الشرق الأوسط
تصدير المادة
المشاهدات : 6453
شـــــارك المادة
لا تأبه أقدام «عبودي» الصغيرة بمياه الثلج المتجمدة. يدوس بحذائه الصيفي على الثلج وتعلو قهقهاته بين الخيم المتراصة كما لو أنه يدوس على العشب الأخضر في حديقة منزله، يلهو وأقرانه لساعات من دون الشعور بتعب أو برد رغم برد البقاع اللبناني القارس. هم لا يأبهون بالحرارة المنخفضة ولا يفهمون نظرات آبائهم وأمهاتهم التي اختلط فيها الحزن بالقلق، وأرهقتها ساعات الانتظار الطويلة.
وحدهم يوحون بالحياة، وسط خيام النازحين السوريين في بلدة المرج البقاعية. أمهات وفتيات يجلسن داخل الخيم، أو يخرجن خلسة مخبئات وجوههن لنشر قطعة غسيل أو قضاء حاجة، ثم يسارعن للعودة إلى الخيم. رجال وشباب، لا يثقون سريعا بمن يجول بين خيمهم، يرمقون الداخل والخارج إلى الباحة، حيث نصبت الخيم، بنظرات سريعة، محاولين التعرف إلى هويته قبل التحدث إليه بأسماء وهمية وبعيدا عن عدسات وسائل الإعلام. وحدهم الأطفال يستأنسون بالحركة ويرفعون الكلفة سريعا بعدما بات يروقهم لهم الابتسام أمام الكاميرات والتباهي بأسمائهم.
لكل عائلة من العائلات النازحة إلى بلدة المرج، الواقعة في منطقة البقاع الغربي، قصتها، لكن المشترك بينها نزوحها بمعظمها من أحياء العاصمة السورية دمشق، من الميدان والقابون والصالحية والمعضمية والسيدة زينب، ومخيمي اليرموك وفلسطين، إلى لبنان. نزوح لم يكن الأول، إذ سبقته حركة نزوح من حي إلى آخر داخل دمشق إلى أن ضاقوا ذرعا بأصوات المدافع ورصاص القناصة والحواجز، وبمشاهد أطفالهم وهم يرتجفون خوفا ويستيقظون ذعرا. عندها، قرروا النزوح إلى لبنان بحثا عن أمان مفقود في أحيائهم، لتبدأ معاناة من نوع آخر، هي معاناة النزوح.
لم تحسب زينب، وهي سيدة لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد، أنها ستلد يوما ما ابنها الثاني بعيدا عن منزلها وحارتها، وستخرجه من رحمها إلى خيمة متواضعة محاطة بالثلج. غادرت مع زوجها وابنها البكر وعائلتها من الصالحية في دمشق إلى الحدود السورية - اللبنانية، حيث اجتازوا نقطة المصنع الحدودية من دون أن يعلموا ما وجهتهم. سائق سيارة الأجرة التي نقلتهم أخبرهم عن بلدية المرج، التي تقدم المساعدات للعائلات النازحة، وهكذا وصلوا إلى البلدة.
بعد أسابيع قليلة على وصولها، حان وقت ولادتها قيصريا. ونقلت إلى مشفى قريب قبل أن تعود وطفلها الثاني إلى الخيمة، بينما طفلها البكر لم يبلغ عامه الثاني بعد. منذ شهر والمولود مريض، يعاني الفطريات في أنحاء جسده الصغير والنحيل، فضلا عن البرد ووضع أمه النفسي السيئ. لا تتكلم زينب كثيرا، لكن تعابير وجهها ونظراتها تفضح الحزن والقلق الذي يعتمرها. يقول زوجها: «كلما أرادت الخروج للحمام، عليها أن تخرج من الخيمة وتسير إلى الحمام الموجود عند مدخل المخيم وجرحها لم يلتئم بعد». ثم يضيف: «بتنا نشتهي أن نملك غسالة ثياب كلما تجمدت أصابعنا ونحن نغسل ثيابنا بالمياه الباردة في الخارج».
قوام مخيم النازحين السوريين 41 خيمة، تؤوي 41 عائلة من أصل 580 عائلة وصلت إلى بلدة المرج، لكل خيمتين حمام مشترك، أما المطبخ فتستخدمه العائلات كافة. لكن المتبقي من الخيم أمس لم يتعد ثمانية عشر خيمة بعدما أرخت العاصفة بثقلها قبل أيام على سهل البقاع وتكوم الثلج بين الخيم. غزارة الأمطار والثلوج أدت إلى تسرب المياه إلى داخل الخيم، مبللة السجاد وفرش النوم والبطانيات والألبسة. فنقلتهم بلدية المرج، وهي التي تتكفل عبر رئيسها وبمساعدة من هيئة الإغاثة الإسلامية السعودية، بمهمة إيواء العائلات النازحة حتى اللحظة، إلى قاعات ومنازل مجاورة بانتظار أن «يذوب الثلج ويبين المرج».
يتحسر النازحون جميعا على وضعهم في لبنان، رغم أنهم يتلقون الإغاثة والحاجات الأساسية. لكنهم ما إن يتذكروا أن «جني العمر» بات ركاما في وطنهم حتى يشكروا ربهم على نعمة الأمان وإن داخل خيم متواضعة. قدمت هبة، وهي سيدة ثلاثينية، مع أولادها الأربعة وأهل زوجها وإخوته وعائلاتهم إلى المرج منذ شهر تقريبا، لكنها لا تنفك تفكر في زوجها المصاب في خان الشيخ. لم يجرؤ على القدوم معهم واجتياز الحواجز النظامية الكثيفة من دمشق إلى نقطة المصنع الحدودية.
تستعيد بحسرة لحظات خروجها من معضمية الشام: «خرجنا بحالة سيئة تحت القصف وغارات طائرات (الميغ) التي سوت منزلنا ركاما. لم نأخذ معنا سوى ثياب الأطفال التي خضعت للتفتيش عند كل حاجز اجتزناه من دمشق إلى الحدود، مرفقة بسؤال: لماذا نغادر وإلى أين نتجه؟! وما إن وصلنا إلى المرج حتى بدأ تساقط الأمطار والثلوج ونفدت المياه إلى داخل الخيمة». ورغم حزن هبة على وضع زوجها الذي لا تتمكن من الاطمئنان على صحته، وعدم تواصلها منذ مجيئها مع أهلها وأشقائها، وتحسرها على منزلها المدمر، لكنها تصبح أكثر تماسكا عندما تتحدث عن أطفالها: «هنا الأولاد لا يخافون، لا يرتعبون مع دوي المدفعية المتواصل ولا أعيش قلقا متواصلا على سلامتهم. ينامون طوال الليل من دون صراخ مفاجئ أو استيقاظ مذعور». وتضيف: «صقيع البقاع ولا قصف الشام، لأن الفقراء أمثالنا هم من يدفعون الثمن ويقعون ضحية الطرفين المتقاتلين».
جملة هبة الأخيرة تستفز جارها في الخيمة المجاورة بلال. يقاطعها قائلا: «لكن، لا يمكننا أن ننكر أن ثمة طرفا أرحم من الثاني وأحن منه. طرف يدافع عنا ولا يقتلنا عشوائيا كما يفعل الآخر». توافقه هبة وتأمل أن تتمكن من العودة قريبا إلى أهلها ومنطقتها، وتمضي بعدها مسرعة إلى داخل خيمتها.
تبدو حماسة بلال مبررة، فهو قدم إلى المرج قبل أسبوعين، آتيا من مدينة داريا، حيث تدور اشتباكات عنيفة مع محاولة القوات النظامية اقتحام المدينة الواقعة في ريف دمشق واستعادة سيطرتها عليها. يقول بلال: «يحاول النظام الاقتحام، لكن إرادة ربنا هي ما تردعه. العائلات كافة فقدت أشقاء وآباء وأطفالا، وتتعرض للقمع والتنكيل والخطف». ويضيف: «بقينا لثلاثة أيام بلا خبز وأكل وطحين، في ظل انقطاع الكهرباء والماء وكثرة الحواجز التي تمنعنا من الانتقال من حي إلى آخر لتأمين حاجاتنا»، موضحا «إننا تمكنا مع عائلتين من الخروج من داريا في الصباح الباكر بمؤازرة شباب من (الجيش الحر) أمنوا خروجنا وأجرة الطريق إلى المصنع، لأننا لم نعد نملك شيئا».
يحاول بلال (وهو اسم مستعار) أن يضبط مشاعره وهو يستعيد الأيام الأخيرة في داريا. يتحدث عن مضايقات كثيرة من الحواجز الأمنية لم يعد يقوى على تحملها، إذ عرضته شهرته لمواقف لا يحسد عليها. «عند كل حاجز يسألون عن بطاقة الهوية للتدقيق فيها، وما إن يدركوا أن شهرتي (الحريري) حتى يبدأوا بمضايقتي وسؤالي عن سعد الحريري (رئيس الحكومة اللبنانية السابق) وعلاقتي به، رغم أنني سوري الجنسية أبا عن جد». تكرار هذا الموقف وتعرضه للتعنيف اللفظي والجسدي، فضلا عن استهدافه بلقمة عيشه في الفترة الأخيرة، دفعه إلى اتخاذ قرار النزوح. يقول: «سرقوا سيارتي أولا، وكانت مصدر رزقي لأنني أعمل في توزيع المواد الغذائية، ثم كسروا محلي ونهبوا محتوياته قبل أن يحرقوا منزلي».
ولدى سؤاله عما يترقبه في الفترة المقبلة، يجيب: «باقون هنا حتى تنتصر الثورة ونعود إلى بلدنا».
اللافت أن معظم النازحين يتحدثون عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد ويحملونه مسؤولية ما يجري من أعمال قتل وعنف ونزوح من دون أن يلفظوا اسمه، كما لو أنهم يتحدثون عنه بصيغة المجهول: «طرف يقتل»، «هو يخطف»، «لا يرحم شعبه»، «يقومون باعتقالات عشوائية»، «لن نعود قبل أن يرحل»، وهكذا دواليك. يقول قاسم، (أب لطفلين)، إن «سوريا باتت، في ظل وجوده، أشبه بسجن كبير مفتوح، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود». يسهب في الحديث عن انتقاله من ممارسة مهنة إلى أخرى، محاولا تأمين لقمة عيش أطفاله في حي الصالحية، عبثا، في ظل تردي الأوضاع. ورغم أنه يقطن في خيمة «لا تفلح (الصوبيا) في تدفئتها حتى ولو انهمر المازوت فيها، لكن يكفيني أنني أنام مطمئنا من دون سماع صوت القذائف ولا أخاف أن يفتح أحدهم الباب علي ليلا». ويضيف: «صحيح أن الخيمة ليست قصرا، أو منزلا قوامه سقف وجدران إسمنتية، ونحن نبيت في العراء، لكن أمان في العراء يبقى أفضل من انتظار الموت في سوريا».
على بعد أمتار من خيمة قاسم، يقف رجل قوي البنية مع اثنين من أبنائه. وقبل سؤاله عن وضعه وأسرته وكيفية وصولهم إلى المرج، يبادر إلى «معاتبة اللبنانيين الذين لم يحسنوا استقبال السوريين، كما فعلنا خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو (تموز) 2006. فتحنا لهم منازلنا ومحالنا ومؤسساتنا من دون أن نستغل وضعهم كما هم يفعلون اليوم».
بنقمة، يتحدث أحمد، الذي يعرف نفسه بأنه «معلم بناء» من معضمية الشام، عن كيفية انتقاله قبل أسبوع من منزل استأجره منذ ثلاثة أشهر في المرج إلى خيمة في عز الصقيع والثلوج. يقول: «نحن ملاك في الشام، منازلنا قصور، ولدينا بسبب أعمالنا أملاك وأموال وسيارات، لكننا غادرنا بسبب الخوف على أطفالنا لا على أنفسنا». ويتابع: «جئنا ثلاث عائلات، أنا وأهلي وشقيقي، إلى المرج، حيث استأجرنا منزلا مقابل 500 دولار أميركي في الشهر الواحد، يضاف إليها تحملنا لتكلفة الماء والكهرباء. ومع غلاء المعيشة واستغلال المؤسسات والمحلات لوضعنا كنازحين سوريين، نفدت الأموال ولم يعد بإمكاننا تأمين قوت 20 شخصا يوميا، فلم يعد أمامنا حل سوى الانتقال للخيم هنا، حيث نبيت في ما يشبه العراء، ونعيش على المساعدات من هنا وهناك».
يقول أحمد، إنه يقضي الليل «يبكي من الهم والغم»، ويحاول في النهار «التماسك أمام العائلة، فالمساعدات بثمنها إلا ما قل ودل». ويستذكر ما قدمه شخصيا للنازحين اللبنانيين خلال عدوان يوليو 2006: «استقبلنا اللبنانيين في منازلنا لأكثر من شهرين وقدمنا لهم كل ما يلزم من دون مقابل، لكننا اليوم نجد أنفسنا نعيش على مساعدات وإغاثات، في ظل استغلال غير طبيعي لوضعنا»، مبديا أسفه «لأننا كنا نعيش بخير، لكننا لم نجد خيرا هنا».
في خيمة أخرى، تعيش أم محمود مع ابنها الوحيد الذي يحتار كيف يقضي أيامه من دون مدرسة. «فقدت زوجي برصاص قنص لدى عودته من عمله قبل أشهر، وتوفي اثنان من أشقائي وهما جنديان نظاميان خلال الاشتباكات من دون أن نعرف أين وكيف، كل ما عرفناه أنهما قتلا». بعد أن طال القصف حي الميدان، قررت أم محمود مغادرة الحي برفقة عائلتين: «خسرت كل شيء، البشر والحجر بعد تهدم منزلي. خرجنا من الشام إلى المصنع بسيارة أجرة، ثم دخلنا سيرا على الأقدام إلى لبنان. لجأنا إلى مدرسة لفترة في بلدة لم أعد أذكر اسمها، وبعد أن فتحت أبوابها انتقلنا إلى هنا. نعيش مستورون، وإن كنا في خيمة وتنقصنا مواد التنظيف والغسيل، والمازوت للتدفئة بشكل جيد».
يشرب محمود الشاي وهو ينصت إلى كلام والدته، ويهز برأسه موافقا. تشير والدته إلى أنه «لا ملاذ لنا اليوم، بعد أن فقدت أفراد أسرتي، وإذا فكرت في العودة فلا مكان يؤويني»، معتبرة أن «عيش كل يوم بيومه أفضل من التفكير إذا كنت سأقتل وابني في اللحظة الثانية» ولست أنا وحدي من ظلمت، لم يعد لدينا ما نخسره إطلاقا»،.
أورينت نت
فرح الزمان شوقي
العصر
صفوان الأحمد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة