مدونة صبا قلبي
تصدير المادة
المشاهدات : 7840
شـــــارك المادة
إنّ الدّم لا يُنسى أبداً ولن يُنسى.. في شمّاعة ذاكرة الأيام لوحٌ محفوظ كتب عليه بالدم الأحمر القاتم "مجزرة حماة الكبرى" التي اقترفتها يد الفجور والتعالي، ودفنت سرّها مع من دفنت من الشهداء الأبرياء الأطفال والنساء والشيوخ والرجال.. الأموات منهم والأحياء في مقابر جماعية مجهولة المكان حتى هذه اللحظة. ما السرّ من وراء ذلك، ولماذا انفردت حماة وحدها دون غيرها من المدن السورية بالمذبحة، ولماذا استهدف البشر والحجر والشجر في تلك المجزرة، وكيف جرى كلّ ذلك؟؟ سنرى. حماة ومنذ الخمسينيات تقطنها غالبية سنّية ساحقة وبعض النّصارى المحافظين والمتطبّعين بأطباع أهل السنّة في المدينة، لذا كانت المدينة سمتها العامّة التدين والطّابع الإسلامي واضح فيها وجليّ، ويعود سبب ذلك إلى وجود علماء أفاضل في فترة الستينيات نذروا أعمارهم لتعليم أهالي المدينة تعاليم دينهم ونشر الخلق الإسلامي بين جنبات المدينة. هذا كله أدى إلى وجود أرض خصبة لولادة معارضة لكل ما هو بعيد عن الدين الإسلامي وتعاليمه ومعتقداته. طبعاً جماعة الأخوان المسلمون هي كأي حزب سياسي له آراء وأفكار ونظام عمل وخطة سياسية واضحة مثل باقي الأحزاب، لكنّ الذي حصل أنّه انشقّ عن هذه الجماعة الشيخ مروان حديد - رحمه الله - في عام 1964م وقرر الاعتصام بمسجد السلطان بحماة ليحثّ أهالي حماه ومن ورائها سوريّا على إسقاط حكومة البعثيين، وكان أمله في ذلك أنّه كان من عادة الاحتلال الفرنسي وقت الاعتصامات أنهم لا يهجمون على المساجد فهي مقدّسة، أما حكومة البعث جاءت بالدبابات ودمّرت المسجد وفرّ المعتصمون وحكم عليهم بالإعدام ومن بينهم الشيخ مروان. وأدّت الممارسات السيّئة لحافظ الأسد الواضحة إلى دفع الشباب المسلم إلى حمل السلاح ضده لكي يقوم بضرب الحركة الإسلاميّة في بلاد الشام، مما أدّى إلى ولادة الطليعة المقاتلة التي أنشأها الشيخ مروان حديد في الفترة مابين 1964م و 1974م في المدن السورية المختلفة وبتتابعات مختلفة أيضاً. وفي عام 1973م جرى تعديل للدستور في الفقرتين المتعلقتين بدين الدولة وهدف التعليم، حيث كان الدستور ينص على أنّ دين رئيس الجمهوريّة الإسلام ودين الدّولة هو الإسلام، وهدف التعليم هو إنشاء جيل يؤمن بدينه ويعمل من أجل أمّته ووطنه، وبعد التعديل أصبح البند ينص على أن رئيس الجمهورية عربي سوري عمره أكثر من أربعين سنة، والتعليم يهدف إلى أنشاء جيل علمي التفكير. وكانت هذه نقطة انطلاقة الاحتجاجات في سورية وبالأخص في مدينة حماة بسبب جرأة أهلها ووجود أفراد كثر من الطليعة المقاتلة فيها -هذا لأن الطليعة كانت مقسمة إلى جماعات في حماة وحمص ودمشق وحلب وجسر الشغور وغيرها- حيث أصيبت الحكومة بصدمة عنيفة من احتجاج طلاب المرحلة الإعدادية الذين بدؤوا يهتفون ضدّها بهتافات مناهضة للبعث وللحكومة، وهنا كشّر الأسد الأب عن أنيابه وقال: "لأقطعنّ اليد التي لم يستطع عبد النّاصر أن يقطعها". وهنا فعلاً بدأت السلطة مسلسل الدّم، وبدأت تلقي القبض على بعض الشباب الحمويين في حماة، وتلقوا على يدها أشدّ أنواع التعذيب وسُلّموا إلى أهلهم حثثاً هامدة. وفي هذه الفترة بدأت الطليعة المقاتلة تعلن عن تبنّيها لبعض العمليات ضد السلطة، وأطلقت أول رصاصة عندما اغتالت قائد الأمن القومي في حماة عام 1976م، ثم جاءت حادثة المدفعيّة الشهيرة عام 1979م والتي سقط فيها ما يقارب 255 من العلويين، وبالمناسبة أصدرت جماعة الإخوان المسلمين بياناً تعلن فيه عن نفي علاقتها بالحادثة وتنفي حمل السلاح ضد الدولة من الأساس، إلا أن السلطة لم تفرق بين الإخوان والطليعة المقاتلة بسبب حقدها على الحركة الإسلاميّة جمعاء، فأرادت أن تعمي عينيها عن حقيقة الحدث، وأعلنت الحرب على الإخوان المسلمين قاطبةً، ثم تطور الحال إلى الحرب على الإسلام بطائفيّة بغيضة، فلم يبق مسجد في حماة إلا ودُمّر بالكامل خلال المجزرة الكبرى في شباط 82م!! وفي أوائل الثّمانينات ارتفعت وتيرة الاغتيالات من قبل الطليعة، وأعلنتها حرب على النظام بسبب قتله لمئات من الإخوان، ووصل معدّل الاغتيالات إلى عشرة أشخاص يومياً من أزلام النّظام وأعوانه من المخبرين عام 1980م، وبدأت الطليعة المقاتلة تسيطر على الوضع وتعطي أوامرها للمدارس بإقامة الصلاة جماعة في المدارس وتوزيع مجلات خاصة بالطليعة علناً، وبدأت تطلب من الحزبيين إعلان توبتهم والابتعاد عن الحزب والسلطة، وقد نجحت إلى حدّ كبير في حماة وحلب، وكان السرّ وراء ذلك تلاحم الجماهير مع الطليعة وتستّرهم على أعضائها، وكان معظم المواطنون وحتّى المسيحيّون منهم يسرّون عندما يقدّموا خدمة لأفراد الطليعة أو عندما يؤونهم في بيوتهم عند الحاجة وتقديم لهم العون، هذا لأن معظم الشعب حاقد على السلطة التي أذلته ومرغت أنفه بأوحال الهوان. هنا بدأ الخطر يشتدّ على السلطة وبدت الطليعة أكثر تنظيماً مما اضطر حافظ الأسد أن يلجأ للتّفاوض مع الإخوان!! فقال في عيد الثامن من آذار عام 1982م: "أتمنى أن أعرف ماذا يريد الإخوان المسلمون، لو يأتوا إلينا ويقولون ماذا يريدون، أنا والله مسلم وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأنا مواظب على الصلاة منذ ثلاثين عاماً، وأنا أعرف أنه يوجد أناس عاقلون في الإخوان المسلمين، يأتوا إلي ويقولون ماذا يريدون، هل يجوز قتل المسلم؟ هل يجوز قتل المواطن البريء؟ من هو المستفيد من حوادث القتل هذه؟ إنهم أعداء هذا البلد وأولهم الإمبريالية والصهيونية وإسرائيل". ولم يذكر الأسد في خطابه الطليعة هذا لأنه لا يفرق بينها وبين الإخوان. وبدأ التفاوض مع القيادات في الأردن، ولم يرض عدنان عقلة قائد الطليعة في حلب عن التفاوض واعتبره قفزاً فوق الغاية العظمى وهي إسقاط النظام والاقتصار في التفاوض على طلب المعتقلين وإعادة الموظفين إلى أعمالهم وغيرها من المطالب التي لم يجد فيها ما هو مقنع لإيقاف الاغتيالات، بل زادت الاغتيالات ووصلت إلى الرئيس حفظ أسد نفسه! في حزيران 1980م، عندما حاول أحد ضباط الصف في الحرس الجمهوري أن يقذف رمانتين أو ثلاث على موكب الرئيس إلا أن مرافقه انكب عليه وحماه من الثانية بعدما انفجرت الأولى ورمى الثالثة بعيداً، إلا أنه –وما هو واضح- لم يمت بل أصيب بإحدى ساقيه. وقتل أخوه رفعت انتقاماً لهذه الحادثة 1000 سجين من الإخوان في سجن تدمر خلال أقل من ساعة، أغلبهم من خريجي الجامعات والضباط والمهندسين، ودفنوهم بمقبرة جماعية، والبعض منهم كان مازال جريحاً ولم يمت بعد!! وهنا أحست السلطة أنها خُدعت وكأنها تظنّ أن الإخوان لهم سلطة على الطليعة. عندها جاء الخبراء الروس وقدّموا النصيحة الذّهبيّة للأسد التي وافقت هواه، وجاء الغطاء المناسب للوعاء المناسب حيث قالوا له: "مدينة حماة كلّها مجرمون؛ لأنك لا تجد مواطناً واحداً يشير بيده إلى المجرم ليدلّ رجال الجيش عليه، لذا نقترح إذا اغتال المجرمون أحد رجالكم في حيّ من المدينة، فليسرع الجيش إلى جمع خمسين رجلاً على الأقل في المكان الذي وقع فيه الاغتيال ويقتلونهم رشّاً بالأسلحة النّارية أمام الآخرين". ولم يوفّر آل الأسد نصيحة كتلك، وأرسل رفعت الأسد شقيق حافظ 12000 جندياً من سرايا الدفاع كدفعة أولى، وصرّح أنه سيمحو حماة من على الخريطة، وسيبني بدلاً منها حدائق وحانات للخمر ونوادي للرقص، وسيجعل المؤرخين يقولون: كانت هنا مدينة تسمًى حماة.. بدأت الحشود تتوالى على المدينة، تتقدمها 280 دبابة و 108 مدفع و 48 مدفع هاون و248 مدفع صواريخ والكثير من الحوّامات والعديد من راجمات الصواريخ وأكثر من 25000 ألف جندي!! كلّ ذلك للقضاء على شمعة سورية وإطفاء النور المنبعث منها. وفي الثاني من شباط من عام 1982م رنّت ساعة الصفر ليلاً معلنة موت المدينة، لذا وكما فعل السّابقون ممن شهدوا تلك المذبحة حين وقفوا متفرجين، أو ربّما لم قالوا: نترك حماة تحتضر وتصارع الموت وتنازعه ونقف نتفرج على مشهد السقوط، ونستمع لآهات الأطفال ولصرخات النساء ولحشرجة المحشرجين من أهلها الكرام، ونودعها علّنا ندخل إليها في التدوينة القادمة ونزورها وهي خاوية على عروشها.
دندنة شامية
أمين الأديب
هشام الشامي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة