مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 9012
شـــــارك المادة
ملاحظة استباقية: كتبت القسم الأكبر قبل أيام من وقوع مجزرة حماة، وقبل اقتحام جسر الشغور، وقد تغيرت بعض معطيات المقالة بسبب تلك التطورات، لكني آثرت تركها كما هي لأن القصد منها ليس الإحصاء والتأريخ بل الدراسة والتقويم. منذ بداية ثورة سوريا المباركة وأنا أتابع أحداثها متابعة مركزة، فإني لمّا رأيت أبطالها على الأرض يَهَبونها أنفسَهم استحييت منهم ومن نفسي ومن الله، فقررت أن أهبها وقتي واهتمامي، وذلك غايةُ الوسع لمن حُرم المشاركةَ على الأرض. أنا أتابع خمس صفحات رئيسية من صفحات الثورة متابعة متصلة على مدار اليوم، وأتابع متابعة متقطعة نحو خمسين صفحة أخرى، وأقرأ أكثر ما يُنشَر عن الثورة من مقالات وتحليلات، وأنا أشاهد أكثر ما يُرفَع على الشبكة من مقاطع مصوَّرة… لا أصنع كل ذلك من أجل المتعة -وإن كان في أكثره ما يثلج الصدر، ويرفع المعنويات بحمد الله-، بقدر ما أصنعه لأفهم الأحداث، ولأستوعب خطة العدو، ولأحاول أن أخدم ثورتنا المباركة بما أستطيع من الرأي والتفكير. بعد كل تلك المتابعة، وبعدما شاهدت ودرست مئات المظاهرات منذ انفجار الثورة قبل خمسة وسبعين يوماً، وصلت إلى فهم لا بأس به لسلوك النظام وأجهزته الأمنية في مواجهة الثورة وقمع المظاهرات، وأحببت أن أشارككم به في هذه الرسائل، فأرجو أن تصبروا عليها ولو طالت، وأن تضحّوا ببعض الوقت لقراءتها كما ضحيت أنا ببعضه لكتابتها. وسوف أفرد مقالات صغيرة لاحقة لتقديم ما أسميه "أفكاراً ومقترحات" لإخواننا الصابرين المرابطين على أرض المعركة -وهذه الرسالة وما بعدها موجهة إليهم على وجه الخصوص-. بالمتابعة المستمرة وجدت أن للأجهزة الأمنية السورية نهجاً مطّرداً في قمع المظاهرات لا يصعب اقتفاء أثره، وسوف ألخصه في نقاط محددة -هي كذلك اليوم، لكن لا يوجد ما يضمن أن لا يغير النظام سلوكه بشأنها في المستقبل. (1) الإستراتيجية التي تعتمدها الأجهزة الأمنية تعتمد على: (أ) محاولة منع المظاهرات من الأصل، فتعتقل مَن تظنهم مدبّرين أو منسّقين للمظاهرات، وتحاصر الجوامع الرئيسية لمنع انطلاق المظاهرات منها، وتنشر الأمن والشبيحة في المواقع الرئيسية في المدن. (ب) إذا بدأت أي مظاهرة فالخطة هي تفريقها بأسرع ما يمكن قبل أن تقطع شوطاً على الأرض وتبدأ بالتضخم. (ج) لا يكفي تفريق المظاهرة بل يجب اعتقال عدد من المشاركين فيها لاقتفاء أثرها ومحاولة فك أحجية المظاهرات: كيف تبدأ؟ ومن يقف وراءها؟ -هذه النقطة سأبحثها بالتفصيل في رسالة قادمة بعنوان: سياسة الاعتقال والتعذيب-. (2) الأجهزة الأمنية القمعية لا تسعى إلى إفناء المتظاهرين ولا إلى ارتكاب مجازر جماعية؛ ليس لأنها تحب المتظاهرين وتعطف عليهم، ولا لأنها تراعي فيهم الذمة والدين، فهي لا تعرف الله فضلاً عن أن تخشاه، بل خوفاً من إثارة المجتمع الدولي لو أنها أقدمت على مجازر من هذا النوع. فاشكروا الهواتف المحمولة التي أتاحت لكم تصوير الأحداث وشبكةَ الإنترنت التي أتاحت لكم نشرها على العالم. (3) الآلية المعتمَدة لتفريق المظاهرات هي القتل. في مصر واليمن وبقية البلدان لاحظنا استعمالاً واسعاً للقنابل المسيلة للدموع وللمياه الساخنة، وهي تكاد تكون معدومة في سوريا، وكذلك الرصاص المطاطي. الخيار السوري هو الرصاص الحي، ولكن الرصاص الحي لا يعني مجازر واسعة بالضرورة. وهنا نصل إلى أهم نقطة في الموضوع، وهي التي كتبت المقالة من أجلها أصلاً، وسأتوسع في بيانها والتعقيب عليها. إذا كانت الأجهزة الأمنية لا تريد ارتكاب مجازر فماذا تفعل إذن؟ لاحظوا أن أكثر الشهداء الذين يسقطون في المظاهرات يُغتالون قنصاً برصاص القنّاصة المزروعين على الأبنية المرتفعة ولا يموتون بالرشّ أو بالرصاص المباشر الذي يطلقه مجرمو الأمن المنتشرون على الأرض. هل تذكرون الخبر الذي نشرته صفحات الثورة في الأيام الأولى من الانتفاضة، خبراً يقول: إن الجيش السوري أمر باستدعاء جنود الاحتياط تخصص قنّاصة! ربما نسيتم ذلك الخبر أو أنكم لم تنتبهوا إليه أصلاً؛ لأنه نُشر في ركن صغير من الصفحات المزدحمة بالأخبار، لكني أنا ما نسيته، وأظن أن أجهزة الأمن قررت خطة المواجهة منذ ذلك اليوم التصدي للمظاهرات بالقنّاصات. لكن القناصات أقل فاعلية من المواجهة المباشرة على الأرض بالرشاشات، فلماذا اختاروها؟ دعوني أخمّن؛ ثورتنا المباركة بدأت بعد الثورة الليبية بشهر كامل، وقد أتاحت بداياتُ الثورة الليبية فرصةً لأجهزتنا الأمنية لدراسة الواقعة واستخلاص الدروس. الكتائب القذافية بدأت منذ الأيام الأولى بالتصدي للمظاهرات بالرش، ليس رشاً بالرشاشات الخفيفة فقط -(6-8 ملم)-، بل بمضادات الطائرات أيضاً -(12-15 ملم)-، بل إنها استعملت رشاشات الطائرات العمودية لقصف المتظاهرين في العاصمة طرابلس، فسقط الشهداء مئات وراء مئات، وصارت المواجهات مذابحَ حقيقية، ومع ذلك لم يتوقف المتظاهرون. إن طاقة الإنسان الغاضب تصنع الأعاجيب إذا تفجرت، وقد أوصلت المواجهاتُ الدامية الناسَ إلى اليأس، واليائس والمجنون يتصرفان كلاهما بلا عقل، وهكذا رأينا المدنيين العزّل يهجمون على الثكنة العسكرية في بنغازي ويقتحمونها بلا سلاح… القصف بنيران الرشاشات الحية لم يوقف الناس، ولكنه فتح على النظام أبوابَ المواجهة مع العالم. ربما في تلك اللحظة قرر نظامنا أن لا يوصل نفسه إلى المصير ذاته، وأن يعتمد على قَدْر من العنف يكفي لإرعاب المتظاهرين الغاضبين وإعادتهم إلى بيوتهم، ولكنه لا يكفي لتثوير العالم الخارجي ومنحه ذريعة للتدخل العسكري في سوريا. القنص يقدم حلاً وسطاً، فهو يوفر بيئة من الرعب؛ لأن المشارك في المظاهرة لا يبصر غريمه ولا يستطيع أن يتخيل من أين ستأتيه الرصاصة القاتلة، ومن ناحية أخرى يستطيع الجهاز الأمني أن يتنصل من الجريمة لأن القاتلَ غيرُ مَرئي. وهكذا وُلد جهاز جديد لمكافحة المظاهرات قوامه كتائب القنّاصين الذين تزرعهم أجهزة الأمن على الأبنية العالية في المسارات المحتمَلة للمظاهرات. على أن التجربة الليبية لم تكن المُلهمة الوحيدة للنظام السوري، فقد درس أيضاً التجربتين المصرية والتونسية بعناية، وانتقد المسؤولون الأمنيون السوريون -علناً- نظراءهم المصريين والتونسيين، وقالوا رأيهم الصريح: إنما تفاقمت الانتفاضة المصرية وازدادت انتشاراً لأن الأمن المصري لم يستعمل معها العنف الكامل منذ البداية، بل ازدادت درجة عنفه مع تصاعد قوة الانتفاضة ففقد السيطرة عليها، والأمر نفسه حصل في تونس، ولو استعمل جهازُ الأمن القوةَ الكاملة منذ البداية لانتهت الانتفاضة بسرعة. إذن؛ فقد درس النظام السوري تجارب السابقين بعناية، وحدد منهجه في التصدي للانتفاضة الشعبية في سوريا، منهجاً يعتمد على العنف كخيار أساسي، مع ملاحظة أن سقف العنف المسموح به لقمع الانتفاضة قد رفعته التجربةُ المصرية والتونسية وخفضته التجربةُ الليبية، فصارت حركة النظام السوري في مستوى متوسط بين السقفين، وبقيت في ذلك المستوى طول الوقت. هذه نقطة مهمة جداً وأرجو أن تفهموها تماماً، وسوف أفيض في شرحها هنا، وسأعتمد عليها كثيراً فيما بعد. لو أرادت الأجهزة الأمنية أن تتصدى للمظاهرات بعنف مفتوح -بلا أي سقف-، فكل ما تحتاج إليه هو بضعة قناصين، ثلاثة أو خمسة مثلاً، تزرعهم على بعض الأبنية المرتفعة في مسار المظاهرات المعروف، ومع كل قناص صندوقُ طلقات فيه مئة طلقة وتموينٌ من الشطائر والشاي الساخن والعصير البارد، وتقول له: ثبِّتْ قناصتك هنا، وفرّغ كل الرصاصات في رؤوس المتظاهرين، وفي تلك الأثناء كل واشرب كما تشاء، وسوف نعود لأخذك بعد الغروب! وهكذا يمكن أن يسقط في كل مظاهرة مئة شهيد أو مئات؛ لأن المتظاهرين يركضون بعد أول إطلاق نار ذات اليمين وذات الشمال في مرمى القنّاصة، بل إن بعضهم يسقط جريحاً ويبقى على الأرض وقتاً يكفي لقتله في مكانه، ومع ذلك لم يُقتَل الجرحى على الأرض إلا في حالات معدودة. وقد لاحظت في مظاهراتنا أمراً غريباً، لاحظت دائماً أن للقناصة حدوداً واضحة، أو لنقل إن لهم "سقفاً" لا يكادون يتجاوزونه، وكأنها "حصصُ قتل مسموحٌ بها" في كل مدينة. مثلاً: من الواضح أن هذه الحصة تساوي صفراً في كل مناطق الأكراد، فلم يسقط -بحمد الله- أي شهيد في القامشلي وعامودا والدرباسية ورأس العين وعين العرب وعفرين وحي ركن الدين في دمشق في خمسة وسبعين يوماً خلت، رغم أن إخوتنا الأكراد شاركوا في الانتفاضة بفعالية منذ أيامها الأولى. لهذا الأمر مغزى عميق، فالنظام لا يحب الأكراد، ولطالما أذاقهم من شرّه وبأسه في الماضي، لكنه قرر اليوم تحييدهم أو تأجيل المواجهة معهم إلى وقت أنسب، وعندما يأكل الثورَ الأبيض -حسب ظنه الخائب بأمر الله- سيعود إلى بقية الثيران! السلَمية لها وضع مشابه، فانتفاضتها كانت مشرِّفة جداً من أوائل أيام الثورة وإلى الآن، ومع ذلك لم يسقط فيها أي شهيد، والمغزى أيضاً مفهوم في هذه الحالة. وأيضاً حلب رغم أن المظاهرات تتزايد فيها باضطراد منذ بضعة أسابيع، وكذلك حي الميدان في دمشق الذي صار من بؤر المظاهرات الكبيرة منذ شهرين، ولم تزد درجة العنف في التصدي لمظاهراته على الغازات والهراوات والاعتقالات. حماة ومحافظة دير الزور لهما حصة منخفضة جداً، والمغزى أيضاً واضح، فالنظام لا يريد المغامرة بفتح حرب مع عشائر الفرات من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تجاربه القديمة تحذره بقوة: إياك أن تُخرج الحموية من القمقم، فإنهم إذا خرجوا لا يعودون! مع ذلك خرج أبطال حماة من القمقم وباتوا يشكلون صداعاً كبيراً للنظام، وانفجر البركان الديري بالغضب، ولو كان في جيبي مئة مليون ليرة لراهنت بها على أن النظام وضع خطة لضرب حماة والدير ضربة قاصمة حالما يتفرغ لهما وينتهي من حمص وحوران والرستن والمعرة وبقية المناطق. ومرة أخرى أقول -حسب ظنه الخائب بأمر الله-: راقبوا مظاهرات حماة ودير الزور، وسوف تلاحظون أنه لن يصعّد المواجهة فيهما ما دام مشغولاً بغيرهما من مناطق سوريا، وهذا يؤكد على أن المصلحة الحقيقية لدير الزور ولحماة -ولكل مناطق سوريا على التحقيق- هي في المشاركة الفاعلة في الثورة، ودعم المناطق المنكوبة والمحاصرة بلا حدود حتى لا ينفرد النظام بأي منطقة في المستقبل لا قدّر الله. أين تتوزع الحصص الكبيرة إذن؟ سأسرد عليكم بعض الإحصاءات المفيدة، وقد استخلصتها من التقرير الذي نشرته اللجنة السورية لحقوق الإنسان من نحو أسبوع، ويضم أسماء (1158) شهيداً سقطوا حتى الحادي والعشرين من أيار. فيما يلي أسماء بعض المواقع الرئيسية وأعداد شهدائها، مع ملاحظة أنني حرصت على تسجيل الشهيد -كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً- في موقع سقوطه وليس بحسب محل إقامته؛ لأن الذي يهمنا معرفته هو حجم التصدي للثورة في كل موقع من المواقع على حدة: درعا (190)، حمص (179)، اللاذقية (56)، دمشق (50)، دوما (43)، إزرع (39)، الرستن (33)، إنخل (29)، الصنمين (25)، الحارّة (24)، جبلة (24)، حماة (21)، جاسم (19)، تلبيسة (16)، الطيبة (14)، المسيفرة (12)، الحراك (12)، بانياس (12)، داعل (11)، نوى (11)، طفس (10)، تلكلخ (10)، معرة النعمان (10)، شيخ مسكين (10)، دير الزور (9). ملاحظات على الإحصاء السابق: أ) قد لا تكون الأعداد السابقة دقيقة مئة بالمائة؛ لأن بعض الشهداء سُجِّلوا على أسماء مدنهم لا في موقع الشهادة، ولكن الإحصاء صحيح إلى درجة يمكن الاعتماد عليه في هذه الدراسة. حالياً سأحذف المدن التي تعرضت لمجازر كبيرة لأنها خارج السياق -وسوف أتحدث عنها في فقرة لاحقة-، وهي الصنمين وإزرع والرستن وتلبيسة، وأركز على المواقع المتبقية. المواقع التي لها حصص مرتفعة نسبياً: درعا (27 شهيداً أسبوعياً)، وحمص (20)، وبعدهما بفارق كبير: اللاذقية (6) ودمشق (6) ودوما (5). المواقع الباقية حصتها الأسبوعية (3) أو أقل. ب) من المهم ملاحظة أن شهداء درعا أكثر مما ورد أعلاه؛ لأن كثيراً من شهداء مدن وقرى حوران يمكن ضمهم إلى شهداء درعا بحكم أنهم استُشهدوا فيها، لكن الإحصاءات لم تهتم دائماً بموقع سقوط الشهيد بقدر اهتمامها بالمدينة التي ينتمي إليها، ولو اهتمت بمحل الواقعة لوجدنا أن عدداً كبيراً من شهداء الحارّة والمسيفرة والطيبة وعتمان -مثلاً- قد سقطوا في درعا نفسها، إما أثناء مشاركتهم في مظاهراتها قبل حصارها، أو في مجزرة فك الحصار على جسر صيدا في جمعة الغضب (29/ نيسان). ج) لن أتعامل مع شهداء دمشق كوحدة كاملة مستقلة، بل كمجموعة من المناطق المختلفة؛ لأن الحملة الأمنية للنظام تتعامل معهم كذلك، ويمكننا -للحصول على نتائج جيدة- تقسيم الشهداء على المناطق: المعضمية (18)، برزة (15)، القابون (7)، الحجر الأسود (7)، الزبلطاني (3)، الميدان (صفر). وسوف أتحدث عن دمشق بتفصيل أكثر في مقالة لاحقة -بإذن الله-. د) حصيلة الشهداء لا تتوزع بالتساوي على أيام الأسبوع، بل تتركز غالباً في يوم الجمعة الذي يشهد أكبر المظاهرات، وأيضاً لا تتوزع بالتساوي على أيام الجمعة التسعة التي يشملها الإحصاء، فقد ارتفعت كثيراً في جمعة الشهداء (1/4)، والجمعة العظيمة (22/4)، وكانت منخفضة نسبياً في جمعة الصمود (8/4)، وجمعة الحرائر (13/5)، ولكن هذا التفاوت لن يؤثر على النتيجة التي أريد الوصول إليها. وتبقى الملاحظة الأهم وهي أن نسبة الإصابات بين المناطق متشابهة في أكثر الأسابيع، أي أن عدد الشهداء في درعا يكون غالباً أكثر قليلاً من عدد شهداء حمص، وهو غالباً أربعة أضعاف شهداء اللاذقية، وخمسة أضعاف شهداء دوما... إلخ. النتائج: (1) الخيار الذي اعتمدته الأجهزة الأمنية في تصديها للمظاهرات منذ بداية الانتفاضة وحتى اليوم هو مواجهتها بالقنص من بعيد وليس بالنار المباشرة من عناصر الأمن على الأرض. التفسير: سقوط بعض المشاركين في أي مظاهرة بنيران القناصة -مهما كان العدد قليلاً- يبث الذعر في قلوب المشاركين ويتسبب في انهيار المظاهرة الفوري وتفرق المتظاهرين، ويسهّل على القوات الأرضية -من أمن وشبيحة- ملاحقة بعض المتظاهرين واعتقالهم فردياً بعد تفكك كتلة المظاهرة الرئيسية، وفي حالة وجود إصابات غير قاتلة فإن تشتت المتظاهرين وانسحابهم المفاجئ تاركين جرحاهم على الأرض يتيح الفرصة للأمن لسحب المصابين أو بعضهم على الأقل. (2) رغم أن القنص يمكن أن يوقع المئات من القتلى في كل مظاهرة إلا أن ذلك لا يحدث، مما يوحي بأن الأجهزة الأمنية تتحرك تحت سقف محدد. التفسير: يخضع هذا السلوك لقانون "المنفعة الحدّية" الذي تعلمناه في المدارس، حيث تحتاج أجهزة الأمن إلى حد أدنى من الإصابات لتحقيق أهدافها في تفريق المظاهرة آنياً، وتخويف الناس من المشاركة في غيرها مستقبلاً، ولا بأس بعدد أكثر قليلاً لضمان تحقيق تلك الأهداف، لكن منحنى الفائدة يسقط للجهة الأخرى بعد مزيد من القتل، حيث تتجمد الفائدة المرجوة لأنها بلغت حدها الأقصى ويبدأ الأثر السلبي بالتصاعد الصاروخي، والمقصود هنا هو تأثر الرأي العام العالمي بعنف السلطة الزائد بشكل يضر النظام أكثر مما يفيده. (3) النظام يتجنب -متعمِّداً- الضغطَ على مواقع معينة رغم أنها تمثل بؤرَ ثورة نشيطةً جداً؛ كالقامشلي ودير الزور وحماة والسلمية، وكحي الميدان في دمشق. ومن الواضح أن هذا السلوك ليس اعتباطياً أبداً. مواقع معينة رغم أنها تمثل بؤر. التفسير: لا يستطيع النظام فتح كل جبهات سوريا ضده في وقت واحد وليس هذا من مصلحته، لذلك قسم حملته إلى مراحل، الأولى منها استهدفت "أسخن" بؤرتين من بؤر الثورة (حوران، وحمص) على أمل الانتهاء منهما ثم الانتقال إلى المواقع الأخرى وهكذا.. فلو أن المناطق المنكوبة حالياً خضعت خضوعاً نهائياً -لا سمح الله- فلا بدّ أن يبدأ النظام بحملة قاسية على المناطق الثائرة الأخرى، وقد تكون من أولوياته حماة والقامشلي، وهذا يؤكد لنا أن مصلحة كل المناطق هي أن تستمر في الضغط والثورة وأن تقاوم الاستسلام، لأنها سوف تستمد قدرتها على الصمود من صبرها واجتماعها على الثورة. (4) الإصابات لا تتناسب بالضرورة مع أحجام المظاهرات وحدّتها، بل يبدو أن ترتيب المواقع المختلفة في سلّم "حصص القتل" يخضع لاعتبارات أخرى. التفسير: يبدو الأمر وكأن الأجهزة الأمنية صنّفت المواقع في عدة تصنيفات؛ بين مواقع ساخنة جداً قابلة للانتشار، ومواقع ساخنة وأقل قابلية للانتشار، ومواقع ذات أولوية في الضرب، ومواقع يمكن تأجيل ضربها -لمبررات معينة تراها القيادة الأمنية للنظام-… وكما رأينا في النقطة السابقة فيبدو واضحاً أنه يؤجّل بعض المناطق الصعبة على أمل الانتهاء مما يصدع رأسه حالياً والتفرغ لها بعد ذلك. وقد بدا واضحاً منذ البداية أن الثورة اشتعلت بصورة إعصارية في درعا وحمص، فانتشرت من درعا إلى بقية مناطق حوران، ومن مدينة حمص إلى عموم محافظة حمص، فاعتبرهما النظام هدفاً مستعجَلاً وركز عليهما التركيز الأكبر، دوماً شكلت هدفاً مهماً أيضاً -وإن كان بدرجة أقل-؛ لأنها ثارت ثورة كبيرة وبدأت عدوى الثورة بالانتقال السريع منها إلى قرى الغوطة المحيطة بها، حرستا وزملكا وكفربطنا وعربين وحمورية. إذا كان هذا التحليل صحيحاً فقد تكون الضربة الكبيرة القادمة هي لإدلب وقراها، لأنها تحولت مؤخراً إلى "جمهورية مظاهرات" تزداد رقعتها انتشاراً يوماً بعد يوم، ولعل الحملة الأخيرة على معرة النعمان مقدمة لحملة واسعة شاملة على المحافظة كلها -لا سمح الله-. (5) ما سبق هو السياسة العامة التي يتّبعها النظام في قمع المظاهرات، وهو سمة شبه عامة فيها كلها، رغم أننا شاهدنا بعض الاستثناءات التي ووجهت فيها المظاهرات بالنيران الحية على الأرض، وتسببت في مجازر كبيرة، أشدها -حتى الآن- هي مجزرة الصنمين(25/3)، ومجزرة إزرع (22/4)، ومجزرة فك الحصار عن درعا (29/4)، ومجزرة المسطومة (20/5). التفسير: يبدو أن النظام يحاول تجنب المواجهة الشاملة، ويفضل التمسك بخطته الأصلية، أعني تفريق المظاهرات بالقتل المحدود بواسطة القناصات. لم أستطع فهم الأسباب التي دعته إلى استخدام الرصاص الحي على الأرض بدلاً من القتل بالقنص في المجازر الاستثنائية التي أشرت إليها قبل قليل، ما عدا مجزرة جسر صيدا في محاولة فك الحصار عن درعا، فقد وصلتُ إلى يقين -من جمع كثير من الأخبار- أن الأوامر كانت صارمة في ذلك اليوم بالذات وصادرة عن أعلى مستويات القيادة الأمنية في النظام بمنع اقتحام الطوق على درعا وإفشال أي محاولة لكسر الحصار مهما تكن النتائج -سأناقش (بإذن الله) أبعاد هذه المسألة في رسالة قادمة بعنوان: سياسة الحصار والاقتحام-. بالمقابل أميل إلى الظن بأن مجزرة الصنمين كانت بتصرف فردي أو بنزوة إجرامية من شخص محدد له صلاحيات أمنية واسعة ولم تكن جزءاً من السياسة الأمنية العامة لقمع المظاهرات، وأذكّركم بأن بعض صفحات الثورة قد نشرت صورة المسؤول الأمني المذكور قبل نحو أسبوعين، وطلبت تحديد هويته ممن له علم، ولم أعلم أن هويته حُدِّدَت حتى اللحظة. أيضاً أميل إلى تفسير مجزرة المسطومة على أنها حادثة فردية بقرار من مسؤول ميداني خارج السياق العام، وقد علمنا أن المسؤولية فيها محصورة تماماً بمعسكر الطلائع الذي فُتحت من داخله النار على المظاهرة حينما مرّت أمامه، رغم أنها عبرت قبل ذلك أمام حواجز للجيش بسلام وبلا أي إطلاق نار. لا أملك تفسيراً لبقية المجازر الفردية –إزرع، وشيخ مسكين، وبعض الحوادث الأصغر التي جرى فيها إطلاق نار على المظاهرات-، لكن المهم أنها تبقى حالات نادرة نسبياً من مجموع المظاهرات، فلو أنكم فكرتم في عدد المظاهرات التي خرجت في جميع أنحاء سوريا خلال الأسابيع العشرة الماضية فسوف تجدونها بالآلاف، ومع ذلك فلم تواجَه منها بالرصاص الحي على الأرض إلاّ عشرُ مظاهرات أو بضع عشرة مظاهرة -أي بنسبة أقل من واحد بالمائة-، مقابل عدة مئات وُوجهت برصاص القناصة. أما العدد الكبير من الشهداء الذين سقطوا في حالات اقتحام المدن –الرستن، وتلبيسة، وتلكلخ، وعدد من مدن وقرى حوران- فخارج سياق هذه المقالة، وستأتي مناقشته في حلقة "سياسة الحصار والاقتحام" التي ستأتي ضمن هذه الرسائل قريباً -بإذن الله-. الخلاصة التي نخرج بها من هذه الرسالة هي: إن الإستراتيجية الكبرى التي يعتمدها النظام للخروج من أزمته هي التخويف، وأعظم أسلحته ليس الرصاص الحي الذي يغتال به بعض المتظاهرين، ولا الدبابات التي يحاصر بها المدن، بل هو الخوف الذي يريد أن يقذفه في قلوب الجماهير الثائرة واليأس الذي يريد أن يوصلهم إليه، بحيث يتوقفون تلقائياً عن ثورتهم ويعودون إلى بيوتهم دون اضطراره إلى حلول جراحية سوف تنهي وجوده لو لجأ إليها حسب شروط اللعبة الدولية التي يفهمهما جيداً، وسوف تتضح الصورة بشكل أفضل مع استكمال البحث في الحلقات التالية التي آمل أن أوافيكم بها مسلسَلَة خلال الأيام القادمة -بإذن الله-. إذا فهمنا هذه الخلاصةَ واستوعبنا تماماً خطةَ النظام فسوف نعرف أن أعظم رد عليها وأفضل طريقة لإفشالها هي أن يشجّع الواحدُ منا نفسَه ويشجع الآخرين، ولنتذكر على الدوام: إننا نقهر النظام المجرم وآلته القمعية كلما قهرنا الخوف في قلوبنا وقلوب كل من يحيط بنا من أهل وأصدقاء، ونُفشل خططه حينما ننزع من النفوس اليأس ونزرع فيها الأمل.
صفحة أيام الحرية
نورس للدراسات
أبو عبد الله عثمان
سعد العثمان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة