..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

في انفجار وضمور الأيديولوجيا

أحمد أبازيد

٢ نوفمبر ٢٠١٨ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2643

في انفجار وضمور الأيديولوجيا

شـــــارك المادة

كان عام 2013م تحولاً مفصلياً في مسار الثورة السورية والصراع مع نظام الأسد، كما هو في مسار الربيع العربي والثورات المضادة في السياق العربي العام، ففي هذا العام أصبحت الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات بشعاراتها الطائفية المستفزة فاعلاً رئيسياً على الأرض، ميليشيات عراقية تحيط بدمشق وميليشيا حزب الله اللبناني تجتاح القلمون وتقطع طرق اتصال الثوار بين الشمال والجنوب وضباط إيرانيون ينتشرون في معارك حلب ودرعا، وبالتزامن مع هذه الصحوة الشيعية في سوريا بدأ صعود تنظيم دولة العراق والشام ثم "الدولة الإسلامية" إلى الواجهة، ليشهد في الوقت نفسه تزايد تحول فصائل ثورية وشعبية سورية نحو استعمال شعارات إسلامية، ضمن هذا المناخ من الصعود الإيديولوجي والطائفي العام، لقد مثّل هذا العام مرحلة صعود الخطاب الأقصى، مرحلة انفجار الإيديولوجيا فجأة بين جيل كامل من الشباب مختلف الرؤى وعلى نحو غير مسبوق.

الإسلاميون السوريون كحالة دراسية:
في دراسة حالة فصيل مثل حركة أحرار الشام الإسلامية يمكن أن نشهد مراحل الإيديولوجيا في صعودها وانحسارها.
فقد بدأ هذا الفصيل نهاية عام 2011م ككتائب محلية في إدلب وحماة بقيادة شخصيات جهادية مفرج عنها من سجن صيدنايا، وتشغل موقعاً فكرياً ملتبساً بين أطروحات السلفية الجهادية وسلفية الصحوة (السرورية) والطليعة المقاتلة، ولكنها تقدم للعلن خطاباً من عموميات التيار الإسلامي، ثم وجد نفسه يتطور مع الوقت إلى "حركة إسلامية" على مستوى سوري وذات برنامج سياسي واجتماعي في الربع الأول من 2013م، ثم إلى تحالف بمسمى "الجبهة الإسلامية" في تشرين الثاني من العام ذاته، مع ميثاق تم تسميته "مشروع أمة" (من شعار محلي إلى وطني إلى عالمي).
ولكن كان كل ذلك دون امتلاك منظّرين حقيقيين أو إيديولوجيا متماسكة، وإنما الاعتماد على إرث من الشعارات والاقتباسات من الرموز والتعريف بالسلب (لسنا هؤلاء ولا هؤلاء)، وهي الحالة التي ميزت حالة الصعود السريع للإيديولوجيا في المنطقة.
تعرّض هذا اليقين والاعتماد على الشعارات الإسلامية والجهادية والحرص على التمايز عن الثورة الشعبية والجيش الحر لأكثر من صدمة، بدأت مع تنظيم داعش والمواجهة الدموية ضده، ثم مع استحقاق العمل السياسي في الخارج، ووجدت نفسها في تنافس انتقل إلى سلسلة طويلة من المواجهات والمعارك مع جبهة النصرة، والتي انتقلت إلى مواجهة شاملة في تموز 2017 حين انهارت الحركة أمام هيئة تحرير الشام في إدلب، وبعد أيام فقط من تبنيها -بعد جدل امتدّ سنوات- لرفع علم الثورة.
كانت الحركة تخفض سقف شعاراتها بعد كل صدمة، وتنزاح بشكل مستمر إلى خطاب الثورة الشعبية الذي تمايزت عنه في البداية، ولكن بعد الصدمة الأخيرة، انتهى زمن المراوحة الإيديولوجية والانزياح البطيء نحو الخطاب الثوري والمعتدل، أو بالأحرى زمن إظهار وجود منهج فكري وإيديولوجيا بالأساس، فالحركة دخلت بعد ذلك خلال 2018م في تحالف "جبهة تحرير سوريا" ثم "الجبهة الوطنية للتحرير" وانضوت تحت "الجيش الوطني السوري"، وشاركت في محادثات الأستانة التي رفضتها سابقاً رغم الضغوط التركية، واختفى البعد الإيديولوجي وشعاراته بشكل شبه كامل، ليبقى جانب الفصيل المحلي كغيره.

تحولات تلاميذ تنظيم القاعدة
مرت فصائل أخرى بسيرورات مشابهة في المراحل العامة، وذلك يشمل جبهة النصرة نفسها، والتي تأسست بدعم البغدادي قائد "دولة العراق الإسلامية" آنذاك، وتحولت إلى فرع لتنظيم القاعدة بزعامة الظواهري، ثم اصطدمت مع البغدادي، وخاضت سلسلة صراعات ضد الجيش الحر بشعارات تكفيرية، ثم فكت ارتباطها بالقاعدة لتتحول نحو جبهة فتح الشام، ثم دخلت في تحول آخر في سعيها المحموم لإثبات المحلية والاعتدال حين أعلنت "هيئة تحرير الشام" في كانون الثاني/يناير 2017م ضمن مسعى الجولاني البراغماتي ليكون "زعيم إدلب" المعترف به، وتراجعت الهيئة عن أدبيات الخطاب الجهادي بشكل سريع ومخجل في خطابها للخارج، رغم استعمالها له في قتالها ضد الخصوم المحليين، والذين كفّرتهم بسبب قبول اتفاقيات دولية شاركت الهيئة نفسها بقبولها وتنفيذها (الأستانة وسوتشي) بحثاً عن قبول المجتمع الدولي "الكافر" الذي رفعت شعارات محاربته سابقاً.

وفي الحقيقة كانت مواجهة الفصائل الثورية والإسلامية ضد داعش، ثم انهيار داعش نفسها، رغم سقفها الأيديولوجي الأعلى، قد ساهم في ردة الفعل الواسعة ضد هذا الخطاب المتشدد، وفي انكشاف هذه الشعارات كصرح من الخيال والانتهازية والاختراق المخابراتي.

ضمور الأيديولوجيا عربياً
ولكن ما جرى في وسط الفصائل الثورية والإسلامية من صعود وضمور الإيديولوجيا، كان جزءاً من سيرورة أوسع مرت في المنطقة، فنظام الأسد الذي حكم طيلة عقود عبر استعمال خطاب حزب البعث العربي الاشتراكي وخطاب الممانعة والتصدي لإسرائيل، تخلّى أثناء قتاله الوحشي ضد الثورة الشعبية عن هذا الخطاب العقائدي، ولم يعد أحد يسمع بحزب البعث –الذي كان حاكم الدولة والمجتمع في الدستور- ولا بخطاب الممانعة ضد إسرائيل، بل إن رسائل ضرورة نظام الأسد بالنسبة إلى أمن إسرائيل كانت علنية ومن الطرفين.

وظاهرة ضمور الإيديولوجيا في سوريا بين الثورة والنظام والجهاديين، أضحت ظاهرة سياسية عربية عامة بعد الثورات المضادة التي أسقطت بدايةً حكم ممثلي (إيديولوجيا) الإسلام السياسي في مصر، ومع تحول نظام الأسد إلى قدوة الجيل الجديد من السلطوية العربية، لم تعد الدولة العربية تستعمل أي خطاب إيديولوجي في تبرير حكمها أو قمعها، رغم أن معظم الدول العربية بعد عبد الناصر استعملت الإيديولوجيات المختلفة في خطابها السياسي والجماهيري، خاصة الإيديولوجيات القومية واليسارية والتي انكشفت عزلتها وعوارها الأخلاقي مع بداية الثورة السورية لتفتتح مسيرة سقوط الإيديولوجيات.

وحتى دولة مثل السعودية قامت على عقد تعاون غير مكتوب بين المؤسسة الدينية السلفية والسلطة الحاكمة منذ تأسيسها الأول في منتصف القرن الثامن عشر، تحولت مع ولي العهد محمد بن سلمان إلى مركز لإذلال هذه المؤسسة السلفية وإجبارها على القبول بسقف من المظاهر الغربية والانفتاح لم تكن تحلم أو تعلم بوجوده.

حتى مؤسسة التقليد..
ترافق ضمور الإيديولوجيا السياسية مع انهيار مصداقية ومرجعية المؤسسة الدينية التقليدية، والتي اكتفت بالصمت في أحسن الأحوال عن جرائم السلطة، ولكنها في أسوأ الأحوال وأكثرها انتشاراً ساهمت في شرعنتها ومهاجمة خصومها، فالبوطي وقسم واسع من المؤسسة الدينية في سوريا التي تمثل المدرسة الأشعرية الشافعية التقليدية شرعن لعمليات قتل المتظاهرين العزل وإبادة مدن بأهلها، والمؤسسة المشابهة في مصر فعلت الأمر نفسه، والسلفيون في حزب النور في مصر أو هيئة كبار العلماء في السعودية تورطوا بانهيار المصداقية ومناقضة فتاواهم السابقة بشكل أسرع، عدا عن انتشار حالة اللامبالاة بالدين بين جيل الشباب، كردّ فعل على صعود تنظيم داعش أو على فظاعة المأساة التي عشناها.

ليس زمن ما بعد الإيدلوجية

المفارقة أنه على صخرة الثورات العربية والثورات المضادة معاً انهارت إيديولوجيات المنطقة على اختلافاتها الشاسعة، واهتزّت حتى مؤسسات التقليد الديني والثقافي التاريخية، يجري هذا بعد زمن قصير من انفجار الإيديولوجيا وتحكمها بالخطاب والمجال العام وحتى بالأرض والمجتمعات، وفي الوقت نفسه الذي تصعد فيه إيديولوجيات اليمين المتطرف وتستعاد العنصرية القومية في الغرب.

ليس علينا أن نسارع إلى التبشير بزمن ما بعد الإيديولوجيا، وهي النبوءة التي تم تداولها في بداية الربيع العربي لنشهد بعد عامين فقط انفجار التطرف والتعصب والإبادات الجماعية والسلطويات المتوحشة، وهو أمر ما زال ممكناً تكراره بأشكال أخرى وربما أعنف.

ولكننا بالأحرى مجتمعات في مرحلة من الشك الكبير والريبة العامة وغياب الأمل يغذيها سلطويات تجمع العنف والغباء، وفي عالم يفقد وجهته بعدما ظنّ لوهلة أنه حقق نبوءة هيغل وبلغ نهاية التاريخ.ا

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع