..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

النبي القدوة(1) رسول الله قائداً عسكرياً

أكرم الحميدي

٥ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7656

النبي القدوة(1) رسول الله قائداً عسكرياً
خطباء الشام00.jpg

شـــــارك المادة

مقدمة:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عجيبة من عجائب الكون، وآية من آيات الله، -وتدبروا معي هذا التأصيل الذي لابد منه- فهو رسول يتلقى الوحي من السماء ليربط الأرض بالسماء بأعظم رباط وأشرف صلة،
وهو رجل سياسة، يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق،
وهو رجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش بنفسه، بل إذا حمي الوَطِيْسُ واشتدت المعارك وفر الأبطال والشجعان، وقف على ظهر دابته لينادي على الجمع بأعلى صوته ويقول:
(أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)
وهو رب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثير من النفقات من نفقات الوقت والفكر والتربية والشعور، فضلاً عن النفقات المادية، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدور على أعلى وأثم وجه شهدته الأرض وعرفه التاريخ.
وهو صلى الله عليه وسلم رجل إنساني من طراز فريد كأنه ما خلق في الأرض إلا ليمسح دموع البائسين، وليضمد جراح المجروحين، وليذهب آلام البائسين المتألمين.
وهو رجل عبادة قام بين يدي الله حتى تورمت قدماه، فلما قيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال قولته الجميلة: (أفلا أكون عبداً شكوراً).
هو رجل دعوة أخذت عرقه ووقته وفكره وروحه، قال له ربه:
(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنذِرْ) [المدثر:1-2]، فقام ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه جل وعلا،
فرسول الله صلى الله عليه وسلم.. ما تعلقت به قلوب أصحابه إلا لأنه قدوة، ما أمرهم بأمر إلا وكان أول المنفذين له، وما نهاهم عن نهي إلا وكان أول المنتهين عنه، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد./ جزء من محاضرة للشيخ محمد حسان.

وحسبنا أن نتكلم اليوم عن رسول الله قدوة عسكرية.
عناصر الخطبة:

1- في غزوة بدر:
- النبي يريد القتال وبعض الصحابة يبدي عدم ارتياحه.
- الاستماع للجنود وتبني خططهم وآرائهم.

2- في غزوة أحد:
- ليس للجنود فرض آرائهم على القائد.
- القائد يعلم جنوده درساً في عدم التردد.
- عدم لوم القائد لجنوده إذا أخطؤوا في اجتهادهم ومشورتهم حتى لو خسروا المعركة.

ثانياً : الرسول صلى الله عليه وسلم  موجهاً عناصره.
ثالثاً : التحريض على القتال.
رابعاً : رسول الله يتقدم المسلمين للقتال.

أولاً : الشورى:
1- في غزوة بدر:
لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نجاةُ القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي صلى الله عليه وسلم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمر, وأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربية مع قريش، حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، وحاولوا إقناع الرسول صلى الله عليه وسلم بوجهة نظرهم، وقد صور القرآن الكريم موقفهم وأحوال الفئة المؤمنة عمومًا في قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 5 - 8].
وقد أجمع قادة المهاجرين على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو, وكان للمقداد بن الأسود موقفٌ متميزٌ، فقد روى مسلم عن ابْنَ مَسْعُودٍ قال: (شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ)( مسلم /3952)
وفي رواية البخاري: قال المقداد: (يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن امضِ ونحن معك، فكأنه سُرِّىَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). (البخاري /4609)
وبعد ذلك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، وكان إنما يقصد الأنصار؛ لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة،وقد أدرك الصحابي سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الأنصار، مقصد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فنهض قائلاً: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أجل». قال: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبْرٌ في الحرب، صُدْقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينُك فَسِرْ على بركة الله)
سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد بن معاذ، ونشطه ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم»

وفي رواية قال سعد بن عبادة: ( إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا)( مسلم/1779)
كانت هذه الكلمات مشجعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملهبة لمشاعر الصحابة فقد رفعت معنويات الصحابة وشجعتهم على القتال.
إن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استشارة أصحابه في الغزوات يدل على تأكيد أهمية الشورى في الحروب بالذات؛ ذلك لأن الحروب تقرر مصير الأمم، فإما إلى العلياء، وإما تحت الغبراء.
إن هذه الحرية التي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه مكنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرأي السديد والمنطق الرشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحًا باهرًا، وإن كان حديث السن؛ لأنه لم يكن يفكر برأيه المجرد, أو آراء عصبة مهيمنة عليه قد تنظر لمصالحها الخاصة قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامة، وإنما يفكر بآراء جميع أفراد جنده، وقد يحصل له الرأي السديد من أقلهم سمعة وأبعدهم منزلة من ذلك القائد؛ لأنه ليس هناك ما يحول بين أي فرد منهم والوصول برأيه إلى قائد جيشه.
- الاستماع للجنود وتبني خططهم وآرائهم:
وهذا ما نلحظه في قبول النبي صلى الله عليه وسلم لمشورة الحباب بن المنذر، فبعد أن جمع صلى الله عليه وسلم معلومات دقيقة عن قوات قريش سار مسرعًا ومعه أصحابه إلى بدر ليسبقوا المشركين إلى ماء بدر، وليَحُولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر، وقال: يا رسول الله: (أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم-أي جيش المشركين- فننزله ونغور -نخرب- ما وراءه من الآبار ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه ونهض بالجيش حتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه, ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار).
وهذا يصور مثلاً من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه حيث كان أي فرد من أفراد ذلك المجتمع يدلي برأيه حتى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى، ثم حصول ما يترتب على ذلك الغضب من تدني سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد وتأخره في الرتبة وتضرره في نفسه أو ماله.
وتبدو عظمة القيادة النبوية في استماعها للخطة الجديدة، وتبني الخطة الجديدة المطروحة من جندي من جنودها أو قائد من قوادها.

2 - في غزوة أحد:
إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جمع معلوماته عن جيش المشركين شاور أصحابه في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين ومقارعتهم،وكان رأي النبي هو البقاء في المدينة، وقال: (إنها في جُنَّةٍ حصينة)
وقال للصحابة: (إن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها)، إلا أن رجالاً من المسلمين ممن فاتهم القتال في معركة بدر وعلموا ما سبق لأهل بدر من الفضيلة، أرادوا أن يقاتلوا في أحد ويخرجوا للمشركين فقالوا: (يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا). (البداية والنهاية 5/ 346-347)
فمن الواضح أن النبي عوَّد أصحابه على التصريح بآرائهم حتى ولو خالفت رأيه، وذلك فيما لا نصَّ فيه إذ لا فائدة من المشورة ما لم تقترن بإبداء الرأي.
- ليس للجنود فرض آرائهم على القائد:
عندما أشار الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج من المدينة لملاقاة المشركين؛ دخل بيته ولبس لأمته – عدَّة الحرب – فتلاوم الصحابة فقالوا: عرَّض رسول الله بأمر  وعرَّضتم بغيره، وبعثوا حمزة عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له قل للنبي: أمرنا لأمرك تبعٌ، فأتى حمزة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن القوم تلاوموا فقالوا: أمرنا لأمرك تبع، فقال رسول الله: (إنه ليس لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) (زاد المعاد ج3/173- السيرة النبوية لابن هشام ج3/19)
فالصحابة رغم أن لهم إبداء الرأي، فليس لهم أن يفرضوه على القائد، فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار ما يراه مناسباً وما يترجح لديه من الآراء.
لذلك لما رأوا أنهم ألحوا عليه في الخروج عادوا فاعتذروا إليه، [وهذا يُظهر مدى الوعي السياسي لدى الصحابة رضوان الله عليهم، هذا الوعي الذي ينبغي ان يتوفر لدى المجاهدين اليوم] (السيرة النبوية للصلابي/469)
- القائد يعلم جنوده درساً في عدم التردد:
ولكن النبي علمهم درساً بليغاً من صفات القيادة الناجحة وهو عدم التردد فقال لهم: (إنه لا ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل).
لأن التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ يزعزع الثقة في النفوس، ويغرس الفوضى بين الأتباع.
طبعاً هذا لا يعني أن لا يترك القائد رأيه أحياناً إذا رأى في ذلك مصلحة، لأن النبي قال ذلك لكونه نبي( إنه لا ينبغي لنبي) أما غير النبي فيجوز له أن يخلع لأمته ويعدل عن رأيه إلى رأي آخر أكثر مصلحة.
- عدم لوم القائد لجنوده إذا أخطؤوا في اجتهادهم ومشورتهم حتى لو خسروا المعركة:
فالمسلمون غُلِبوا في أحد وأصيبوا في مقتل، بل كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل لولا عصمة الله له، وقُتِلَ قادة كبار من الصحابة أمثال حمزة، ومصعب، وعبد الله بن جحش، وسعد بن الربيع، وحنظلة غسيل الملائكة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وخيثمة بن سعد، وغيرهم.
[ ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلم الصحابة ولم يؤنبهم على مشورتهم التي أشاروا بها عليه]. وحتى عندما خالف الرماة أمر النبي ونزلوا من على الجبل الرماة وحدث ما حدث فقد [أمر الله رسوله بأن يعفوا عنهم، وحثه على الاستغفار لهم، كما أمره أن يأخذ رأيهم ويستمع إلى مشورتهم، ولا يجعل ما حدث صارفاً له عن الاستفادة من خبراتهم ومشورتهم، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)( آل عمران 159)
فلو خسر المجاهدون معركتهم أو جولتهم فلا ينبغي للقائد أن يلوم جنوده على رأيهم، بل لهم أجر على الخطأ في اجتهادهم.
مما سبق نتبين مدى الاحترام الذي كان متبادلاً بين النبي القائد وبين جنوده. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون مع قادتهم، والقادة مع جنودهم.

ثانياً : الرسول صلى الله عليه وسلم  موجهاً عناصره.
مارس صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أسلوب القيادة التوجيهية، و تجلى ذلك في أمور, منها:
الأمر الأول: أمره صلى الله عليه وسلم الصحابة برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم؛ لأن الرمي يكون أقرب إلى الإصابة في هذه الحالة «إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل».
الأمر الثاني: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف، «ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم».
الأمر الثالث: أمره صلى الله عليه وسلم الصحابة بالاقتصاد في الرمي،  فعنْ أبي أُسيد رضي الله عنه، قال: قَال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «إِذَا أَكْثَبُوكُمْ - يَعْنِي كَثَرُوكُمْ - فَارْمُوهُمْ، وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ» (البخاري/3984)
ما أعظمه من نبي عالم بتكتيكات الحروب من غير أن يدرس في كلية حربية ولا محاضرات عسكرية، وهذا الذي كان يرمي إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو ما يعرف حديثًا بكبت النيران إلى اللحظة التي يصبح فيها العدو في المدى المؤثر لهذه الأسلحة، وهذا ما قصده صلى الله عليه وسلم في قوله: «واستبقوا نبلكم».

ثالثاً : التحريض على القتال.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على أن يكونوا أصحاب إرادات قوية راسخة ثابتة ثبات الشُّمِّ الرواسي، فيملأ قلوبهم شجاعة وجرأة وأملاً في النصر على الأعداء، وكان يسلك في سبيل تكوين هذه الإرادة القوية أسلوب الترغيب والترهيب، الترغيب في أجر المجاهدين الثابتين، والترهيب من التولي يوم الزحف، والفرار من ساحات الوغى، كما كان يحدثهم عن عوامل النصر وأسبابه ليأخذوا بها ويلتزموها، ويحذرهم من أسباب الهزيمة ليقلعوا عنها، وينأوا بأنفسهم عن الاقتراب منها.
وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على القتال ويحرضهم عليه امتثالاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) [الأنفال: 65].
وقال تعالى: (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)( النساء 84)
وفي غزوة بدر الكبرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض». فقال عمير بن الحمام الأنصاري - رضي الله عنه -: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: «نعم». قال: بخٍ بخٍ (كلمة تعجب). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قول: بخٍ بخٍ؟». قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: «فإنك من أهلها».
فأخرج تمرات من قرنه (جعبة النشاب) فجعل يأكل منه، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل)( مسلم/1901) وفي رواية قال: قال أنس: فرمى ما كان معه من التمر، وقاتل وهو يقول:

ركضًا إلى الله بغير زاد

إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد

وكل زاد عرضة للنفاد

غير التقى والبر والرشاد

فقاتل رحمه الله حتى استشهد.
ومن صور التعبئة المعنوية أنه صلى الله عليه وسلم كان يبشرهم بقتل صناديد المشركين، وزيادة لهم في التطمين كان يحدد مكان قتلى كل واحد منهم, كما كان يبشر المؤمنين بالنصر قبل بدء القتال فيقول: «أبشر أبا بكر». ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة رضوان الله عليهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة».
وقد أثرت هذه التعبئة المعنوية في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم والذين جاءوا من بعدهم بإحسان.

رابعاً : رسول الله يتقدم المسلمين للقتال.
ومع تحريضه صلى الله عليه وسلم للمسلمين على القتال فقد كان في مقدمة الصفوف بل في الصف الأول، فقد كانت الشجاعة متمثلة في شخصه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، ففي غزوة حنين: (... َلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، قَالَ عَبَّاسٌ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْ عَبَّاسُ، نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ»، فَقَالَ عَبَّاسٌ: وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا، فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ، لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: «انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ» قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا) (مسلم /1775)
وفي غزوة بدر: كان صلى الله عليه وسلم يطلب من المسلمين أن لا يتقدم أحد إلى شيء حتى يكون هو دونه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ( ... فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ »  فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)( مسلم/1901)
ولكن مع هذا فلا ينبغي للجنود أن يزجوا بقائدهم أو يزج هو بنفسه في مواقع القتل والهلاك؛ وذلك لان القائد له مكانه في جيشه وبموته يكون الخطب جسيمٌ على المسلمين وعلى معنويات المجاهدين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يبني له الصحابة عريشاً ليكون مقراً لقيادته، فبعد نزول النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه على أدنى ماء بدر من المشركين، اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء عريش له يكون مقرًا لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قاله سعد في اقتراحه: (يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام, يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك) فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر - رضي الله عنه - , وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله صلى الله عليه وسلم.( السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة2/134)
ويستفاد من بناء العريش أمور, منها:
1 - لا بد أن يكون مكان القيادة مشرفًا على أرض المعركة، يتمكن القائد فيه من متابعة المعركة وإدارتها.
2 - ينبغي أن يكون مقر القيادة آمنًا بتوافر الحراسة الكافية له.
3 - ينبغي الاهتمام بحياة القائد، وصونها من التعرض لأي خطر.
4 - ينبغي أن يكون للقائد قوة احتياطية أخرى تعوض الخسائر التي قد تحدث في المعركة.( السيرة النبوية للصلابي/397)

 

 

رابطة خطباء الشام

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع