملة واحدة هي الإنسانية، أحدهما يعطيها هويتها والآخر يمنحها قيمتها، وشاطئان لنهر واحد هو الإنسان، بينهما يجري وفي أحضانهما يتدفق، وبقدر ما تضعف عبادة الإنسان لربه يقع في براثن العبودية لغيره؛ وبقد ما يكون محرراً خالصاً لله ينجو من أغلال العبودية لسواه.

وعندما نرى الإنسان بحالته الفطرية هذه وبوضعه الطبيعيّ هذا ينفرط عقد المعضلات التي أنشاها الفكر المعاصر عن قيود الحرية من جهة مشروعيتها ومصدريتها ومداها، أمَّا من جهة تقررها من حيث المبدأ فلا أحسب أنَّ أحداً يماري في ذلك، إلى حدِّ أنَّ المنظرين للحرية الطائشة المنفلتة لا يسعفهم التنظير رغم طول الحجاج وكثرة اللجاج في دفع هذه الحقيقة الواقعية التي يضطر (مِلْ) راغماً أن يقررها بهذه الصراحة: “فمن المعلوم أنّ المرء لا يجد قيمة للحياة إلا إذا قيدت أعمال الغير بدرجة ما؛ فينبغي إذاً  تعيين قواعد للسلوك يفرض اتباعها على الناس فرضاً، إمَّا بسطوة القانون وإمَّا بقوة الرأي العام حيثما لا يصح تدخل القانون، وتعيين هذه القواعد هو كبرى المسائل في شئون البشر.

 

وهو محق في وصفها بأنَّها كبرى المسائل في شئون البشر، وجميعهم يراها كذلك؛ لذلك يردها الكثيرون منهم إلى قانون فوق القانون الوضعيّ، يسمونه القانون الطبيعيّ، فهذا جون لوك أحد أكبر دعاة الحرية يقول: ” الحرية الطبيعية للفرد تعني عدم خضوعه لأية قوة على وجه الإرض … إلا قانون الطبيعة وما يمليه من أحكام"، وفي كتاب آخر له يقول: ” في الحالة الأصلية تتساوى الواجبات المنوطة بكل إنسان بموجب قانون الطبيعة مع الحقوق المكفولة له بموجب هذا القانون، وأهم هذه الحقوق هو محاسبة الآخرين على خرقهم  لهذا القانون ومعاقبتهم".

والقانون الطبيعيّ ليس قانوناً مسطوراً، إنَّما هو نظرية فلسفية قال بها الرواقيون من فلاسفة اليونان ومن وافقهم من مفكري الرومان مثل شيشرون، ثم أخذها عنهم المتنورون ودعاة الحرية في عصر النهضة والعصر الحديث، ويعتقدون أنَّ: “القانون الطبيعي مهيمن على قوانين البشر، ونسبوه إلى طبيعة الأشياء، وطبيعة الأمور، والطبيعة البشرية، وما يحتمه العقل السليم للإنسان، واعتقدوا أن مصدر هذا القانون الطبيعي هو الإله، ولكن ليس عن طريق الوحي المنزَّل على الرسل، وإنما عن طريق إلهام العقل البشري، وتنوير الفطرة الإنسانية.

 

وليست هذه إلا حيلة للهروب من الدين، وإذا كان لهم عذر في الهروب من الشرع الْمُبَدَّل فليس لهم عذر في الهروب من الشرع الْمُنَزَّل، وماورد في شريعة الله من قيود على الحرية التي هي الأصل لا يمكن أن يُعَدَّ معوقاً للحرية ولا مشوشاً على مقاصدها، ولن يجد الإنسان حريته الحقيقية إلا بدخوله في العبودية لله تعالى؛ بإذعانه لشريعة الله كلها، فمن رام الخروج على أحكام الله باسم الحرية دخل في العبودية للشيطان، وقد نعى الله على أمثال هؤلاء فقال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يس 60).

ومن هذا الأصل الكبير – أعني التكامل بين الحرية والعبادة في فطرة الإنسان وشريعة الرحمن – انبثقت جميع الحريات التي ينبغي أن يتمتع بها الخلق: حرية العقيدة .. حرية العبادة .. حرية التفكير .. حرية التعبير .. حرية العمل والتنقل والهجرة .. حرية السوق، وغيرها من أولوان ممارسة الحرية، ولعل الله ييسر لنا إكمال ما بدأناه .

 

المصادر:

المعهد المصري للدراسات

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع