المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تصدير المادة
المشاهدات : 2577
شـــــارك المادة
ثمَّة، اليومَ، مبادرات وعدّة أفكار مطروحة، لتكون بديلًا عن حلّ سياسي شامل في سورية؛ منها مبادرة المُوفد الأُممي، ستيفان دي ميستورا، لتجميد الصراع بدءًا من حلب.
وثمَّة أفكار مصرية متعلقة بوساطة لإنهاء الأزمة السورية، يجري تداولها إعلاميًّا.
وثمَّة كذلك مقترح روسي لإجراء حوار بين النظام السوري والمعارضة. وقد جاء طرح معظم هذه الأفكار والمبادرات، بعد تنامي دور الجماعات الجهادية في ساحات الصراع السوري، وتزايُد احتمالات تأثيرها في مصالح القوى الإقليمية والدولية، وتفاقم قضايا اللاجئين السوريين.
فبعد انسداد آفاق الحلّ السياسي مع إخفاق مؤتمر جنيف 2 الذي عُقد في يناير/كانون ثاني 2014، في تحقيق أيّ تقدم في مسيرة الحل، ووجود حالة استعصاء عسكري على الأرض، بدأ البحث عن مخارج موقَّتة والقيام بتحركاتٍ، لأسباب خاصة بالدول التي تبادر إليها، يحلّ محل العمل الجاد للتوصل إلى حلول. ولذلك، تتسم هذه المبادرات جميعها، على كثرتها وتنوع أهداف رُعاتها، بعدم الوضوح وجزئية الطرح، ويغيب عنها الجوهر الأساسي للصراع في سورية.
الدعوة الروسية: بدأت الدبلوماسية الروسية، بعد أن زار رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية السابق، معاذ الخطيب موسكو، تحركًا واسعًا لترتيب عقْد اجتماع بين ممثلين عن النظام والمعارضة في موسكو، في أواخر يناير/كانون ثاني 2015. وقام معاون وزير الخارجية الروسية، ميخائيل بوغدانوف، بزيارات إلى اسطنبول وبيروت ودمشق، التقى خلالها أطرافاً سورية؛ لبحث عقْد هذا اللقاء. لكنّ موسكو لا تملك، في جعبتها، أيَّ خطة عملٍ، ويبدو أنّ هدفها هو حصول لقاءٍ في حدِّ ذاته، من دون أن تكون هناك أيُّ ورقة عمل مطروحة على الطاولة، يمكن أن تناقشها الأطراف التي تحضر هذا اللقاء.
من أجل ذلك، يمكن القول إنّ هذه المبادرة تُشكّل مقاربةً جزئيةً بالضرورة؛ لأنها تقتصر على جمْع أطراف الصراع، من دون أجندة عمل واضحة، أو أهداف محدّدة، فضلًا عن تجاهلها نقاطاً رئيسة في اتفاق جنيف؛ مثل تأليف هيئة حُكم انتقالي كاملة الصلاحيات، على الرّغم من أنها تتحدث عن تسوية سياسية، انطلاقًا من الأُسس والمبادئ الواردة في بيان جنيف الصادر في 30 يونيو/حزيران 2012. فالحديث في هذا السِّياق ليس عن تفاوض بين خصومٍ على أُسس واضحة، بل عن حوار غير ملزمٍ.
علاوةً على ذلك، كانت روسيا واضحةً في نصّ دعوتها؛ إذ وجهتها إلى "معارضين" بصفتهم الفردية، لا الحزبية أو التمثيلية، وطلبت منهم الحضور من دون شروط، أو مواقف، أو أفكار مسبقة، بشأن الهيئة الانتقالية؛ لأنّ الحوار "مفتوح"، بحسب الدعوة. فروسيا، إذن، لا تتعامل مع الثورة السورية والمعارضة وقواها ككيانات، بل كشخصيات. وهذا الموقف، في جوهره، هو موقف النظام السوري نفسه الذي ما فتئ يقول إنه يوجد معارضون في سورية، ولا يوجد شيء اسمه معارضة.
وتؤكِّد الدعوة الروسية أنها تكافح الإرهاب الدولي، بجميع أشكاله ومظاهره، وسعيها إلى توحيد الجهد في مواجهة الإرهابيين والمتطرفين في سورية ومنطقة الشرق الأوسط، من دون أن تغفل، في نص دعوتها، الإشارة إلى أنّ للشعب السوري وحده الحقّ في تحديد مستقبل سورية، وأنه يجب تمكين جميع مجموعات المجتمع وشرائحه في سورية من المشاركة في عملية حوار وطني شامل وذات معنى، وأنّ الحوار يجب أن يكون من دون تدخُّل خارجي في الشؤون السيادية لسورية، وهي اللازمة نفسها التي يكررها النظام السوري عند الحديث عن متطلبات الحلّ السياسي.
أهداف موسكو ودوافعها: تهدف موسكو من طرح نفسها وسيطًا ومكانًا لبدء حوار بين المعارضة والنظام إلى تعزيز مواقفها السياسية أكثر من العمل على إيجاد حلّ واقعي للوضع السوري المأزوم. فهي تحاول كسْر العزلة التي فُرضت عليها، بسبب أزمة أوكرانيا وضمِّها شبهَ جزيرة القرم، وعدم دعوتها إلى المشاركة في التحالف الدولي الذي أنشأته واشنطن لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية؛ وذلك عبْر محاولة إيجاد أرضية مشتركة للتعاون مع الغرب، ومن ثمَّة، تكون هذه الأرضية مقدمةً لإعادة إصلاح العلاقات المتدهورة. وبما أنها غير قادرة على تقديم تنازلات في أوكرانيا، لأسباب جيوسياسية واقتصادية وقومية، فقد وجدت أنّ إعادة تنشيط القضية السورية يمكن أن يوجد مساحةً مشتركةً للعمل مع الغرب، من دون أن يعنيَ ذلك التنازل عن سورية في مقابل التمسك بأوكرانيا.
وتهدف المبادرة الروسية، من جهة أخرى، إلى إيجاد مقاربة سياسية جديدة للوضع في سورية، من شأنها أن تؤدِّيَ إلى تعزيز صورة النظام السوري وواقعه سياسيًّا وعسكريًّا. فالأسماء المدعوة إلى حضور اجتماع موسكو تُظهر أنّ روسيا تريد ترتيب "معارضة" سورية، تقبل بسلطة بشار الأسد، وأنها لا تريد التوصل إلى حلّ سياسي. وبدلًا من أن تعمل على ترتيب وفد جديد للسلطة السورية مختلف عن الذي شارك في مؤتمر جنيف 2 وساهم في إخفاقه، قررت إيجاد "معارضة" بحسب منظور السلطة السورية، تقبل باستمرار حكم الأسد، وتشكّل معه "حكومة وحدة وطنية"، ما يعني، في المآل، تجاوز إعلان جنيف الذي عُقد على أساسه مؤتمر جنيف 2 في يناير/كانون ثاني 2014.
موقف المعارضة: كان النظام السوري الطرف الوحيد الذي أعلن صراحةً قبوله المشاركة في لقاء موسكو، في بيان رسمي صدر عن وزارة خارجيته. أمّا المعارضة فأجمعت، بأغلبيّة أطيافها، على رفض حضور المؤتمر المزمع عقده. وفي هذا السياق، رفض الائتلاف الوطني المعارض والشخصيات المدعوة ضمنه (منها بدر جاموس، ونصر الحريري) الدعوة الروسية؛ لأنّ الأفكار المطروحة لا تتطرق إلى "تشكيل جسم انتقالي ذي صلاحيات تنفيذية كاملة"، بحسب نص بيان جنيف الأول.
أمّا الرئيس السابق للائتلاف الوطني معاذ الخطيب الذي راهنت عليه موسكو لكسر رفض المعارضة "الحوار" مع النظام، فقد أصدر بيانًا باسم "مجموعة سوريا الوطن"، رفض فيه حضور المؤتمر لعدم جدية روسيا، وعدم إلزامها النظام وقف القصف والقتل، وإيجاد أرضية عملية سياسية تؤدِّي إلى وضع انتقالي لإنقاذ سورية. "مشاركة المعارضة السورية في لقاء موسكو خارج أيّ إطار سياسي أو قانوني، ومن دون أيّ شرط، تعني، صراحةً، دفْن إعلان جنيف"
وحتى قوى المعارضة الداخلية التقليدية المقرَّبة من موسكو، تحفظت على الدعوة الروسية، فقد طالب المنسق العامّ لهيئة التنسيق، حسن عبد العظيم، موسكو بالضغط على السلطة لكي "تبادر إلى خلق مناخ ملائم للحوار يسمح للمعارضة بأن تثق هذه المرة بجديتها، ويكون ذلك بالشروع بتنفيذ البنود الستة لخطة (المبعوث الدولي - العربي السابق)، كوفي أنان، بادرة حسن نية، خصوصًا لجهة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين".
ومازال تيار بناء الدولة على موقفه الرافض حضور مؤتمر موسكو، لأنه ليس له "عنوان صريح، وجدول تفاوضي واضح". ومع ذلك، فإنّ بنية قوى المعارضة التقليدية وتركيبتها وتاريخها ووجودها داخل سورية في مناطق سيطرة النظام، من الأسباب التي تجعل موقفها عرضةً للتغيير والتبدل، بحسب ضغوط تمارس عليها، خصوصاً بعد أن هددت وزارة الخارجية الروسية من يتغيب بأنه لن يكون له دور في مستقبل سورية. المخاطر على القضية السورية: تحمل الدعوة الروسية خطرين أساسيين؛ أحدهما أنها تُشكّل مقدمةً للتحلل من التزامات إعلان جنيف، والآخر أنها ستكون بالضرورة، من خلال صيغة الدعوة وآليتها والشخصيات المدعوة، بوابةً لإعادة تأهيل النظام السوري، إلى جانب تمييع الطرف المعارض للنظام. فموسكو تسعى إلى نسْف بيان جنيف، والجهد الدولي السابق وقراراته، وتأسيس مرحلة جديدة تتشكل خلالها معارضة تسهِّل "حلًّا" من منظور النظام السوري. لذلك، فإنّ مشاركة المعارضة السورية في لقاء موسكو خارج أيّ إطار سياسي أو قانوني، ومن دون أيّ شرط، تعني، صراحةً، دفْن إعلان جنيف، وجميع قرارات مجلس الأمن التي تنصّ على مفاوضات واضحة، ذات هدف محدّد متمثّل بالانتقال نحو نظام سياسي ديمقراطي، وذات آلية تنفيذية متمثّلة بهيئة حكم انتقالي كاملة.
وتجد موسكو في تغير الأجندات الدولية، بما فيها مجموعة أصدقاء سورية، وتركيزها في مكافحة الإرهاب والتطرف، بوصفها أولويةً راهنةً وملحةً، فرصةً يمكن استثمارها لفرض رؤًى وتصورات جزئية، من خلال حلّ الأزمة بكيفية توائم طروحاتها ومصالحها، وبما يسمح لها بنسف التوافقات السابقة.
وعلى الرغم من أنّ الدعوة الروسية تستخدم تعابير مغريةً؛ من قبيل "الحوار المفتوح" و"الحوار الوطني الشامل والمباشر"، و"مشاركة جميع السوريين"، و"الحوار من دون تدخل خارجي في الشؤون السيادية لسورية"، فإنّ هدفها الرئيس إجراء حوارات شكلية، تُجنِّب النظام السوري الضغوط الدولية لدفع الأثمان المستحقة، وتجنِّبه الخروج بحلّ سياسي شامل، وتساهم في مرحلة لاحقة في إعادة تأهيله، عبر جلب شخصيات جديدة وإلباسها ثوب المعارضة.
لكنّ المبادرة الروسية محكومة بالإخفاق؛ لعدّة أسباب، منها:
•لا تلبي أيّ مطلب من مطالب الشعب السوري، فكأنّ الثورة لم تقع، والتضحيات لم تُقدَّم.
•انفرادها بالدعوة إلى لقاء موسكو ورعايته، وهذا سيؤثر في ثقة الدول الإقليمية والمعارضة السورية عمومًا بمبادرتها، بالنظر إلى أنها ليست وسيطًا حياديًّا، بل هي طرفٌ داعمٌ للنظام السوري سياسيًّا وعسكريًّا. "العمل على إخفاق المسعى الروسي لا يكون إلا بالتمسك باتفاق جنيف إطارًا للحل السياسي"
•ما تسعى إليه روسيا هو إنجاز تسوية بين النظام السوري وقوًى قريبة منه، أو من صناعته، وهي قوًى هشة لا سلطة لها على الأرض، ولن تزداد فُرص نجاحها حتى لو شاركت شخصيات محسوبة على المعارضة.
•ترتكز المبادرة الروسية على بند "مكافحة الإرهاب"، ولا تتناول النقاط الجوهرية (هيئة الحكم الانتقالي، دور الأجهزة العسكرية والأمنية، مستقبل رأس النظام)، ما يعني استمرار عوامل النزاع على الأرض.
•غياب الموقف الواضح للولايات المتحدة الأميركية، ودعوة إيران بمفردها، من دون دعوة دول إقليمية وعربية فاعلة في الملف السوري. خاتمة: تبدو روسيا غير واثقة بنجاح مبادراتها، من دون أن يعنيَ ذلك أنها ستتراجع عن مسعى استغلال الأوضاع وتغيير أولويات الغرب لإنضاج حلّ يصب في مصلحتها، على أنّ العمل على إخفاق المسعى الروسي لا يكون إلا بالتمسك باتفاق جنيف إطارًا للحل السياسي، ولا سيما أنه اعتُمد، في نص قرار مجلس الأمن رقم 2118، مرجعيةً للحل الشامل. لذا، فإنّ القبول بأيّ مرجعية أخرى لا تتضمنه يعني التنازل عنه.
من جهة أخرى، لا يمكن لروسيا أن تجد ذريعةً في إشكالية تمثيل قوى الثورة والمعارضة السورية، وعدم وجود جسم تمثيلي يوازن النظام، ويكون طرفًا مقابلًا وشريكًا مؤهلًا للتفاوض على مستقبل سورية. فقد اعترفت دول كثيرة بالائتلاف الوطني ممثلًا للمعارضة وللشعب السوري، وصدر قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 262/ 67، في مايو/أيار 2013، تضمَّن في الفقرة 26 منه ترحيبًا بـ "إنشاء الائتلاف، باعتباره يضم المحاورين الذين يمثلون فعليًّا تلك القوى اللازمة لعملية الانتقال السياسي".
ومع ذلك، لا بد، لقطع طريق مثل هذه التحركات، من حلّ إشكالية عدم اندماج كلّ قوى المعارضة الأخرى في "الائتلاف". وإنّ الحدّ الأدنى لذلك ينبغي ألَّا يكون أقلّ من تنسيق الجهد السياسي بينها. ومن ثمَّة، تنبع الحاجة إلى تجاوز هذه الإشكالية في أقرب فرصة ممكنة، خصوصًا مع تعدُّد المبادرات والأفكار التي تسعى إلى تأهيل النظام والالتفاف على التضحيات التي قدمها الشعب السوري، في سبيل تغيير ديمقراطي، يُحقِّق له تطلعاته في الحرية والحياة الكريمة.
الجزيرة نت
ساسة بوست
المرصد الاستراتيجي
أرنستو تشي غيفارا
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة