..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

ريش النعام

أمين الكلح

٢٩ إبريل ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4042

ريش النعام
22.jpeg

شـــــارك المادة

قيلَ عني العجوز الصغير المقاوم للانكسار، ولدت على باب خيمة قبل أن تفرغ أمي من إلقاء حزمة الحطب عن رأسها. منحتني الحياة أنفاسي الأولى صمتاً وعينان لم تكونا مغمضتين(1)... قيل في الحكاية كثير.


أشياء تشبه الخرافات إلى حدٍ كبير، تعلمتُ الحرف الأول والأخير خوفاً من معلم عز عليه الابتسام يُشبه الأصنام لا تفارقه العصا كجندي واثق من نفسه على باب أمير. لم أتذكر الخيمة وكيف انقلبت إلى غرفةٍ من الطين، وعرفت فيما بعد أننا في مخيمٌ للاجئين الفلسطينيين.
استمعت إلى أهلي يتحدثون عن فلسطين النكبة، وجيش الإنقاذ وقضايا التخوين.. واستمعت لبعض من خطابات عبد الناصر ولم تكن تلك الكلمات القادمة من الراديو تعنيني أو حتى أفهمها، بل كان تركيزي على ملامح والدي؛ تعابير وجههِ زفراتهِ.. حماسهِ... ابتسامات الرضا وكأنه في لحظاتٍ سوف يطير.. كانت الأيام تحمل لنا مفاجأةً من العيار الثقيل. صوت المذياع يعلن سقوط مدينة القنيطرة! لم يصدق الرجال الذين تجمعوا في ظل بيت عمي، فطلبوا تغيير المحطة بأخرى، فسمعنا صوت لندن يؤكد الهزيمة! ولم يصدقوا فقال عمي: افتح على إذاعة إسرائيل بالعبرية، فقد كان بين الرجال من يفهم العبرية، واستمع الجميع بصمت مرهف للنشرة العبرية وكأنهم يفهمون العبرية، رفع المترجم العجوز رأسه عن المذياع ليؤكد الهزيمة، فأكد عمي عليه عدةَ مراتٍ أن كان يعي ما يقول، فكانت الإجابة قاطعةً. غاب عمي عن الجميع عدة دقائق وعاد يا لهول المفاجأة فصرخ به والدي أين شاربيك يا رجل؟! فرد تسبقه دموعه على خده لم نعد رجال من الآن والى الأبد، نحن مجرد حريم كلنا حريم، الشوارب تحتاج لمن يحميها، ونحن كما ترون أقل من القاصرات في بيوت الأيتام. بدا رجلاً مهزوماً منكسراً متراجعاً عن أي معنى لأي فرصة أمل، بكى الرجال ورأيت دموع والدي تهزمني بل تقتلني فبكيت بصمت الحاقدين، بل ربما العاجزين..
كان يتشكل في داخلي نسخاً مشوهةً عن أحلام والدي بل ومشكوكاً بها أيضاً، ولربما تشوهت أكثر يوم استيقظت بعد منتصف الليل قرابة الفجر على صوت سيارة عسكرية وأربعةً من الرجال المزركشين في لباس الميدان الكامل، ولأول مرة في حياتي اشتم رائحة شواء لحم ونفير كل بيتنا في مثل هذا الوقت من الليل!! وما حيرني من أين جيء باللحم!! فعرفت أنه بالدين. قيل أنهم من الفدائيين وغادروا إلى الأردن لحماية الثورة، كان عليّ أن أعيد ترتيب الصورة من جديد. فهل نحن معنيون بالأردن أم فلسطين؟! لم تتأخر الإجابة كثيراً فقط أيام ولمحت صورة الانكسار تهزم والدي، وما زاد من بؤسي وحقدي يوم دخلت غرفته فوجدتهُ مع شقيقي الأكبر يغرقان بالدموع... ذهلت حقاً وتبين لي أن عبد الناصر قد مات ولم أكن يومها أعرف عبد الناصر، فكل ما عرفتهُ أنه كان سيحرر فلسطين كما اعتقد والدي حينها، فحزنتُ لاعتقادي أن والدي لن يرى الفرح بعدها.
كان شيء ما في داخلي حزين إلى درجة الجنون، وكنت متمنياً أدنى شيء يبعث على الأمل، قد اكتشف به شكل الفرح، الانتصار وربما ابتسامة تشي أننا لازلنا نستطيع أن نفعل شيء. نعم كنت صبوراً ولكني كنت شكاكاً ولا أسلم نفسي للإدعاءات وتصديق العروض البهلوانية، فقد كنت قادراً أن أقيم قدراً من المحاكمة العقلية مؤُكدْ أن المدرسة هي صاحبة الفضل فيه.
في المخيم يحيل شهر آب الحياة إلى جحيم لا يطاق، تنثر الريح الغبار من كل اتجاه ويتحول المخيم إلى لفةٍ من الغبار، ويصبح الخروج في أزقته أمراً اضطرارياً، لا أدري ما الذي جعلني أقف على النافذة لأرى شاب يرتدي بزة تخرج الكلية الحربية معتمراً على رأسه قبعةً متطاولة إلى الأعلى يُزينها ريشُ نعامٍ أبيض لكنه لم يعد كذلك، بل بدا وكأنه يضع طائر التدرج الصحراوي فوق رأسهِ لا يعرف كيف يثبتها وعيونه تطوف في كل اتجاه علَ أحداً ما يرى البطل المغوار...
لقد خانتهُ الأحوال الجوية ولم تشبع رغباته. أدركت وقتها أن الحرب القادمة ستكون تماماً مثل جولة الملازم الصغير حركةً استعراضيةً لن يستعيد عمي شاربه، ولا أعلم ماذا سيفعل وماذا سيخسر؟ فقد قررت أن أكون بجانبه في نهايتها حال وقوعها. وفعلاً حدثت الحرب وكنت أول من قفز إلى داره لأبلغه بها، وجدتهُ يسقي شجرة الزيتون! قلت له: الحرب.... قواتنا تتقدم... تجتاز الحدود!! لم يبتسم! بقيت ملامحه كما هي.. حدق بي ملياًً وما كان يحتاج إلى وقت ليفكر، فعلى ما يبدوا ترسخت به قناعة بشكل نهائي أن لا فائدة ترجى من هذه الحرب. رد عليه بصوت محايد وجاف مثل الصخور في الصيف: (خبر أبوك إذا بدو يهرب هالمرة، هو حر أنا لا... لن أهرب.... تجيء إسرائيل يجيء معها عزرائيل أنا مش هربان يكفي...). وتابع الرجل عمله وكأن شيئاً لا يحدث. عرفت باليقين القاطع أن النهايةَ السعيدةَ لن تصنعها قبعات ريش النعام! لا الأبيض منها ولا حتى الصحراوي. ففي اليوم السابع هرب ضباط ريش النعام! رأيتهم بأم عيني يهربون ويختبئون في عربات زراعيةَ بين النساء والأطفال. أحد الضباط أعطاني بندقيته -كلاشنكوف- كانت جميلةً ورائعةً. أول مرة رأيتها في الأعراس. رفضت البندقية ربما لأنها ليست لي، وربما كوني لا أعرف استخدامها، فسألت الضابط: إلى أين ستذهب؟ قال: إلى الفندق بضع أيام وتنتهي الحرب، قلت: الحرب انتهت فعلاً ولن تحتاج إلى فندق، ولن يستعيد رجالٌ شواربهم وسنصبح الأمة الحليقة. استشاط الضابط غضباً فقال: هذه الحرب تحريكية كما صممها الروس والأمريكان. الروس أعطونا صواريخ سام تغطينا عشرة كيلومتر فقط وبعد العشرة كيلو يصبح الداخل مفقود وعلى هذا لن نحرر ارض... السادات أوقف الحرب البارحة وتحول كل الضغط علينا ونحن بغباء تجاوزنا العشرة كيلو بغباء... بغباء... بغباء. فهمت.. فهمت.. فهمت. قلت له: ولما لا تحلق شاربيك!!؟ رد بحزن شديد: جمعاً إن شاء الله. سألني الضابط ربما ليغير الموضوع: وأنت ماذا ستفعل؟ أجبت دون تردد أو حتى أدنى تفكير: سأكتب قصصكم. قل: نحن لسنا جبناء بل قطيع أغنام يقودها الراعي الكذاب، وهل تعرف قصة الراعي الكذاب؟ هززت رأسي بها حكمة عظيمة قال: إني أُعلنك كاتباً عظيماً ورائداً للمدرسةِ الواقعيةِ الحديثةِ، قلت له: كف عن الخطابات ومدح الآخرين بما لا يستحقون، أنت جندي محترف تعرف كيف تختبئ، ولكن لا تعرف كيف تنتصر، لماذا لا تعود إلى الجبهةِ وتحتفظ بالعشرة كيلو؟ رد الضابط: لا عشرة ولا متر واحد. الروس خونة كشفوا سر صواريخهم لليهود وأنتَ عجوز صغير وكهين..... تركني الضابط عند أول مفترق طرق واتجه إلى قلب المدينة.. لا أنكر أن حوارنا بلّورَ بداخلي ما معناه -أن ثوب العيرة لا يرد البرد-، ولن يعيد لرجل حر شارب مرهون بنصر لا يبدوا أنه قريب المنال. وأشد ما يؤلمني أن عمي تجاوز عقدة التسعين، وتوفي معتقداً أن شنب الرجل يحتاج لمن يحميه، وإلا سيكون عرضة للإهانة وتهكم الأعداء. من يدرِي لو بقي حياً أكان يمكن أن يطلب حظراً جوياً أو حماية دوليةَ أو حتى تدخل أجنبي. أكان سيُجاب طلبه أم أنَ فيتو أمريكا يقطع عليه كل هذه السبل!!!!؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المانح هو الله –تعالى، ولعل الكاتب لم يتنبه لذلك. (نور سورية).

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع