..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

سورية الجميلة الباكية

سلوى الوفائي

٥ يوليو ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6825

سورية الجميلة الباكية
1.jpg

شـــــارك المادة

للحضارة في تاريخنا سفر و لا أضخم، إنّها نهرٌ عظيم بعض روافده منجزات أجدادنا و عطائهم في شتّى مجالات العلوم، و بعضها إسهام إنسان هذا العصر، ذلك أنّنا في مضمار الحضارة نضيف كلّ يوم لبنة جديدة، و نعتبر اسهاماتنا الكنز الإنساني الذي لا يفنى، و نتطلّع دوماً إلى إغناء التراث الإنساني و ترك بصمات يشهد عليها التاريخ لتكون عنصر التغيير في الحركة التاريخية التي لا تعرف السكون.

 

و لهذا كان علينا أن نحافظ على تراثنا الحضاري الإنساني كأمانة في أعناقنا، يحمل ملامح هويتنا الحضارية و يعكس روح الوطنية الحقّة. و لهذا كان كلّ من يحاول تقويض أركان هذه الحضارة الفذّة مجرماً لا تقلّ جريمته ضراوة عمّن يغتال الروح الإنسانية. فأيّ صفة يمكن أن نطلق على جحافل الحكومة الأسدية المستأسدة على شعبها و قد أطلقت العنان لشياطين الإنس تدّك بصواريخها و قذائفها مرابع طفولتنا و مدارسنا و بيوت عبادتنا المقدسة؟ مساجدٌ و كنائسٌ يناهز عمرها مئات السنين إن لم نقل آلافاً طالتها قذائف دمّرتها و شوّهت معالمها، و عاثت فيها فساداً باسم أمن الوطن و باسم السيادة الوطنية. إن لم يكن لبيوت الله حرمة الله بنظرهم أفلا يكون لها حرمة التاريخ و الحضارة؟ لكن كيف لمن لا أصل له أن يحافظ على الأصول و كيف لمن لا تاريخ له و لا مرجعية حضارية أن يحافظ على الحضارة؟ في سوريا الحضارة هناك مواقع سومرية، وأخرى آرامية وفينيقية ورومانية وبيزنطية، وهي في الأساس أرض الأمويين، وعليها ترك الصليبيون أكبر قلاعهم.

وحتى اليوم، لم تخسر سوريا هويتها التاريخية، فهل سيدوم ذلك أم أنّ الهجمة الشرسة ستطال الحجر كما طالت البشر؟ في حمص العدية، في بداية الثورة، حاول جنود التشبيح إثارة الفتنة الطائفية فراحوا يعتدون على الكنائس عامدين متعمدين لإيهام أهل حمص أنّ هناك حرباً طائفية، فما كان من شباب المسلمين إلا أن هبّوا لحماية الكنائس و شكّلوا دروعاً بشرية تقف في وجه من يحاول تدنيس بيوت الله، أحداث شهدها أهل حمص حقيقة ملموسة جعلت الكثير من الشباب المسيحين يتكاتفون مع إخوانهم المسلمين بل و يصلّون معهم في المساجد، وأذكر حادثة رواها صديقٌ حدثت في رمضان الماضي أثناء صلاة التراويح، حيث شاهد شاباً يصلّي بين الجموع و قد تدلّى الصليب في عنقه، راقبه بمحبة حتى أتمّ صلاته بصمت الخشوع و بكى مع الباكين أثناء دعاء القنوت. هذه هي اللحمة الوطنية الحقيقية التي عاشتها سورية و تعيشها رغم محاولات التفرقة و النيل من المقدسات. ومن المعروف أنّ انطلاق الثورة في بداياتها كان من الأماكن الدينية، لاسيّما الجوامع، و قد تمّ رصد اعتداءات سافرة وممنهجة من قبل العصبة الحاكمة في سورية على أماكن العبادة ودورها وتجلى هذا واضحاً في بعض الجوامع المدرجة على لائحة الإرث الحضاري السوري. ونذكر على وجه الخصوص ما تعرض له كلّ من الجامع العمري في درعا والجامع العمري في بصرى، وهما يعودان إلى العصور الإسلامية الأولى ويُعتبران من روائع الآثار الإسلامية القديمة والمحتفظة بتفاصيلها المعمارية وهيكلها الأصلي، وقد شيدا إبّان الفتح الإسلامي لسورية في أيام الخليفة عمر بن الخطاب، ومن هنا أتت التسمية. كما تم أيضاً قصف الجامع العمري في مدينة الحراك التابعة لمحافظة درعا. وفي حمص قُصفت المئذنة التاريخية لجامع كعب الأحبار ، في حي باب دريب، وقُصِف أيضاً الجامع التاريخي ورمز مدينة حمص جامع خالد بن الوليد (رضي الله عنه)، كما قصفت مئذنة مسجد ذي الكلاع الأثري في بستان الديوان، و قصفت مئذنة مسجد أبي ذر الغفاري العريق، و مسجد باب تدمر و مساجد جورة الشياح التاريخية، و قصف المسجد الأثري في قلعة تلبيسة، و قصف مسجد مصطفى باشا الحسيني الأثري العريق و نال الدمار جزءاً كبيراً منه، و طالت قذائف الإجرام المسجد الكبير العريق في القصير، كما قُصف الجامع الكبير في قلعة الحصن "السرايا"، بالإضافة لقصف مباشر على جامع التوحيد التاريخي في قلعة المضيق، والذي يعود تاريخ بنائه إلى بدايات الحقبة العثمانية، وهو النموذج الأمثل للجوامع التاريخية في الوسط الريفي. وفي مدينة أريحا في إدلب، قصفت المئذنة التاريخية لجامع التكية، وقُصفت مئذنة الجامع القديم في سرمين و قد نالت الكنائس نصيبها من الدمار أيضاً. حيث اخترقت قذيفة جدار دير سيدة صيدنايا، ويعود تاريخ بناء هذا الدير إلى فترة جوستينيان، (الفترة البيزنطية الأولى) أي حوالي العام 547 بعد الميلاد، إضافة لقصف وتخريب كاتدرائية السيدة العذراء "كنيسة أم الزنار" للروم الأرثودوكس الأثرية العريقة في قلب مدينة حمص و التي تعتبر مزاراً هاماً للسياح, و شاهداً حضارياً على العراقة الأثرية، و يعود تاريخ بنائها للفترة البيزنطية الأولى. و تعرضت كلّ من كنيسة مارجرجس و كنيسة مارليان و كنيسة الروم الكاثوليك، و كنيسة الأربعين، و الكنيسة الإنجيلية للقصف و الدمار أيضاً.

تعددت مظاهر الاعتداء على دور العبادة، حيث كانت تتمّ إمّا عن طريق القصف المباشر لها، أو عن طريق التشويه المتعمد لبعض عناصرها المعمارية، كما في حالة الجامع العمري بدرعا، حيث توغلت قوات الأمن والجيش إلى داخل حرمه، وقامت بالحفر والتخريب و وضع الأسلحة لإثبات مزاعمهم بوجود عصابات مسلحة تتخذ من دور العبادة مخابئ لها. و حوّلوا بعض دور العبادة إلى ثكنات عسكرية، و داسوا المصاحف الشريفة و كتب الإنجيل المقدّس. ولا بد من التنويه إلى قيام بعض المسلحين باقتحام دير مار موسى الحبشي، بحثاً عن الأب المسؤول عن الدير و قاموا بنهبه ومن المعلوم أن دير مار موسى الحبشي، يعود تاريخ بنائه وبحسب وثيقة سريانية إلى العام 575 ميلادي، حيث تذكر الوثيقة بأنّ الدير تمّ إنشاءه على أنقاض حصن روماني، وتمّ تحويله لاحقاً لكنيسة، أمّا آثار الدير الحالية فيعود تاريخها إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين.

وقد نشرت صحيفة الأخبار العدد ١٧٣٣ الجمعة ١٥ حزيران ٢٠١٢ مقالاً بعنوان " تراث سوريا وتاريخها في خطر" قالت فيه أنّ الأخبار القادمة من سوريا سيئة وحزينة على كلّ الأصعدة. ففي «أرض الحضارات»، ثمة تاريخ عريق لم يسلم من الحرب الدائرة رحاها منذ نحو عام ونصف عام، وأكبر المواقع الأثرية المدرجة من قبل منظمة اليونسكو على لائحة التراث العالمي باتت عرضة للرصاص والنهب. و ذكرت كاتبة المقال أنّ البعثات الدولية المتخصصة في تحديد الضرر اللاحق بالمواقع الأثرية (كمنظمة الدروع الزرقاء أو بعثات منظمة اليونسكو) لم تتمكن من الدخول إلى سوريا لإعطاء تقرير مفصل عن وضع الآثار على الأرض. وما يصل من هناك يقتصر على معلومات تنشرها مواقع التواصل الاجتماعي، مثل الفيسبوك والوكالة السورية للأنباء ونداءات المنظمات الدولية. وهي المعلومات نفسها التي عملت الباحثة إيرما كانليف من جامعة دورهام البريطانية على تجميعها، لتنشرها في وقت لاحق منظمة «Global Heritage Fund» كأول تقرير مفصل عن وضع الآثار في سوريا. ويحمل التقرير عنوان «ضرر في الروح: تراث سوريا الثقافي في الصراع»، ويوثق في 50 صفحة الأضرار اللاحقة بالمواقع الأثرية بحسب مسبباتها، فهناك مناطق أثرية تعرضت للقصف، وأخرى استعملت كمواقع عسكرية وثالثة تعرضت لآلاف عمليات النهب المكثفة. و ذكر تقرير إرما كانليف دير صيدنايا البطريركي، الذي طال القصف الجزء الأقدم منه الذي يعود الى عام 574، وهو الذي يعتبر من أقدم الأديرة المسيحية المأهولة في العالم، كما تضرر الجامع الأموي في درعا، وهو من أقدم المباني الإسلامية في سوريا، إذ جرى بناؤه في الأعوام الأولى للفتح الإسلامي بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب. وكانت المديرية العامة للآثار في سوريا قد أعلنت أن مباني أثرية في دمشق وحلب و حمص وبصرى وتدمر وقلعة صلاح الدين كانت هدفاً لأعمال إرهابية. كما قامت مجموعة ناشطين بإنشاء صفحة على الفيسبوك تثير مسألة حماية الآثار والتراث في سوريا ،هدفها جمع المعطيات عن واقع الآثار، معتمدين على مصادر رسمية وغير رسمية. تحت عنوان «الآثار السورية في خطر»، حيث يحمّلون المعلومات والصور والفيديوات التي توثّق الضرر الحاصل في المواقع الأثرية. وتهدف هذه الصفحة، بحسب الفريق، إلى نشر الوعي حول المسألة للحفاظ على تراث سوريا. كذلك تحاول منظمات دولية إطلاق النداءات المطالبة بالمحافظة على المواقع الأثرية والتاريخية وعدم تحويلها إلى مناطق صراع. و أعربت اليونسكو عن قلقها على التراث الحضاري في سورية التي تضمّ أكبر المواقع الأثرية المدرجة على لائحة التراث الإنساني العالمي لليونسكو. كما نبّه الانتربول الدولي عن عمليات تهريب لوحات فسيفساء من سورية في 24 أيار الماضي، و نشرت صحيفة اللوفيغارو الفرنسية تقريراً بعنوان الآثار السورية في خطر في 15 حزيران الماضي، كما ناشد الصحفي الدقباسي المجتمع الدولي و المنظمات الإقليمية لاتخاذ إجراءات عاجلة لوقف المجازر و حماية كنوز سورية الاثرية من القصف و التخريب و التهريب في مقالة نشرها في 10 حزيران الماضي.

كما أقام مثقفون لأجل سورية ندوة وجهوا فيها نداءات استغاثة لحماية التراث الحضاري الإنساني في سورية. وهانحن اليوم ، باسم سوريانا، وباسم كلّ الغيورين على الوطن، نوجه بدورنا نداءات استغاثة لحماية التراث الحضاري في سورية و وقف عمليات التخريب الممنهج و الدمار المتعمد، و إنّ جريمة الاعتداء على حرمات التاريخ و العقيدة جريمة ضدّ الإنسانية جمعاء و يقع على عاتق المجتمع الدولي وقفها و محاسبة المتورطين فيها و محاكمتهم. سورية التي زهت بحضارتها، تبكي اليوم ماضيها المضاع، و تناشد العالم للحفاظ على منبع النور و الجمال و السلام و الإبداع، سوريانا الجميلة الباكية.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع