..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


ابحاث ودراسات

الثورة السورية بين تداعي الأمم وغياب مشروع الأمة

حسن أحمد الدقي

١٣ إبريل ٢٠١٦ م

المرفقـــات

pdf

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4839

الثورة السورية بين تداعي الأمم وغياب مشروع الأمة
السورية بين تداعي 0000.jpg

شـــــارك المادة

 مفردات الورقة:
أولا: المقدمة
ثانيا: خصائص الثورة السورية
ثالثا: إجرام النظام الدولي والإقليمي في سوريا
رابعا: ماذا يفعل النظام العربي في سوريا؟
خامسا: نوازل الساحات الثورية بلا إجابة
سادسا: الرؤية الاستراتيجية لإدارة الساحات الثورية

أولا: المقدمة

إن الحمد لله تعالى والصلاة والسلام على رسول الهدى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، وبعد:

فإنه مهما اختلف المحللون والدارسون لطبيعة الثورة السورية ومحصلة أدائها بعد خمس سنين من انطلاقتها المباركة فلن يختلفوا على تحديد طبيعة الصراع العقائدي الذي يحكم علاقة الشعب السوري بأعدائه الوالغين في دمائه المتشفِّين بقتل نسائه وأطفاله وشيوخه، وهو أمر يتكرر في علاقة الأمة المسلمة بأعدائها من شرق وغرب ويكفي أن نقف على الهمجية المشتركة ونمطية القتل التي يمارسها كل من اليهود في فلسطين والأمريكان والإيرانيون في العراق وأفغانستان والروس والإيرانيون في سوريا لكي نتذكر قوله عز وجل: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد)البروج:8

ولعل من أهم نتائج ودروس الأداء الجمعي في شعوب الأمة والجماعات والتيارات فيها خلال خمسة عشر سنة مضت وخصوصا في ظل محاولة أمريكا إعادة تجليس النظام الدولي على قاعدة القطب الأوحد ومنذ أن غزا جورج بوش أفغانستان عام 2001م ثم العراق عام 2003م وعلى ضوء الحقائق التي تكشفت بذلك الغزو، فإن تلك التجارب قد أوقفتنا على ثلاث نتائج أساسية وهي:

النتيجة الأولى: هي تلك التي تبلورت في ساحة أعداء الأمة أنهم لن يتوقفوا عن الغزو العسكري والاختراق الأمني وعن تعاونهم وتكاملهم في ضرب الأمة ونهب ثرواتها، وقد كان ذلك واضحا في تكامل الأداء الأمريكي بفرقاء النظام الدولي وكذلك بقوى النظام الإقليمي في المنطقة وخصوصا المشروع الصفوي الذي فاز بالعراق كمكافأة له في تكامله مع المشروع الأمريكي الجديد.

النتيجة الثانية: هي تلك التي تبلورت في ساحة النظام السياسي العميل الذي يحكم الأمة نيابة عن أعدائها، فقد ذهبت تلك الأنظمة في التجاوب مع الغزو العسكري كل مذهب فقد وظفت خزائن الأمة التي سرقتها وفتحت مطاراتها وأجوائها لضرب أفغانستان والعراق واحتفلت بسقوط بغداد على أيدي مغول العصر وأرسلت سفراءها ليكرسوا الواقع الجديد، ودعمت العملاء الجدد في كابل وبغداد بكل أنواع الدعم.

النتيجة الثالثة: هي تلك التي تبلورت في ساحة أداء الأمة الكلي فقد تبين أن حراك الشعوب فيها إنما هو سعي جمعي للانعتاق من معادلة الغثائية والوهن التي ضربت أطنابها في جنبات الأمة منذ أن سقطت مرجعيتها وغطاءها السياسي قبل مائة عام، وعليه فإن اختلاف التصورات والمشاريع للخروج من هذه الغثائية إنما يُعبّر عن تلك الأزمة وعمقها، و تبين بأن مخرج الأمة الطبيعي أمام ما يفرضه نظام تداعي الأمم عليها هو الحراك السياسي والجهادي مهما ادعى عملاء القمع العربي بأنهم يجابهون الإرهاب، كما تبين بأن عِظَم التضحيات في ساحات الثورة العربية والساحة السورية على وجه الخصوص تتناسب مع عظم النتيجة المتوخاة من انعتاق الأمة من معادلة الغثائية والوهن وهي مرحلة لا بد من استيفائها زمنا وجغرافيا وعلى مستوى الأمة كلها فلن يخرج السوريون من الغثائية وحدهم ويبقى الخليجيون وغيرهم من شعوب الأمة يرزحون تحت أثقالها.

وفي هذه الورقة وقوف مع المعادلات التي أثرت في الثورة السورية وعلاقة ذلك بوضع الأمة الكلي ثم محاولة رسم الاستراتيجية التي يحتاجها قادة الثورة السورية في هذه اللحظة الدقيقة والحاسمة من تاريخها.

ثانيا: خصائص الثورة السورية:

تشترك الثورة السورية مع بقية ثورات الربيع العربي في بعض الخصائص وتفترق عنها في البعض الآخر، ويمكن الوقوف على خصائص الثورة السورية في المسائل التالية:

1.  تأخذ الثورة السورية خصيصتها وميزتها الأساسية من سمات أرض الشام كونها أرض الملاحم والجهاد والرباط إلى يوم القيامة بحسب ما ورد في الصحيح عنها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ فسطاطَ المسلمِين يومَ الْمَلحمةِ بالغُوطةِ، إلى جانبِ مدينةٍ يُقالُ لها دِمشقُ، من خيرِ مدائنِ الشَّامِ).

وهذا يعني أن الثورة السورية هي نقطة التقاطع لكل ساحات الصراع مع مشاريع الأمم المتداعية على الأمة من جهة ومشروع الأمة الكلّي من جهة أخرى، وهي مؤشر النجاح والفشل الأساسي لمشروع الأمة، مما يوجب تركيزا واهتماما مضاعفا من قبل كل المعنيين بشأن الأمة وحرماتها ومقدساتها ومستقبلها.

1.   كما تعتبر الشام المؤشر الرئيس على نجاح الأمة في إدارة الصراع بسبب وقوع أخطر رموز الصراع فيها وهو بيت المقدس فهي تمثل المساحة الأكبر لأكناف بيت المقدس، وهي المهدد الحقيقي لمرتكز المشروع الصليبي المتمثل في المشروع الصهيوني ودولة الكيان المسخ، خاصة وأن المشروع الصهيوني هو محل إجماع ودعم من كل المشاريع المتداعية على الأمة والمشاريع التي تولدت في ظلها وخاصة المشروع الصفوي.

2.   وتقود معركة الشام الصراع في الأمة ليس بسبب مميزاتها الجيوسياسية فقط وإنما بسبب التزامن بين معركتها والمعارك الأخرى في الأمة وما يتولد عن هذه المعارك من نقض المظلة السياسية التي أسسها الصليبيون الجدد متمثلة في النظام السياسي العربي أو الملك الجبري بحسب ما ورد في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

3.   ومن دلائل التزامن بين المعارك في ساحات الأمة وتكاملها، وارتباط ذلك بالفشل السياسي للأنظمة العميلة ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (مَنعتِ العراقُ درهمَها وقِفّيزَها، ومَنعتِ الشامُ مُدَّيْها ودينارَها، ومَنعتْ مصرُ إردبَّها ودينارَها، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتُمْ، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتُمْ، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتمْ، شهدَ على ذلكَ لحمُ أبي هريرةَ ودمُهُ).

4.   فإن المدقق فيما حدث منذ عام 2001م وحتى يومنا هذا يجد تزامنا وتتابعا في سقوط العراق وسوريا ومصر في دائرة الفشل السياسي والاقتصادي والأمني وبنفس الترتيب الزمني الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم.

5.   ويعني ذلك أن الأمة عند حدوث هذا الأمر ستمر بحالة من التجديد الكلّي والنهضة التي تتشابه مع نهضتها الأولى على يد النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الخلفاء الراشدين في الفتح والظهور.

6.   ويتمثل التطور الخطير الذي قادته الثورة السورية في استجابتها السريعة والشاملة للصراع المسلح الذي فرضه النظام عليها، فهو تطور غير مسبوق سواء من حيث ردة الفعل المتمثلة في المواجهة المسلحة مع النظام السياسي العربي متمثلا في الحاكم النصيري، وما سوف يترتب على ذلك من صيرورة الثورة العربية عموما، وكذلك من حيث الأعداد الهائلة التي ساهمت في الأداء الثوري المسلح وما ترتب عليه من صناعة جيل مجاهد وبأعداد تخطت عشرات الألوف وبخبرة في أحدث أنواع الحروب وهي حروب المدن والقتال وسط الناس.

7. وبذلك فقد فتحت الثورة السورية والثورة الليبية الباب واسعا لأي تداع ثوري قريب في بقية الدول العربية والتي تشترك في نفس عوامل ودوافع الثورة لدى الشعوب وخصوصا في مصر.

8. وقد كشفت الثورة في الشام عن حقيقة كبرى في الصراع وطبيعة المعادلات التي تحكم الأمة وعلاقة شعوبها بمن يحكمهم، وهي أن المعركة في المقام الأول معركة الأمة مع نظام تداعي الأمم ومشاريعها المتسلطة على المنطقة فلم يقف الأمر بمواجهة الشعب السوري للنظام القمعي الذي يحكمه وإنما سارعت القوى الحقيقية إلى النزول في الميدان وبالترتيب الإقليمي أولا وهو المشروع الصفوي فلما فشل نزل البعد العالمي متمثلا في المشروع الروسي.

9. كما مثلت الثورة السورية امتدادا في مواجهة المشروع الصفوي بعد العراق، وهددت بذلك العمود الفقري للمشروع الصفوي متمثلا في سوريا وإيذانا بخروجها عن نطاق هيمنته وسيطرته، مما يمهد لسقوط ذريع ونهائي للمشروع الصفوي ليس فقط في مناطق نفوذه وإنما في عقر داره إيران.

10. كما أعطت الثورة السورية من خلال صمودها وقدرتها على الاستمرار لخمس سنوات بافتتاح زمن جديد من مصاولة الأمة لأعدائها بالرغم من تناصرهم واجتماعهم، وقدرة الجيل الجديد الذي يقود الصراع على التعامل طويل المدى مع المشاريع المتداعية على الأمة وامتصاص موجات الضغط الشديدة والمتتابعة من تلك المشاريع.

11. ونتيجة لمركزية الشام والثورة على أرضه فقد قادت هذه الثورة إلى تداخل وتشابك كبير في أحوال الأمة وفرقائها وقضاياها وكشفت عن مستوى الترابط البنيوي والجوهري الذي يربط مصير الأمة الكلي بعضه ببعض، وفتحت بذلك الباب واسعا لعولمة الأداء الإسلامي وكسر الحدود المفروضة على شعوب الأمة وقضاياها الكبرى، ولعل أحد أهم الانعكاسات لهذه الصفة في الثورة السورية انعكاسها على القضية الفلسطينية، فقد أنهت مسيرة طويلة وغامضة من الدجل الذي كان يمارسه المشروع الصفوي بادعائه تبني القضية الفلسطينية والجهاد في فلسطين، فلما تم اختباره في سوريا إذا به يكشف عن وجهه القرمطي الكالح وسفكه للدماء على أساس الهوية السنية العقائدية وليس بناء على ما يدعيه من محاربته لليهود؟

ثالثا: إجرام النظام الدولي والإقليمي في سوريا

لا يمكن الوقوف على حقيقة أداء النظام الدولي وفي ظله النظام الإقليمي في الثورة السورية من خلال استعراض أداء هذا النظام في السنين الخمس من عمر الثورة، بل نحتاج إلى رؤية المراحل التي سبقت الثورة بكثير ونمطية أداء النظام الدولي واستخدامه للنظام الإقليمي حتى نتمكن من قراءة دقيقة وتقدير لمستقبل ذلك الأداء.

وسوف أتدرج في استعراض تاريخ أداء النظام الدولي والإقليمي ومحطاته الأساسية ووصولا لوقتنا الحالي من خلال ما يلي:

1. هناك أربع مساطر تاريخية حددت علاقة النظام الدولي والإقليمي بالثورة العربية وبالثورة السورية على وجه الخصوص:

أما المسطرة التاريخية الأولى فتبدأ قبل مائة عام وبالتحديد عند سقوط بيت المقدس وعموم الشام تحت الاحتلال الصليبي عام 1917م متمثلا في بريطانيا وفرنسا، فمنذ ذلك الوقت استقرت معادلة محددة تم على ضوئها صناعة الواقع السياسي للعرب وللأمة المسلمة كلها، ففي ظل تلك المعادلة انكشف الغطاء السياسي للأمة متمثلا في الخلافة العثمانية وفي ظلها تم إقصاء الدين الإسلامي والشريعة عن واقع الأمة، وفي ظلها تم حضانة وتأسيس النظام السياسي العميل الذي حكمها ولا زال منذ مائة عام، وفي ظلها تم تقسيم الأمة إلى كانتونات وقطع عبر اتفاقية سايكس بيكو وتم استيلاد النظام الملكي، وفي ظلها تم تأسيس القطيعة العرقية والشعوبية بين أبناء الأمة، وفي ظلها تم حضانة المشروع الصهيوني وتسليمه فلسطين بالتدريج، وما يهمنا في علاقة النظام الدولي والإقليمي بالثورة السورية الحقائق الثلاث الأساسية

الحقيقة الأولى: وقوع المنطقة تحت النفوذ الصليبي الغربي الذي ورثته أمريكا في بريطانيا وفرنسا وهي منطقة نفوذ خالص لا تقبل القسمة بالنسبة لهم.

الحقيقة الثانية: الالتزام الصليبي الغربي بحماية الكيان الصهيوني، وكون هذا الكيان معني تماما بإدارة شؤون المنطقة في ظل تفوقه الاستراتيجي.

الحقيقة الثالثة: تكامل الأداء والدعم بين المشروع الصليبي المهيمن وبين الكانتونات والمحميات التي أنشأتها اتفاقية سايكس بيكو وخاصة ما سمي بدول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني وسوريا في مقدمتها.

المسطرة التاريخية الثانية: فتبدأ قبل سبعين عاما عند انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م وتأسيس الأمم المتحدة وإعلان نظام الخمسة الكبار الذين وضعوا أنفسهم فوق البشرية، وبدء نظام الحرب الباردة وكانت محطات تلك المرحلة ثلاث محطات أساسية، المحطة الأولى هي حرب فيتنام والتي سقطت أمريكا في براثنها وقام المعسكر الشرقي متمثلا في الاتحاد السوفيتي والصين بدعم الثوار الفيتناميين حتى هزموا أمريكا، وأما المحطة الثانية فهي الحرب الفرنسية الجزائرية والتي قدم فيها الجزائريون ملايين الشهداء حتى هزموا فرنسا ولكنهم لم يتمكنوا في فرض نظام سياسي ذي سيادة حيث فرضت عليهم فرنسا في اتفاقية إيفيان وقامت بترتيب مستقبلهم السياسي واستمرار الوصاية عليهم مع إعلان استقلال شكلي، ثم جاءت المحطة الثالثة وهي اصطدام الشعب الأفغاني المسلم بالاتحاد السوفيتي الملحد، حيث قدم الأفغان مليون ونصف شهيد وملايين المهجرين ولكن النتيجة تاريخية وبوزن الأرض حيث وفي مدة عقد من الزمان اضطر الجيش الأحمر أن يسحب قواته منهزما من أفغانستان ولكي تنهار دولته على إثر ذلك فأصبح أثرا بعد عين، وقد ترتب على هذه المحطة أثران مهمان أما الأثر الأول فهو دخول الأمة المسلمة إلى ساحات الصراع الدولي من أوسع الأبواب وانتشار روح الجهاد وسريانها في بلاد المسلمين، وأما الأثر الثاني فهو التحفز والتخوف الذي أظهرته أمريكا والدول الصليبية من نتائج الجهاد في أفغانستان وبدء تطبيق خطة تجفيف المنابع ومنع انتشار الروح الإسلامية في كل مكان في العالم وخاصة العالم العربي وتكليف أجهزة الاستخبارات العربية بهذه المهمة، وقد صبغت هذه الاستراتيجية ربع القرن الأخير منذ عام 1992م.

المسطرة التاريخية الثالثة: وهي التي تبدأ بعام 1990م بإعلان سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار هيمنته العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية وقد استمرت هذه المرحلة إلى عام 2010م وأما محطاتها الرئيسة فهي:

المحطة الأولى: التمثيلية التي قادتها أمريكا بإغراء صدام لاحتلال الكويت في 2 أغسطس 1990 ثم بشن حرب عالمية عليه وعبر تجنيد الدول النصرانية الحليفة وعدد كبير من الدول العربية كان على رأسها دول الخليج، وقد تبين أن تلك الحرب التمثيلية إنما كان سببها هو الرغبة الجامحة لدى أمريكا بتدشين مرحلة سد الفراغ الذي خلفه سقوط الاتحاد السوفيتي وبدء تطبيق نظام القطب الأوحد.

المحطة الثانية: تمدد المشروع الصفوي وركوبه موجة ملء الفراغ وتعاونه مع أمريكا وبالتالي فتحت له أمريكا أبواب المنطقة والتعاون معه، بالرغم مما أنتج له فائدتين كبيرتين، تمثلت الأولى في بدء تدشين سلسة مفاعلاته النووية عام 1995م ثم بتسليمه العراق في مرحلة تالية.

المحطة الثالثة: ارتفاع موجة الأداء الجهادي في الأمة لكي تشمل مواقع مختلفة كالشيشان والبوسنة وكشمير وطاجيكستان وإرتريا والفلبين ولكن كان من أهم المواقع التي ارتفعت فيها وتيرة الأداء الجهادي هي فلسطين، حيث حقق الفلسطينيون توازن رعب مع الكيان الصهيوني عبر العمليات الاستشهادية، وقد تفاعلت شعوب الأمة إيجابيا مع هذا التطور عبر الدعم المالي والإعلامي والدعوي، فما كان من أمريكا إلا أن صعدت من عملياتها الأمنية والسياسية الموجهة ضد الأداء الجهادي في فلسطين، فكان ميلاد اتفاقية أوسلو لضبط الشارع الفلسطيني المجاهد بيد السلطة الفلسطينية وتعاونها مع اليد اليهودية، وقد شهدت هذه المرحلة تصعيدا كبيرا في التعاون الأمني الاستخباراتي ضد الروح والأداء الجهادي، خاصة بعدما شهدت الساحة الأفغانية ولادة جماعة طالبان الأفغانية وجماعة القاعدة ونجاح أمريكا في استقطاب تحالف المجاهدين السابق وتحريكهم باتجاه قتال طالبان.

المحطة الرابعة: وقوع حادث 11 سبتمبر 2001م واستغلال أمريكا لها لإعلانها غزو أفغانستان عسكريا وتدشين المرحلة الثانية من تطبيق نظام القطب الأوحد عالميا، حيث تمكنت أمريكا لأول مرة في تاريخها من النزول العسكري في آسيا الوسطى والتي كانت حديقة خلفية للاتحاد السوفيتي ومنطقة محاذية للعملاق الصيني، ثم أتبعت أمريكا غزو أفغانستان بغزو العراق عام 2003 في ذات السياق لكي تجبر العالم على قبول وفرض سياسة الأمر الواقع، ولكن حدث ما لم يكن في حسبان الأمريكان وهو بدء الجهاد ضدهم في أفغانستان والعراق، وانكشاف القدرات العقائدية والنفسية الحقيقية للجيش الأمريكي بغض النظر عن إمكاناته العسكرية واللوجستية والبشرية، ولكي تنتهي هذه المرحلة بسقوط مدوي لنظام القطب الأوحد الذي عملت أمريكا لتثبيته عشرين عاما، ولكي تستغل روسيا والصين هذا السقوط للعودة القوية مرة أخرى للساحة الدولية.

المسطرة التاريخية الرابعة: وهي التي تبدأ بالثورة العربية في نهاية عام 2010م في تونس وامتداد شررها لكي تصيب خمس دول وتسقط وتزلزل خمسة من أصنام النظام العربي خصوصا في مصر وسوريا، ولكي تهدد الثورة كافة منظومة الحكم التي تم تجليسها قبل مائة عام وإن كان الشق المباشر والمتأثر بالثورة هو الشق الجمهوري، وعلى إثر اشتعال الثورة العربية وُلدت في ظلها ثورة مضادة قادتها أمريكا وتولت كبرها دول الخليج وكان في مقدمة المتعاونين السعودية والإمارات والكويت حيث ضخت هذه الدول المليارات لدعم العمليات الأمنية والعسكرية والإعلامية التي استهدفت ضعضعة الثورة وقادتها ووضع خطوط حمر تحول دون وصول الثورة إلى تحقيق نصر سياسي حقيقي والحيلولة دون المساس بأركان النظم الأمنية المتجبرة في بلاد الربيع العرب، وقد طبقت أمريكا في ظل الثورة المضادة عدة استراتيجيات كان من أهمها:

أ - العمل على إلغاء أية شرعية اكتسبها قادة الثورة سواء في المجال السياسي أو العسكري أو الفكري.

1. شرعنة العملاء الجدد ودفعهم للتموضع في النظام السياسي الجديد.

2. ج - إبقاء الشعوب تحت هيمنة الخوف والجوع، وتوسيع نطاق عمليات القتل وسفك الدماء.

3. د - اللعب بمسألة منح السلطة ومنعها ومصطلح الشرعية تمهيدا لصناعة النظم السياسة الجديدة.

4. هـ - استراتيجية الاحتواء المزدوج لقيادات الثورة وتياراتها عبر تقديم الوجوه التي تظهر تعاونها ودعمها للثورة بل وتمويل أطرافا محددة فيها، وتقديم الوجوه الشديدة العنيفة التي تعمل على ضرب وإجهاض الثورة.

وقد استخدمت أمريكا وأولياؤها أدوات وآليات كثيرة لتحقيق الاستراتيجيات بدء من الانقلاب العسكري والاختراقات الأمنية وشراء الولاءات، ومرورا بطرح المبادرات وانتهاء بقتل واغتيال وسجن قادة الثورة ورموزها.

ويمكن الاستفادة من هذا المخطط في تلخيص المساطر التاريخية والزمنية التي حكمت الأمة منذ مائة عام:

1. العوامل الجديدة التي غيرت من المعادلات المستقرة:

العامل الأول: عامل الثورة العربية وتميز مصالح الأمة العليا:

فمع نشوب الثورة العربية المباركة ونجاحها المبدئي بإسقاط أخطر رؤوس الحكم في العالم العربي فقد اتضح بأن ثمة عامل خطير قد دخل على المعادلات المستقرة في منطقة الشرق الأوسط خصوصا في ظل وحدة البواعث التي فجرت الثورة العربية في جميع دول العرب والمسلمين من قمع وفقر وتفريط النظام العربي في مصالح الشعوب والأمة العليا، لذلك فقد كانت الثورة مرشحة للانتشار كما تنتشر النار في الهشيم.

وكان من نتائج الثورة والثورة المضادة تمايز الصفوف وانقسام الساحات إلى مسار منحاز ومؤيد للثورة على مستوى النخب والجماهير حتى تحول هذا المسار إلى تيار عريض في الأمة سواء في الساحات الثورية أو الساحات الباردة، ولكن النتيجة الأخطر في ظل الثورة العربية هو ما أفرزته الساحات الثورية من كتل مقاتلة وجهادية وخصوصا في سوريا وليبيا وبدرجة أقل في اليمن لكنها على الطريق وتمسك تلك الكتل بالسلاح والأرض وقابليتها للحياة ومواصلة الصراع مع وضوح في الأهداف وعدم قدرة النظام الدولي وأولياؤه على حرف هذه الكتل عن مسارها العام.

كما يُعد تكسر مفردات المصلحة الوطنية في كل ساحة ثورية وتراجع السقوف القطرية من الآثار الإيجابية للثورة العربية بسبب فشل تلك المفردات في حفظ وحماية حُرُمات الشعب الواحد في القطر الواحد فضلا عن حُرُمات الأمة ككل، بل وقيام أخطر الأجهزة الوطنية والمُعدة أصلا لحماية الشعب بتوجيه أسلحتها ونيرانها لصدور شعبها وسحقه بلا رحمة كما حصل من كل جيوش وأجهزة أمن بلاد الربيع العربي، وقد أدى هذا التطور إلى ذهاب جماهير الأمة لتلمس وإعادة تعريف المصالح العليا وتمييزها عن مصالح النُظُم القمعية وإلحاقها بسقوف الأمة ومصالحها العليا وإن كان هذا المستوى لا يزال بحاجة إلى خدمة علمية وتربوية وإعلامية.

ومن النتائج الإيجابية والتغيير الواضح الذي أحدثته الثورة العربية وصراعها مع الثورة المضادة هو انحياز أصحاب الأداء السياسي وما أطلق عليه بالإسلام السياسي لساحة الثورة والقبول بمعطيات الصراع سواء على المستوى القطري وبدرجة أقل على المستوى الدولي، مما هيأ الساحة للتجاوب مع الصراع المفروض على الأمة بدرجة أكبر ولعل أنموذج الإخوان المسلمين في مصر وإصرارهم على مواصلة الانحياز للثورة وفي النموذج التركي الذي تحول إلى غطاء استراتيجي للثورات العربية ومتنفسها الأساسي خصوصا للثورة السورية، ففي تلكما النموذجين مؤشر على التغيير الذي دخل على ساحة الصراع وخصوصا في ظل التهديد الذي فرضته الثورة المضادة على الساحة التركية ومحاولة إقصاء حزب العدالة والتنمية عن المشهد السياسي وتجاوب هذا الأخير مع التحديات التي فُرضت عليه، ولكن يبقى السؤال: ما هو المدى الذي يمكن أن يذهب إليه تيار الإسلام السياسي في تصور وإدارة هذا الصراع؟

وبسبب أن النظام السياسي العربي قد تأسس على اتفاقية عمرها مائة عام وهي اتفاقية سايكس بيكو والتي كانت تعبر عن اتفاق وتوازن النظام الدولي فإن تزلزل المنطقة العربية يعني تزلزل النظام الدولي ومعه النظام الإقليمي، ولذلك فقد أعطى نشوب الثورة العربية إشارات خطرة في كل الاتجاه فقد مست الثورة الهيمنة الغربية لأمريكا وأروبا، وباشتعال الثورة في سوريا بعد مصر وهما أهم دولتين من دول الطوق فلم يكن المراقبون بحاجة إلى دلائل أخرى لكي يجمعوا على أن الثورة تحولا يهدد المشروع الصهيوني تهديدا وجوديا، ولم يكن المشروع الصفوي بعيدا عن أشقائه من الصليبيين والصهاينة فقد كان على موعد ينسف كل تمدد حصل عليه على المستوى الإقليمي والعالمي لأن اشتعال الثورة السورية قصم العمود الفقري لهذا المشروع واضطره للدخول في صراع لم يكن يحسب حسابه أبدا وكشف بالتالي عن وجهه القرمطي وعقيدته الحقيقية تجاه الأمة المسلمة فطفق ينتهك كل حرماتها بصورة لا ينافسه عليها إلا الاتحاد السوفيتي الملحد في تاريخه الأحمر الدامي وكذا الكونيالية الفرنسية التي قتلت الملايين من الجزائريين.

العامل الثاني: حاجة المشروع الصفوي لحماية مناطق نفوذه في المنطقة العربية

فقد نشأت حاجة المشروع الصفوي تلك في ظل عامل الثورة العربية التي هددت مناطق نفوذه في المنطقة العربية واضرته للدخول في حرب متسعة ومتعددة الجبهات، وبالتالي حاجته لتأمين الغطاء الاقتصادي والدولي لحربه وممارسته للقتل الموسع فاضطر أن يذهب للملف النووي لكي يستخدمه للتفاوض واستغلال حاجة المشاريع المتقاطعة في المنطقة لكي يتفاهم معها على أدوار ومناطق نفوذ وتعاون، خاصة وأن أمريكا لا تزال تلعب معه ألعابها القذرة في العراق لكي تحصل منه على تنازلات واضحة ومحددة في الملف النووي، فتأسست على هذه الحاجة لدى إيران تسريع المفاوضات النووية.

العامل الثالث: العجز المشترك بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني والمشروع القمعي العربي

فإن الثورة العربية قد وسعت من جراحات هذا الثالوث بتهديدها للأنظمة العربية المستقرة وإمكانية انتقالها من ساحات الجمهوريات إلى ساحات الملكيات، وعدم قدرة المشروع الصهيوني على حسم معركته مع الفلسطينيين وبقاء خيار المقاومة حاضرا لديهم وتوسيعهم من البنية التحتية للحرب في غزة فلم يعد هذا المشروع بأحسن حال من حلفائه، وزاد من عجز هذا الثالوث خروج أمريكا من أفغانستان والعراق مهزومة وغير قادرة على إدارة المنطقة بنفس التحفز الذي أشعلت به حرب عام 2001م في أفغانستان وحرب 2003م في العراق وعدم استعدادها أبدا للمشاركة بقوات على الأرض وهذا بدوره دفع بحاجة هذا الثالوث إلى تبادل المظلات الأمنية في المنطقة مع المشروع الصفوي، ونتيجة لنشوء هذه الحاجة في ظل الثورة العربية والعجز الأمريكي فقد سرعت أمريكا من دفعها للملف النووي الإيراني لكي تحقق به إنجازا عاجلا وملحا.

العامل الرابع: الفرصة المواتية للمشروع الروسي القيصري للعودة إلى نظام القطبية المتعددة

فقد أتاح تطور الأحداث في ظل الثورة العربية للمشروع الروسي المعدل قيصريا لكي يعود إلى نظام القطبية الدولية مكتسحا كما يكتسح التسونامي ومنتقما من الإهانات التي لحقته من المشروع الغربي الأمريكي والأوروبي وتهديد مناطق نفوذه حتى وصل إلى أوكرانيا وتعداها إلى جورجيا وأرمينيا،

وعليه فقد استغل المشروع الروسي الفرصة استغلالا استراتيجيا تمثل في أربعة مسارات:

أما المسار الأول: فهو استغلال حاجة المشروع الصفوي للإسناد والدعم في الملف النووي لتحقيق أفضل الشروط الممكنة أمام المفاوض الغربي، واستغلال حاجته أيضا للإسناد السياسي والعسكري في الساحة السورية.

وأما المسار الثاني: فهو استغلال حاجة الحلفاء الغربيين والمشروع الصهيوني في إدارة الثورة المضادة والتحديات التي نشأت في ظل الثورة العربية خاصة الثورة السورية، ولذلك رأينا هذا الاستغلال تحقق بقفزة الروس العسكرية وتوسيع وجودهم في سوريا وكونهم المرجعية الثانية الرئيسية مع الأمريكان في إدارة الأزمة السورية وترتيب أوراقها.

وأما المسار الثالث: فهو استغلال الروس لحاجة المشروع الصهيوني الماسة والشديدة لبقاء نظام بشار الأسد ومنع تطور الثورة السورية باتجاه تحقيق أي إنجاز لصالح الشعب السوري والأمة المسلمة، خصوصا في ظل العزوف الأمريكي عن التدخل العسكري وتكرار سيناريو أفغانستان والعراق.

وأما المسار الرابع: فهو استغلال الروس للإرباك السياسي والأمني في النظام الدولي نتيجة لعامل الثورة العربية وانكشاف المظلة الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط وتمثل هذا الاستغلال في القفزة الروسية العسكرية في الشرق الأوكراني واقتطاع جزيرة القرم الاستراتيجية لصالحهم وتكريس هذا الوضع مع مرور الأيام وتحويله إلى فرض أمر واقع، ولا أنسى أن أشير هنا إلى وجود التناسق والتفاهم الصيني الروسي في خلفية أزمات الشرق الأوسط مما حقق دعما وتشجيعا للحراك الروسي، وهذا يذكرنا بحقيقة وثابت من ثوابت العلاقات الدولية وهو التنافسية الشديدة بين المعسكر الشرقي والغربي بل العداء المستحكم الذي يحاول الفرقاء أن يبقوه في دائرة الحرب الباردة أو ما بقي منها خوفا من الانزلاق لحرب كونية.

العامل الخامس: الاستراتيجية التي يحاول الغرب (أمريكا وأوروبا) تطويرها لمواجهة تلك العوامل مجتمعة

والتي لم تكن لتتطور في هذا الاتجاه لولا نشوب الثورة العربية، فما هي مؤشرات الاستراتيجية التي تتبعها أمريكا وخلفها أوروبا في التعامل مع تلك العوامل:

المؤشر الأول: استثمار التفوق الاستراتيجي الذي تتمتع به أمريكا وأوروبا والموقع المتميز لها نتيجة لتحكمها بالأدوات الدولية والإقليمية التالية:

  • الأداة الأولى: منظمة الناتو وقدراتها البشرية والتقنية والعسكرية.
  • الأداة الثانية: منظمة الاتحاد الأوروبي بقدراته الاقتصادية والبشرية والتقنية وموقعه الجيوسياسي والمؤسسات التابعة له كمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي وغيرها.
  • الأداة الثالثة: التحكم في مسارات الأمم المتحدة وأدواتها ومؤسساتها كمجلس الأمن والسكرتير العام والمبعوثين الدوليين وغيرها.
  • الأداة الرابعة: التحكم في منظومة الحكم العربي والإسلامي وخصوصا النظم الملكية في الخليج بما تملكه من أجهزة أمنية متكاملة مع المنظومات الأمنية الغربية وبما تملكه من فوائض مالية وما تمثله من موقع الإسلام الرسمي والتزامها التام بالاستراتيجية الأمريكية على مدار العقود الطويلة الماضية.

المؤشر الثاني: امتصاص الفشل العسكري الأمريكي وانتهاء فرصة تطبيق نظام القطب الأوحد واستبداله بالأداء الأمني والاختراقات وتوظيف العملاء والأجهزة الأمنية الحليفة، واعتماد نظريات المكر والدهاء في إدارة الأزمات والصراع كالاستراتيجية التي تعتمدها منظمة الناتو في إدارة واستثمار الأزمات، ونظرية جدوى القوة التي أرساها الجنرال البريطاني روبرت سميث عام 2005م والنظريات التي ولدت في ظلها، واستخدام التطور الهائل في نظريات السيطرة والتحكم العسكرية والأمنية وإدارة التعقيد الهائل في الصراع كنظرية (C4i) Command, Control, Communications, Computers, and Intelligence المطبقة في الصراع العسكري والسيطرة على نتائجه.

المؤشر الثالث: امتصاص التمرد الروسي واحتواء عودته القوية إلى ساحة القطبية الدولية واستغلاله لحاجة المشروع الصفوي، واستبدال الصراع المباشر معه في أوكرانيا عبر تحويل مسارات الصراع إلى ساحة الشرق الأوسط وخصوصا ساحات الثورة العربية وساحة الثورة السورية على وجه الخصوص، وإشعار الدب الروسي بالرضى النفسي بأنه أصبح مؤثرا على الساحات العالمية مع إضمار أمريكا وأوروبا استراتيجية التوريط المتدرج وهو ما أُطلق عليه بالخطة ب أثناء الجدال حول التنسيق والتفاهم الروسي الأمريكي في سوريا، وتستخدم أمريكا أدواتها وحلفائها في النظام العربي لتحقيق هذه الاستراتيجية ولذلك لعب حكام الخليج دورا واضحا ومبالغا فيه عندما أظهروا الاقتراب الشديد من الدب الروسي وإغرائه بالعقود العسكرية وشراء الأسلحة بينما كانوا يسربون رسائل مدروسة باتجاه تحقيق الاستراتيجية الأمريكية.

المؤشر الرابع: تطبيق استراتيجية الاحتواء المزدوج في إدارة المشروع الصفوي من خلال إعطاءه فرصة كاملة للممارسة النفوذ في المنطقة وتقاسم النفوذ مع الكيان الصهيوني خصوصا في الجناح العربي الشرقي، مع بقاء سيف الاستنزاف العسكري المستمر فوق رأسه في كل من العراق وسوريا واليمن ويمكن أن ينتقل الاستنزاف إلى لبنان ورفع وتيرة العداء بين إيران وجيرانها العرب وخصوصا الحكومات الخليجية وذلك بحسب تحسن الأداء والاستجابة الإيرانية وخضوعها للأجندة الأمريكية أو الاقتراب الجيد منها.

المؤشر الخامس: استيعاب وتبريد الثورة العربية في جميع الساحات التي نشبت فيها عبر الاستراتيجيات الأربع التي ذكرتها سابقا، مع الحرص على عدم انتقال الثورة العربية لساحات جديدة والاستعداد لمرحلة طويلة من معاقبة الشعوب الثائرة والتدرج في بناء الأنظمة العميلة الجديدة، وتخيير الشعوب بين الخضوع للأنظمة العميلة أو البقاء تحت التهديد الأمني الذي تفرضه داعش المسيرة أمنيا، مع إمكانية الذهاب إلى تقسيم بلدان الربيع العربي وتفتيتها إلى كانتونات بحسب المعطيات العرقية والطائفية، مع تكليف النظام العربي بإدارة الثورة المضادة عسكريا وأمنيا وسياسيا وإعلاميا واقتصاديا.

المؤشر السادس: إعادة إنتاج النظام السياسي العربي بشقيه الملكي والجمهوري مع التركيز على الشق الملكي ويتم ذلك عبر عدة استراتيجيات من أهمها: إسناد كامل من قبل النظام الملكي للنظم الجمهورية المتداعية على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، وعبر توظيف الصراع الذي فرضه المشروع الصفوي على الأمة بادعاء النظام الخليجي بأنه هو المعني بمواجهة التهديد الصفوي وأنه قد تكفل بحماية السنة، واتخاذ النموذج اليمني مادة للدعاية بهذا الاتجاه بينما هو لا يفعل أكثر من الضربات الدوية ودون حسم على الأرض ويلعب باستراتيجية الاحتواء المزدوج مع المشروع الصفوي فهو يحاربه هناك ويصالحه ويتوافق معه هنا، وهو يلعب معه لعبة العداء والصداقة في آن واحد كما تفعل الحكومة الإماراتية والعمانية وكما بدأت تغازله الحكومة السعودية مؤخرا.

المؤشر السابع: تجهيز التحالف الإسلامي العسكري كبديل عن الغياب العسكري الأمريكي والأوروبي في المنطقة واستخدامه في كل الاتجاهات ومنها تجهيزه لأي انزلاقات ونشوب حرب غير محسوبة، وتكليفه بترتيب وحصار الساحات الثورية وإدارة الكانتونات التي ستنشأ عن التفاهمات الدولية.

المؤشر الثامن: استهلاك جميع المتنافسين في المنطقة في دورة صراع عسكرية وأمنية واقتصادية طويلة المدى لا تخسر فيها أمريكا رجالها ولا دولاراتها.

المؤشر التاسع: الحفاظ على استراتيجية استهلاك بيني للحراك الجهادي وضرب بعضه ببعض عبر الاختراقات الأمنية وبمساعدة الأجهزة الأمنية العربية واليهودية والإيرانية والروسية فهذه نقطة مصلحة مشتركة تجمعهم، وهذا الذي يفسر حرص الجميع على عدم اختفاء داعش من الساحة بل وتهيئة الظروف لبقائها واستمرارها.

المؤشر العاشر: عدم السماح لتيار الإسلام السياسي بتحقيق أي إنجاز في مسيرته خصوصا بعد أن تماهى مع معطيات الثورة واستثمرها لتحقيق تحول سياسي حقيقي في بلاد الربيع العربي، ومن هنا كان العقاب الدولي والإقليمي لجماعة الإخوان المسلمين المصرية وفروعها في العالم العربي ووضع خطوط حمراء حولها ووصمها بالإرهاب، وقد امتدت هذه الاستراتيجية لتشمل النموذج الناجح الوحيد الذي يمثل تيار الإسلام السياسي وهي الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية وخصوصا بعد فشل كل المحاولات لضرب هذه الحكومة من الداخل وبقيت محاولات دفعها للصراع العسكري الذي بدأ فعلا عبر إشعال الجبهة الكردية وعبر توريطها بالصراع العسكري في سوريا ومن ثم إمكانية إشعال حرب إقليمية بينها وبين روسيا وإيران.

المؤشر الحادي عشر: الاتفاق النووي الذي عقدته أمريكا مع المشروع الصفوي برعاية الخمسة الكبار بالإضافة إلى ألمانيا، والذي يمكن وصفه بمقدمة لسايكس بيكو جديدة بعد مضي مائة سنة على اعتمادها، وتهلهل كل العوامل التي شكلتها وخاصة النظام العربي ومؤشرات سقوطه، وبالرغم مما تم إعلانه من جوانب الاتفاق النووي لكن جميع المراقبين يقرون بأن هناك ملاحقا سرية متعلقة به لم تر النور لحرص جميع الأطراف على كتمها.

ويمكن توقع أبعاد تلك الملاحق السرية فهي على العموم تتعلق بالمسائل التالية:

1.   مساحات النفوذ التي أعطتها المنظومة الغربية للمشروع الصفوي وخصوصا في العالم العربي.

2.   التفاهم الرأسي بين الأقطاب الكبار في الاتفاق وفوائد كل منهم وخصوصا أمريكا وروسيا.

3.   تأمين المشروع الصهيوني والحفاظ على مساحات نفوذه وكونه يأتي فوق المشروع الصفوي في المنطقة.

4.   إقرار المشروع الصفوي بأحقية وتاريخ الوجود والهيمنة الأمريكية في المنطقة وعدم لعب أية أدوار تؤثر سلبا في الهيمنة الأمريكية خصوصا عند نشوب الحروب.

5.   التفاهم على إدارة مناطق الثورة العربية وتحديد الأدوار التي سيلعبها أطراف الاتفاق في تعويق وتبديد هذه الثورة.

6.   نصيب كل طرف من الكانتونات التي سيتم تأسيسها في المرحلة القادمة كالعراق وخصوصا المنطقة الكردية.

7.   ضمان دور وحقوق الأقليات الشيعية في العالم العربي.

8.   الأدوار الأمنية والتنسيق بين جميع الأطراف لإدارة اللعبة الأمنية والاختراقات في العالم العربي والسني.

9.   توزيع الأدوار بين الأطراف في ضرب البنية العقائدية والأخلاقية في جزيرة العرب فيما يسمى بالتيار الوهابي السلفي والجهادي.

10. توزيع وإدارة ثروات المنطقة بين أطراف الاتفاق.

رابعا: ماذا يفعل النظام العربي في سوريا؟

بالرغم من إجماع المراقبين على أن نشوب الثورة العربية جاء كردة فعل من قبل الشعوب على تراكم القمع والعبودية وسرقة واحتكار الثروة من قبل نظام القمع العربي فلا يزال الفرقاء من قادة الثورة مختلفين على توصيف وتحديد طبيعة وحقيقة الدور أو الأدوار التي يلعبها النظام العربي مجتمعا ومنفردا في ساحات الربيع العربي منذ نشوبها قبل خمس سنوات!

ولأن طبيعة الورقة لا تتيح البحث المفصل في هذه القضية فسوف أسلك أسلوب الأسئلة التي تثير القضايا الكلية المتعلقة بشؤون الأمة ومصالحها العليا وموقع النظام العربي فيها:

السؤال الأول:

هل يمكن التعويل على نظام الحكم في العالم العربي والإسلامي كله أو بعضه (كالملكي دون الجمهوري) في أيامنا هذه على رعاية المصالح العليا للأمة وحفظ حُرُماتها؟

مناقشة السؤال:

لقد أهدى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطرة لقياس حال الأمة الكلي على مدار التاريخ وهي تلك التي توصّفُ وتحدد علاقة الأمة بالنظام السياسي الذي سوف يحكمها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وإلى مراحل متأخرة ومتطاولة في التاريخ ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه الله، قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة.

فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت).

وروى الحديث أيضًا الطيالسي والبيهقي في منهاج النبوة، والطبري، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وحسنه الأرناؤوط.

والحديث الآخر في الصحيحين عن حذيفة هو: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: (إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله: صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).

ويكاد يجمع العلماء والباحثون المعاصرون بأن المرحلة السياسية الحالية في الأمة هي مرحلة الملك الجبري لانطباق الصفات التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عليها ومنها:

الصفة الأولى: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.

الصفة الثانية: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.

الصفة الثالثة: (من حديث آخر) صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس.

وبالتحقيق في الفروق بين الخلافة الراشدة والملك العضوض من جهة والملك الجبري من جهة أخرى فقد تبين أن تلك الفروق واضحة لا لبس فيها وهي:

الفرق الأول: أن فترة الخلافة والملك العاض لم يُصرف فيها الولاء عن وجهه الشرعي وهو الولاء لله ورسوله والمؤمنين، بينما وقع الملك العاض في الولاء لأهل الكتاب.

الفرق الثاني: أن فترة الخلافة والملك العاض كان مستقلا استقلالا تاما عن تدخل الكفرة في شأن الأمة السياسي، بينما خضع الملك الجبري خضوعا تاما لهم.

الفرق الثالث: أن فترة الخلافة الراشدة والملك العاض كانا ملتزمين بمرجعية الشريعة في تصريف شؤون الأمة كلها، بينما اعتمد الملك الجبري قوانين الغرب والشرق وغل الشريعة عن العمل لا كما فرض الله تعالى على عباده.

الفرق الرابع: أن فترة الخلافة الراشدة والملك العاض استخدما الجهاد لحفظ حُرُمات الأمة فلم يعطلاه بل لم يوقفا الفتوح شرقا وغربا، بينما قام الملك الجبري بتعطيل الجهاد ومعاقبة من ينادي به بأقصى أنواع العقوبات.

الفرق الخامس: أن نظام الخلافة الراشدة والملك العاض كانا مؤهلين كنظام سياسي للنظر في المصلحة العليا للأمة واتخاذ القرارات التي تترتب على ذلك النظر، بينما أصبح الملك الجبري عريا من كل قدرة وتأهيل للنظر في المصلحة العليا للأمة بل أصبح حربا على الأمة ومصالحها والتفريط في مقدساتها.

الفرق السادس: لم تفرق الخلافة الراشدة والملك العضوض بين الأمة لا على أساس العرق ولا الجغرافيا وبقي سقف الأمة الكلي هو الأساس لصلتها وعلاقتها ببعضها البعض، بينما تأسس الملك الجبري على تبعيض الأمة وتقسيمها على الأساس الوطني والعرقي والجغرافي فلم تتمكن الأمة من نصرة بعضها البعض وبقي العدو يعيث فيها فسادا وهي مستسلمة ومقطعة.

فكيف يمكن للنظام العربي القائم ملكيا كان أم جماهيريا في ظل تلك المناقشة أن يقوم برعاية المصالح العليا للأمة؟

السؤال الثاني:

هل تاريخ النظام السياسي العربي يؤهله لحفظ حُرُمات الأمة وإدارة قضاياها الكبرى؟

مناقشة السؤال:

يمكن تقسيم تاريخ النظام السياسي العربي إلى مرحلتين لا تخطئهما العين.

المرحلة الأولى: هي مرحلة تأسيس الشق الملكي من النظام الجبري والذي اتضحت معالمه بداية القرن العشرين عندما

وقع السلطان عبدالحفيظ في المغرب اتفاقية فاس مع فرنسا عام 1912، ثم تبع ذلك إعلان بريطانيا حسين كامل سلطانا في مصر وتبعه اتصال بريطانيا عام 1914 بكل من الشريف حسين وعبد العزيز آل سعود والذي أسفر لاحقا عن تأسيس إمارة شرق الأردن وإمارة نجد والحجاز.

واستمرت هذه المرحلة إلى بداية الخمسينيات من القرن العشرين حيث بدا إعلان استقلال تلك الملكيات.

المرحلة الثانية: هي التي دفع فيها الإنجليز والفرنسيون عملاءهم من العسكر للانقلاب على بعض الملكيات خصوصا في المواقع الحاسمة والاستراتيجية في الأمة ذات الحضور التاريخي والحضاري والبشري وهي العراق وسوريا ومصر والجزائر حيث تبنى أولئك العسكر العقيدة الاشتراكية المعدلة عربيا كالبعثية والناصرية.

فما هو تاريخ هذه النظم طوال القرن العشرين:

المحطة الأولى: سقوط بيت المقدس والشام تحت الصليبيين الجدد واصطفاف النظام العربي الوليد معهم حتى أن قوات فيصل بن الحسين كانت مسؤولة عن حماية ميمنة الجيش البريطاني وهو يقتحم فلسطين ويستولي على القدس.

المحطة الثانية: انتهاء الحرب العالمية الثانية وحرص أمريكا وبريطانيا وفرنسا على تثبيت دعائم الحكم الملكي العربي والبدء في بناء جيوشه وأجهزة أمنه وعقيدته، وتأسيس مرجعيته الجماعية متمثلة في جامعة الدول العربية كغطاء لكل سوءاته وتفريطه في حقوق الأمة بغض النظر عن خلافاته.

المحطة الثالثة: إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948م والدور الخياني الذي لعبه النظام العربي منفردا ومجتمعا بالتظاهر بالدخول في حرب لتحرير فلسطين وقد كانت حربا تحريكية حتى تبلع الشعوب العربية مرارة ولادة الكيان المسخ على أرض فلسطين حيث كانت جيوش العرب بقيادة البريطاني جون باجوت جلوب أو جلوب باشا، وعندها أعلنت الأنظمة العربية قبولها بالهدنة لتفتح المجال لولادة إسرائيل.

المحطة الرابعة: استكمال سقوط القدس بيد اليهود عام 1967م في حرب شكلية لم تكلف الكيان الصهيوني إلا بضعة أيام لكي يسيطر اليهود على القدس ومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء، ولكي يتهاوى الحلم الكاذب الذي كان يسوقه النظام العربي وهو وهم المشروع العربي، ولكي يستكمل ملوك ورؤساء العرب تمثيليتهم في اجتماع جامعة الدول العربية بالخرطوم متضامنين في التسليم والتفريط بالقدس.

المحطة الخامسة: الحرب التحريكية بين مصر والكيان الصهيوني عام 1973 والتي نتج عنها اتفاقية كامب ديفيد والصلح مع اليهود، حيث تظاهر النظام العربي بمقاطعته للنظام المصري ثم تتابعوا على طريقه في مرحلة تالية، فقد أسند النظام الملكي شقيقه الجمهوري فيما يخص الاعتراف بالكيان الصهيوني والمضي في طريق التطبيع معه عبر ثلاث مبادرات وهي: مبادرة الأمير فهد عام 1981م والتي اعترفت بحق إسرائيل في الوجود، ثم مؤتمر مدريد الذي حضرته دول الخليج ممثلة في أمين عام دول مجلس التعاون الخليجي عام 1991م واستكملت اعترافها بالكيان الصهيوني، ثم مبادرة الأمير عبدالله عام 2002م في مؤتمر بيروت واعتماد جامعة الدول العربية لها والتي تأسس عليها لاحقا إدخال الجهاد الفلسطيني في جحر السلطة الفلسطينية وإغلاقه عليه منذ عام 2006 إلى وقتنا هذا.

المحطة السادسة: المشاركة في تمثيلية دخول صدام إلى الكويت عام 1990م والتي افتعلتها أمريكا لاستثمار سقوط الاتحاد السوفيتي وإعلان نفسها كوصية وحيدة على العالم، وقد لعب النظام السياسي في الخليج أوضح وأقوى الأدوار في خداع الأمة واللعب بمشاعرها ووضع الفتيا في خدمة الدجل السياسي، وقد ترتب على هذه المحطة دخول إيران في التحالف الأمريكي واستثمارها للتحولات في النظام الدولي باتجاه مد نفوذها وإحكام سيطرتها على المنطقة.

المحطة السابعة: محطة خطة تجفيف المنابع التي سلطتها أمريكا على العالم العربي والعالم الإسلامي على الخصوص إثر الخوف والهلع الذي ركبهم نتيجة نجاح المجاهدين الأفغان من شطب الاتحاد السوفيتي من الوجود عبر تجديد روح الجهاد في الأمة، فعمدت أمريكا إلى إعادة إنتاج النظريات الأمنية والأجهزة الأمنية التي تحكم المسلمين عبر استهداف كل ما من شأنه أن يبذر الدين في نفوس النشء الجديد فتم إغلاق مدارس تحفيظ القرآن الكريم وتأميم بعضها ومصادرة المساجد ومنع خطبائها وغل وتوقيف الهيئات الخيرية وملاحقة الجماعات الدعوية والتربوية ومعاقبة المتعلقين بالأداء الجهادي وتسليط كل ألوان الأذى عليهم من جاكرتا إلى الرباط، وكان للنظام العربي نصيب الأسد في تطبيق تلك النظريات وتكامل أداء الأجهزة الأمنية العربية.

المحطة الثامنة: محطة 11سبتمبر 2001 والتي استخدمتها أمريكا للعبور إلى نظام القطب الأوحد بشكل مباشر بعد أن مضى على سقوط الاتحاد السوفيتي عقد كامل دون أن تتمكن أمريكا من إحداث نقلة حقيقية في مشروعها بتجاوز التعددية القطبية في النظام العالمي، وقد كان للنظام العربي نصيب الأسد في الوقوف خلف أمريكا بكل أنواع الدعم العسكري والاستخباراتي والمالي والسياسي وخصوصا الدعم الاستخباراتي حيث تحولت سجون النظام العربي إلى سجون سرية سوداء وفرت كل متطلبات التحقيق والتعذيب والقتل والترحيل التي كانت تتطلبها أمريكا.

المحطة التاسعة: محطة احتلال العراق وسقوط بغداد عام 2003م والتي قادت إلى افتتاح عهد جديد من القتل وسفك الدماء حيث بلغ عدد قتلى العراق مليون ونصف قتيل وبلغ عدد المهجرين من ديارهم عشرات الملايين، وتم تسليم العراق هدية لإيران فتكامل المشروع الصفوي واتصل من حدود باكستان إلى لبنان، واستخدمت مطارات دول الخليج كلها في ضرب العراق واستخدمت أمريكا أنواعا من الأسلحة المحرمة دوليا ومنها أسلحة اليورانيوم المنضب الذي أسهم في تشويه الأجنة في بطون أمهاتهم عدا الآثار الخطيرة على البيئة العراقية، وعندما اشتعلت المقاومة والجهاد ضد الوجود الأمريكي في العراق ساهم النظام العربي في حصار العراق وانحاز للعدو الأمريكي ومنع تعاطف ودعم الشعوب العربية للعراقيين بل ووضع كل من قام بدور تطوعي شعبي في دعم العراقيين في السجون حتى بلغ عدد السجناء عشرات الألوف كما هو الحال في السعودية.

المحطة العاشرة: محطة الثورة العربية التي اشتعلت بنهاية عام 2010م وتمكنت في وقت قياسي من زلزلة وإسقاط خمسة أصنام كبرى من أصنام النظام العربي، وكانت أمريكا وأوروبا بطبيعة الحال أول من تفاعل مع التحدي الذي فرضته الشعوب العربية في بلدان الربيع العربي فبدأت سيناريوهات الثورة المضادة بالتشكل وكان للنظام العربي نصيب الأسد فيها حيث انقسم أداؤه إلى:

1. تمويل المؤامرات الأمنية والإعلامية والدراسات الفكرية التي تسعى لإجهاض الثورة العربية وقد أسهم النظام العربي وخصوصا الخليجي في كل الأدوات والآليات التي تم تطبيقها ضمن استراتيجيات الثورة المضادة وهي: الانقلاب العسكري – الغزو العسكري والضربات الجوية – المبادرات السياسية – التمويل القذر – استخدام المنظومة الدولية لإجهاض الثورات – اللعب على تناقضات الثوار – الاختراقات الأمنية وصناعة جماعة دولة العراق والشام (داعش) لضرب الجهاد من الداخل – إعطاء إيران الضوء الأخضر للقتل في سوريا والعراق – قتل واغتيال قادة الثورة – إثارة العرقيات والقبليات والجهويات – معاقبة المهاجرين عبر إهمالهم والتشديد عليهم كنموذج لبنان والأردن – اللعب بموضوع نزع ومنح السلطة.

2. يقوم النظام العربي بالتدخل في الساحات الثورية عبر استراتيجية الاحتواء المزدوج والتي تضمن تحرك الثورة في مسارات محددة لا تخرج عنها، واستخدام الأدوات التالية لتحقيق تلك الاستراتيجية: توزيع الساحات الثورية على أكثر من حكومة بحيث تتولى كل حكومة شرائح ثورية خاصة بها وتربطها عبر التمويل وضباط المخابرات، وبالتالي وعبر التحكم في التمويل يتم التحكم في القرارات العسكرية والمعارك الحاسمة ورسم الخطوط الحمراء للتحرك العسكري، كما يحدث في الثورة السورية عبر التواصل الاستخباراتي كشف المعلومات الدقيقة لكل فصيل ونقلها لغرف العمليات التي تشرف عليها المخابرات الأمريكية وهما غرفتان (mom) وتعمل على الأراضي التركية و (moc) وتعمل على الأراضي الأردنية.

3. ومن التطبيقات في هذا المجال هو إظهار بعض حكومات النظام العربي الوجه الجميل والمتعاون مع الشرائح الثورية وخصوصا ساحة الثورة المصرية ويكون الهدف هو الامتصاص المتدرج لطاقاتهم الثورية وتبريدهم المتدرج بوعود تلو الوعود، وإظهار عدم الرضا عما تقوم به سلطات الانقلاب في مصر بينما هم في الحقيقة يعطون الانقلاب العسكري فرصته الكاملة لكي يثبت نفسه وهيمنته على البلاد.

4. ومن التطبيقات في هذا المجال هو إظهار التعامل الفظ والشديد مع بعض الشرائح الثورية كالإخوان على وجه الخصوص لأنهم أخطر كتلة ثورية في مصر، ووضعهم على قوائم الإرهاب وملاحقتهم وتشديد الهجوم الإعلامي عليهم وكل ذلك يهدف إلى كسر إرادتهم ودفعهم إلى اليأس الكامل من المسار الثوري كما فعل بهم النظام السعودي أيام الملك عبد الله وكما يفعل بهم نظام محمد بن زايد في الإمارات.

5. كما يوظف النظام العربي علاقاته تلك بساحات الثورة السورية للتأثير في الأداء السياسي للثورة السورية واعتماد استراتيجية الفصل بين المسار السياسي والمسار العسكري وإدارة كل مسار بمعزل تام عن الآخر، وتنقل الملف السياسي بين قطر والسعودية مع تدخلات أردنية وإماراتية بحسب ما تقتضيه الحاجة، والنتيجة تحكم النظام العربي وخلفه النظام الدولي في الساحة الثورية السورية وعدم إعطاء أهلها أي فرصة لتحقيق اختراق لا على المستوى العسكري فضلا عن المستوى السياسي، والأدهى من ذلك استخدام دماء وتضحيات السوريين لتحقيق نقاط تفوق على المعسكر المنافس وهو المعسكر الروسي وفي ظله الإيراني، وإخضاع الشعوب لعقوبات طويلة المدى حتى تنتهي عن مسيرتها بطلب الحرية والكرامة وبالتالي السيادة السياسية والاستقلال الحقيقي.

6. جند النظام العربي كل طاقاته وعلاقاته بالنظام الدولي لإفساد الساحات الثورية العربية ومنها تقدمه بالمبادرات التي تهدف إلى اختراق الساحات الثورية ومن أهمها المبادرة الخليجية في اليمن والتي أدت إلى بلبلة الثورة اليمنية وإنقاذ النظام من السقوط وفتح المجال على مصراعيه للعب بفرقاء الساحة اليمنية وإعادة توظيفهم، وقد صبت المبادرة الخليجية لصالح الحوثيين والتدخل الإيراني في اليمن وسمحت لأمريكا أن تستخدم التورط الإيراني العسكري في اليمن لصالح المفاوضات النووية كأحد أهم أوراق الضغط عليها، بل وفتحت المبادرة الخليجية الباب واسعا لإعادة تقسيم اليمن بين شمال وجنوب ووسعت من إعطاء الخطة الأمريكية الأمنية مبرراتها الكاملة للتدخل في اليمن بحجة ضرب القاعدة.

7. كما يعمل النظام العربي بنظام الحملات الدعائية الموسمية التي تهدف إلى تبريد الساحات الثورية عبر إعلان المواقف النارية والمنحازة إلى الثورة والتي تعطي انطباعا بأنهم قاب قوسين أو أدنى من التدخل العسكري لصالح الثورة سواء في سوريا أو العراق، حتى تبرد الحملة والانتقال إلى حملة أخرى وهكذا.

8. الجمع بين التعاون الظاهري مع الثوار والتواصل مع أعدائهم في آن واحد، فلا يجد الثوار إلا الوعود بينما يجد الأعداء التفاهم التام والعقود الاقتصادية والعسكرية بمليارات الدولارات كما حدث من الاتصالات الخليجية بالحكومة الروسية وهي تدك السوريين بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والطائرات وتلغي مكاسب الثوار التي حققوها خلال خمس سنوات من التضحيات التي قاربت نصف مليون شهيد سوري، وكذلك في الساحة اليمنية ففي الوقت الذي تظهر فيه السعودية التصلب تجاه الغزو العسكري الإيراني لليمن تتواصل سلطنة عُمان والإمارات مع العدو الإيراني ظاهرا وباطنا لكي يلعبوا مجتمعين هذه الأدوار المزدوجة والتي انعكست سلبا على الساحة الثورية اليمنية فلا تزال صنعاء تحت يد الحوثي ولا تزال تعز تحت الحصار الحوثي دون مدد منهم بينما تسارع الإمارات لتعزيز مكاسبها في الجنوب وكأنها سلطة احتلال.

9. مارس النظام العربي مجتمعا ومنفردا نفوذه وتدخلاته في ساحات الثورة العربية للحفاظ على المكونات الأساسية للحكومات الساقطة وخصوصا الجيش والأمن كما حصل في مصر وللمحافظة على ما يسميه بالشرعية في اليمن ويعني به بقايا نظام الطاغية علي عبد الله صالح مع خلطه ببقايا النظام الشيوعي في اليمن، وكما حدث في ليبيا من دفع أحد أكثر رموز القذافي تشوها لكي تقدمه كرمز للشرعية التي يريدونها في ليبيا.

10. لعب النظام العربي دورا داعما ومساندا لكل التدخلات الدولية التي تقودها أمريكا في ساحات الثورة العربية وخصوصا عبر المبعوثين الدوليين، بل وصل الأمر بالإمارات إلى التدخل المباشر واللصيق ورشوة المبعوث الدولي إلى ليبيا (ليون) لكي تطمئن إلى فساد دوره في الساحة الليبية.

الخلاصات الأساسية في أداء النظام العربي:

1. استحالة أن يسمح النظام العربي بحصول الشعوب على حريتها السياسية وإعادة صياغة نظمها السياسية سواء حاولت الشعوب الوصول إلى أهدافها عبر السلمية أو الثورة الشعبية.

2. استحالة أن يسمح النظام العربي للشعوب بالتحكم في ثرواتها الاقتصادية ومحاسبة الحكومات عليها.

3. استحالة أن يسمح النظام العربي برفع حالة القمع المستشرية في المجال الأمني والسياسي.

4. استحالة اقتراب النظام العربي من المصالح العليا للأمة وخدمتها، بل هو أقرب إلى ضربها والاصطفاف مع الأعداء ضدها.

5. يفرق النظام العربي تفريقا تاما في أدائه السياسي بين مصالحه العليا كأنظمة وبين مصالح الأمة العليا، ويقدم مصلحته ولو تعلقت بشخص الملك أو الجنرال على كل مصالح الأمة العليا، ولا يرى أي عضاضة في موت الملايين من أبناء الأمة مقابل تمتعه بالبقاء والميزات الذي يمنحها له النظام الغربي.

6. استحالة أن يذهب النظام العربي في شوط مواجهة المشروع الصفوي إلى نهايته بعد أن تعاون مع الأمريكان في تسليم العراق لإيران عام 2003م.

7. استحالة أن يلعب النظام العربي أية أدوار مستقلة عن النظام الإقليمي والنظام الدولي فهو وُلد تابعا وسيموت تابعا مُسْتَعبدا.

خامسا: نوازل الساحات الثورية بلا إجابة

تحولت الثورة السورية من فرصة تاريخية بالنسبة للأمة إلى ساحة إرباك وتأخير لأدائها العام، بسبب انعكاس الخلاف في الاجتهادات الإسلامية على هذه الساحة انعكاسا سيئا وحادا إلى الدرجة التي ضاعفت من قدرات الأعداء وأعطتهم فرصة لتجاوز التضحيات العظيمة التي قدمها الشعب السوري المسلم من شهداء وجرحى وسجناء ومهاجرين ومحصورين، بل واللعب بتلك التضحيات لصالحهم.

وما كان لتلك الفتنة أن تحل بالساحة السورية إلا بسبب تخلف الاعتصام بحبل الله المتين، وإهمال عمق الأمة واستحضاره في عملية المدافعة.

وفيما يلي استعراض للنوازل التي صنعها خلاف الجماعات الإسلامية في ساحات الثورة العربية عموما وفي الساحة السورية خصوصا، وهي نوازل تراكمت على نوازل سابقة متولدة من إفساد وسيطرة مشاريع تداعي الأمم على الأمة وتعمقت بسبب انكفاء عموم أبناء الأمة عن المشاركة الفاعلة في دعم القضية السورية بكل أنواع الدعم خصوصا الدعم العلمي الشرعي والاستشاري بكافة أنواع الخبرة والعلوم:

النازلة الأولى: تضارب وتناقض اجتهادات الجماعات الإسلامية في كل ساحة ثورية من ليبيا إلى اليمن مرورا بسوريا والعراق، وخصوصا في سوريا حيث سعت كل جماعة لاستغلال الثورة السورية في تحقيق مشروعها وتصورها وسعيها لسبق بقية الجماعات، وقد تحولت المنافسة بينهم إلى تنافس مذموم لم يقف عند التدابر والخصومة بل أتاح الفرصة لسفك الدم الحرام، وتفريغ الدفع الكلي في المعركة وتحويله إلى صراع أعان العدو أيما عون، ولم يكن ذلك ليحدث إلا لمحدودية وتراجع الفهم في تصور المشروع الإسلامي الكلّي في الأمة وبقاء التصورات المنغلقة لدى كل جماعة لزمن طويل دون إعادة النظر الكلية فيها ودون استصحاب التجارب ووضعها في ساحة مراجعة كلّية.

بينما تحركت مشاريع الأمم المتداعية على الأمة وهي تستصحب مصالح عليا لأممها التي تمثلها وتستهدف غايات محددة، وزاد من تعقيد الموقف أنه مع التناقض الذي يحرك كل مشروع من مشاريع تداعي الأمم لكنها وضعت نصب عيونها هدفا مشتركا وهو منع الأمة المسلمة من تحقيق أي تمكين على الأرض.

النازلة الثانية: عدم وجود تصور لكيفية استثمار الثورة العربية كآلية تغيير تتجاوز آليات الجماعات في التغيير ولم يسبق حدوثها بهذا الزخم والقوة والصبر على تقديم قوافل الشهداء، وتتصل هذه النازلة بعدم حسم الجدال حول طبيعة علاقة الجماعات المجتهدة في الأمة بعموم الأمة وخصوصها ومكوناتها من شعوب وقبائل وأعراق وأقاليم وأقطار وعلماء ومفكرين وخبراء وتيارات وجماعات، وقد انعكس غياب هذا التصور على تحديد طبيعة علاقة الجماعات المجاهدة في سوريا بالشعب السوري المسلم ومكوناته وغياب الشورى تماما عن الساحة السورية بل وعدم الشعور بالحاجة إليها لأن الجماعات تعتبر الشعب السوري مجرد تابع وعليه أن يسير خلفهم دون مراجعة، مما مكن الأعداء أن يتحركوا على هذا الشقاق ويوظفوه في المعركة.

النازلة الثالثة: استشراء الخلاف والصراع حول طبيعة ومراحل وآليات التمكين في ظل الظروف والمعطيات والتجارب التي مرت بالأمة خصوصا في خمسة وثلاثين سنة مضت منذ اشتعال الجهاد الأفغاني الأول ضد الروس، وهو امر يتعلق ببلورة اجتهاد واضح المعالم في العلاقة بين الأداء الجهادي والأداء السياسي وكيف يعملان في ظل بعضهما البعض دون تناقض ونقض، وما هو تصور المشروع السياسي الذي ينبغي دعوة الشعوب والأمة إلى تطبيقه، وما الفرق بين الساحات الساخنة والساحات الباردة، وما هي المبادئ والتطبيقات الشرعية للأداء الأمني الذي يسند الأداء الجهادي والأداء السياسي حيث وقع البعض في تقليد أنظمة القمع واستحلال التعذيب وانتزاع المعلومات والاغتيال المفتوح وما أشبه.

النازلة الرابعة: عدم وجود تصور يلم شعث قضايا الأمة المتفرقة في الجغرافيا وبين الجماعات والمتصلة والمتحدة في المكونات الداخلية والعوامل الخارجية المتحكمة فيها، فبينما تدير أمريكا وأولياؤها في النظام العربي ساحات الثورة العربية بنفس السفراء والمبعوثين الدوليين واللعب بالتمويل والاختراقات الأمنية والقرارات الدولية نجد قيادات كل ساحة ثورية يغلقونها عليهم ويحاولون إداراتها وفق المعطيات التي تحت أيديهم، ولعل في نموذج ملحمة الشام الثقيلة التي تجري في أكناف بيت المقدس خير دليل على ذلك فأهل فلسطين لا يرون لهم أي علاقة بما يجري فهم يديرون معركة القدس في ظل حدود سايكس بيكو التي قسمت الشام إلى كانتوناتها الحالية.

النازلة الخامسة: عدم وجود أي توازن بين المنهج الذي يدعو للتجاوب مع الظروف الدولية والإقليمية وبين المنهج الذي يدعو للصلابة والثبات وعدم التفريط في ثوابت الأمة، فالمنهج الأول أثبت قدرة أعداء الأمة على توظيفه لصالحهم واستخدامه لإعادة إنتاج الأنظمة الوظيفية مجددا كما حدث في العراق قديما وفي تونس حديثا، والمنهج الثاني لم يتمكن من مراعاة أحوال الأمة واستيعابها المتدرج لعملية الصراع وتوظيف المكاسب مرحليا، ولم يفرق في الاستهداف بين بعض مكونات الأمة وبين الأعداء الذين نهض لحربهم وخصوصا تجربة العراق والتجربة السورية من بعدها، ولم يضع تصورا لكيفية توظيف المكر والدهاء كما يفرضه الشرع الإسلامي لسد الهوة بين قدرات الأمة المستضعفة وقدرات الأعداء، ولم يبق بعد ذلك للمتخاصمين إلا الوقوع في دائرة التخوين والاتهام بين عرفاء الأمة من كلا الفريقين.

سادسا: الرؤية الاستراتيجية لإدارة الساحات الثورية

سوريا أنموذجا:

الاستراتيجية الأولى: اعتماد آلية الحوار المستمر بين مكونات الأمة وفرقاء الساحات الثورية للوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق وتحصين الأمة وتوقيف النزيف والخسائر البينية.

وذلك تأسيسا على ما أمر الله عز وجل به عباده المؤمنين في إدارة الخلاف والنزاع ومن ذلك:

الآيات التي وردت في فض التنازع وإصلاح ذات البين كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)النساء:59

يقول الإمام الطبري في تفسيره: (فإن اختلفتم - أيها المؤمنون - في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم، أو أنتم وولاة أمركم، فاشتجرتم فيه " فردوه إلى الله " يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم أنتم بينكم، أو أنتم وأولو أمركم فيه من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم)انتهى

وكذا في بقية الأوامر (واعتصموا) (وتعاونوا) (وأصلحوا ذات بينكم) فإنه لا بد من آلية جماعية للتواصل والتفاهم والحوار بين المعنيين في الأمة، فلم ينقذ الصحابة رضوان الله عليهم الذين نزلت في شأنهم الآية إلا حوارهم وتأملهم الجماعي للموقف فيما بينهم حتى رجعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما ورد عن علي رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء. قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطبا. ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. [ قال: فهمّ القوم أن يدخلوها ] قال : فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. قال : فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم : " لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا: إنما الطاعة في المعروف"). أخرجاه في الصحيحين

وعليه فإن اقتصار بحث النوازل على الأعيان والجماعات متفرقين لن يجدي نفعا ولن يصل بالأمة إلى الاعتصام الكلي، فكيف تعتصم والمعنيون بقيادة هذا الاعتصام شذر مذر!

كما أن قصر الشورى والفتوى والقيادة والمرجعية في فئة واحدة من الأمة لن يقود إلا إلى جعل هذه الفئة وصية على الأمة ومن ثم تتوسل بتلك الوصاية إلى حتمية وقوع المخالفين لها في الردة عن الدين، ولا يقول بهذا قائل فلا مجال لأن تتلبس فئة بلبوس الأمة وتقصره عليها ولا مجال لأن تُجبَر الأمة على الخضوع لفئة محددة فيها ومتابعة اجتهادها إلا إذا تحول اجتهاد تلك الفئة إلى اجتهاد للأمة عبر الشورى وإقرار العلماء المعتبرين لذلك الاجتهاد.

ومن أهم متطلبات آلية الحوار ووضعها قيد التنفيذ أن يتطوع لأجل تحقيقها ورعايتها ثلة من علماء الأمة ورجالها المشهود لهم بالعدالة والتاريخ في خدمة مصالح الأمة وفق منهجية ومشروع يستهدف إصلاح ذات البين وتوفير بيئة الحوار والشورى والتواصل بين فرقاء الساحات الثورية المختلفة وليكن البدء بالساحة السورية، بشرط أن يتوفر لهؤلاء المتطوعين الاستقلال عن الجماعات وأن لا يستهدفوا من عملهم إضافة جماعة جديدة منافسة وأن لا يتطلعوا لقيادة وإمارة.

وهناك مشروع مبدئي في هذا الشأن عنونته بمشروع وأصلحوا ذات بينكم يمكن الرجوع إليه في هذا الرابط:

https://docs.google.com/file/d/0BzAPzf_E2o1kTGZKR2NpaTJPOU0/preview?pli=1

الاستراتيجية الثانية: دعم العلماء والخبراء والمستشارين من عموم الأمة للساحات الثورية.

حيث ثبت بأن قيادات الثورة الميدانيين لا يتيح لهم انشغالهم القيام بالمهام العلمية والاستشارية علاوة على سعة الاستشارات المطلوبة والمتصاعدة للميادين المختلفة شرعية كانت أم عسكرية أم سياسية وتنظيمية وغيرها.

كما ثبت بأن آلية الجماعات وانغلاق مساراتها ومحدودية استيعابها للموارد البشرية في الأمة واضطرارها للخضوع إلى نظام الأقدمية في تقديم قياداتها فإن كل ذلك أدى إلى سلبيتين متوازيتين، السلبية الأولى: محدودية القابلية التخصصية والاستشارية لدى قيادات الجماعات، والسلبية الثانية: بقاء الخبراء بعيدون عن الساحات المؤثرة والساحات الثورية على وجه الخصوص، مما يقتضي تشبيك هؤلاء الخبراء وفي كافة التخصصات حتى يخدموا الساحات الثورية بشرط أن يتمتعوا بتاريخ من الولاء للأمة وخدمة مصالحها.

وفي نموذج الثورة السورية يمكن أن يرتبط هؤلاء الخبراء بشكل مباشر وغير مباشر بالساحة، فالذين يقبلون الارتباط بشكل مباشر يلتزمون بغرف عمليات استشارية فردية وجماعية ويعكسون خبراتهم مباشرة، والذي يقبلون الارتباط بشكل غير مباشر فإنه يتم تشبيكهم عبر مراكز البحوث والدراسات وعبر الروابط العلمية المتخصصة لكي يخدموا الساحة الثورية بخبراتهم ومن خلال الأدوات والبرامج العلمية المختلفة من دراسات وندوات وغير ذلك.

الاستراتيجية الثالثة: قيام العلماء والخبراء والمستشارين في الأمة بالإجابة العلمية المُحَقَّــقه والعاجلة والمستوفية لشروط البحث والاجتهاد في النوازل الكبرى التي تهدد الساحات الثورية والساحة السورية على وجه الخصوص والتي بات الاختلاف عليها يقود إلى تنازع تام فهي تهدد مكتسبات الجهاد والتضحيات الجسام التي بذلها السوريون ومن شاركهم من أبناء الأمة، ومن أهم تلك القضايا القائمة التالية (القائمة قابلة للتعديل والتحسين والإضافة)

القضية الأولى: تحديد ملامح المشروع الذي تسعى إليه الأمة وتحديد ثوابت ذلك المشروع الذي يمثل عقيدة الأمة ومصالحها العليا وهي تواجه مشاريع تداعي الأمم بحيث تصبح تلك الثوابت في حال الوقوف عليها مؤشرات أداء عام لكل مكونات الأمة في الساحة الدعوية والساحة السياسية الفكرية والساحة الجهادية.

القضية الثانية: تحديد أبعاد ومفهوم المشروع السياسي للأمة من حيث:

  1. أصوله الشرعية التي يقوم عليها
  2. وتحديد نموذجه بين النماذج الثلاث التي عرفتها الأمة
  3. وهي الخلافة الراشدة والملك العضوض والملك الجبري
  4. وتحديد علاقته بالمسيرة الجهادية في الأمة
  5. وتحديد علاقته بإدارة الصراع مع مشاريع تداعي الأمم
  6. وتحديد مراحل تطبيقه الزمنية والجغرافية
  7. وكيفية مشاركة مكونات الأمة فيه وحقوقها في ظله
  8. والسياسات الشرعية التي سوف يلتزم بها قبل تطبيقه وأثناء تطبيقه
  9. وتفكيك الإشكالات التي نشأت في المفاهيم المرتبطة به كمفهوم السيادة ومفهوم السلطة ومفهوم الحرية ومفهوم التعددية ومفهوم فصل السلطات ومفهوم الشورى ومفهوم أهل الحل والعقد ومفهوم ومفهوم الشعب ومفهوم العرفاء في الأمة ومفهوم الدستور ومفهوم المواطنة وغيرها من المفاهيم.

القضية الثالثة: بلورة المشروع السياسي والجهادي الذي ينبغي أن يُعتمد في إدارة الساحات الثورية من حيث الرؤية الاستراتيجية في الصراع وعلاقة الأداء السياسي بالأداء الجهادي وهيكليته الإدارية ودور مختلف المكونات والشرائح فيه، والقيادة العسكرية والأمنية وكيفية ممارسة الشورى، والقضاء والإدارة المدنية والإغاثية والإصلاح وفض المنازعات..الخ.

القضية الرابعة: تحديد الرؤية والضوابط التي تحكم علاقة الأمة ومكوناتها بالنظم السياسية التي تحكمها منذ مائة عام والوقوف على الشروط الدنيا والتي لا بد أن تتحقق في قيام تلك النظم بمتطلبات المصالح العليا للأمة والحفاظ على حُرُماتها، وهل لا يزال في هامش تلك النظم ما يمكن التعويل عليه لحفظ الحُرُمات، والتفريق بين أحكام الضرورة وضوابطها في التعامل مع تلك النُّظُم، وكيف يمكن للأمة أن تولد مسارات مرجعية تتجاوز بها تلك النظم وتحد من أثرها السلبي الذي يصب في صالح أعداء الأمة؟

القضية الخامسة: تحديد الرؤية والضوابط التي تحكم علاقة الأمة ومكوناتها بالنظام الدولي ومفرداته بين المعسكر الشرقي والغربي والنظام الإقليمي وتحديد الآليات التي ينبغي أن تسلكها الأمة في إيقاف فساده وتعديه على حُرُماتها، وتحديد أحكام الضرورة وضوابطها في التعامل مع مفردات ذلك النظام، وتحديد طبيعة الخطاب الدعوي والحضاري الذي ينبغي أن توجهه الأمة لشعوب العالم متجاوزة الطغاة الذي يحكمون تلك الشعوب.

القضية السادسة: كيف يمكن للساحات الثورية وقيادات الأمة السياسية والفكرية والجهادية أن تتحرك على التوظيف المعاكس للفوضى والتي تسعى أمريكا بدورها أن تستخدمها في إرباك أداء الامة الكلي، وما هي نظريات المكر والدهاء وتركيب المكونات البشرية والجغرافية والاجتهادية في الأمة لكي تلعب أدوارا منسقة ومتكاملة في ظل الدهاء والمكر الذي ينبغي أن يُوظف في الحرب المسلطة على الأمة.

القضية السابعة: كيف يمكن لقيادات الأمة العلمية الشرعية والفكرية والسياسية أن تتعامل مع مستوى التعقيد البالغ في الصراع بين المستوى الفكري والسياسي والاستراتيجي والعسكري من حيث تحديث التصورات عن أداء مشاريع تداعي الأمم ومن حيث ضبط المسيرة الكلية للأمة بغية تحقيق أفضل مستوى من التكافؤ في الصراع مع قادة المشاريع الأممية والتخفيف من الخسائر والفقد في الأمة.

الاستراتيجية الرابعة: على الداعمين للساحات الثورية وخصوصا الساحة السورية أن يعملوا على تركيز جهودهم في المسارات التالية :إدارة الأزمات وتبادل المعلومات وتأهيل القيادات، وذلك بما يتناسب وطبيعة المعركة والصراع وما يوظفه الأعداء من نظريات وعلوم حديثة، وبما تتطلبه سعة المعركة العالمية المفروضة على الأمة وخصوصا في ساحات الثورة العربية، على أن تعمل هذه الاستراتيجية باتجاهين، أما الاتجاه الأول فهو نفع القيادات الميدانية وتزويدهم بالمعلومات ومدهم بالخبرات في مجال إدارة الأزمات وكيفية مواجهة عولمة الصراع واستخدام مشاريع تداعي الأمم لهذا العلم التطبيقي، والوقوف أولا بأول على تطور الصراع بين مكونات النظام الدولي، وضرورة استثمار التواصل الجغرافي بين الساحات الثورية المتجاورة، وتشبيك القيادات الميدانية في الساحات الثورية المختلفة، وأما الاتجاه الثاني فهو في مجال إعداد القيادات الشبابية الجديدة على هذه الفنون والعلوم المتقدمة في الصراع وتأهيلهم بما يتناسب واشتداد المعركة ومتطلباتها.

الاستراتيجية الخامسة: استصحاب الرأي العام في الأمة والروح الجمعية لها في الرقابة على أداء الجماعات وخصوصا في الساحات الثورية، واستغلال شبكات التواصل العالمية في هذا الاستصحاب عبر نقل الأحداث والحقائق أولا بأول، ووضع مدونة وميثاق بمعايير الأداء الكلي في الأمة بحيث تقوم تلك المعايير بعملية تقريب تصورات شرائح الأمة المختلفة وجعلها تقترب من صورة ذهنية واحدة في القضايا المختلفة، وعبر تشبيك رموز الأمة المتوافقين على رؤية واحدة من العلماء والمفكرين والقادة الميدانيين والمستشارين وتقدمهم للحديث والتعليق في القضايا والأحداث الكبرى.

والله تعالى أعلم،،،

 

 

مجلة مؤتمر الأمة

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع