مولاي التهامي بهطاط
تصدير المادة
المشاهدات : 2771
شـــــارك المادة
هل فرنسا في حاجة اليوم للكلام الذي يتكرر في المناسبات الدامية المماثلة، والتي أصبحت تتوالى بوتيرة مقلقة؟ هل هي في حاجة لمن يدعو المسلمين لإصلاح تعليمهم، وإلى تنقيح فقههم، ومحاصرة مظاهر التدين في الشارع العام، وحصر الدين في أماكن العبادة، حتى لا يساهموا في إنتاج التطرف والمتطرفين؟
هل فرنسا في حاجة إلى مسلمين يجلدون ذواتهم ويعتذرون ويقدمون قرابين عن جرائم لا علاقة لهم بها؟
هل هي في حاجة إلى قيام تلفزات عمومية في الضفة الجنوبية للمتوسط بنقل ارتسامات مواطني الشارع وتضامنهم وشجبهم وإدانتهم وتبرأهم من الفاعلين؟
هل هي في حاجة لمن يزينون "بروفايلاتهم" بألوان علمها ويتبارون في ترديد مقاطع من نشيدها الوطني "لامارسياز"؟
فرنسا ليست في حاجة إلى هذا كله، وليُرح جماعة "المداهنين" أنفسهم، فالغرب كله -وليس فرنسا وحدها- يدرك أن الأسباب الحقيقية لما جرى وسيجري، لا علاقة لها لا بالدين ولا بالتدين ولا بمناهج التعليم، بل سببها الرئيس هو غياب الديمقراطية في العالم العربي.
فعندما غزت القوات الأمريكية العراق في الظروف المعروفة، لم تسع لإقامة نظام ديمقراطي ولو على أساس فيدرالي أو كونفدرالي، بل فتحت الباب أمام حرب طائفية أدت -في مرحلة أولى- إلى ظهور الزرقاوي ومن معه، ولم تكن تلك صدفة، فقد كتب كثيرون مبكرا أن أحد أهداف غزو العراق هو تدشين مواجهة بين السنة والشيعة، فالكوفة أريد لها أن تكون منافسة لمكة، وكربلاء أريد لها أن تكون بديلا للمدينة المنورة.. فأصبح لهؤلاء حجهم ولأولئك حجهم، ولهؤلاء مشاعرهم المقدسة ولأولئك عتباتهم المقدسة... بل صار لهؤلاء إسلامهم.. ولأولئك إسلامهم..
ولا أحتاج هنا للتذكير بما فعلته المليشيات الشيعية -ولا تزال- بالمدنيين السنة في العراق وسوريا واليمن ولبنان.. السنة الذين تحولوا غصبا عنهم إلى حاضنة شعبية للتنظيمات المتطرفة من القاعدة إلى داعش حاليا، بفعل غياب النصير وموت الضمير الدولي الذي عادت ما يحتفي لولادة باندا.
لقد تحول العراق بعد أكثر من عقد من الإطاحة بـنظام صدام إلى دولة طائفية لا مجال للتعايش فيها بين السنة والشيعة والأكراد.. وبقية الأقليات الجينية والعرقية.
ولم يقف الأمر عند العراق، فقد تدخل الغرب علنا لإجهاض المكاسب القليلة التي جاء بها "الربيع العربي"، بينما تولت دول الخليج تمويل الانقلابات والثورات المضادة والحروب الأهلية.. وها هي اليوم تدفع الثمن من أمنها الوطني.
الهاجس المعلن للغرب يومها كان هو ضمان "أمن إسرائيل"، لأنه يدرك أن زحف الديمقراطية على دول الجوار العربي معناه باختصار زوال هذا الكيان الغاصب، وهل هناك نظام منتخب ديمقراطيا يمكن أن يدافع عن "سلام الشجعان"؟
ومن عجائب التاريخ، أن المعادلة الآن أصبحت تتعلق بأمن دول هذا الغرب نفسه وليس بأمن مدللته "إسرائيل" فقط.
خلال متابعتي للقنوات الفرنسية قبيل الانتخابات التشريعية التركية، كانت بعض الأصوات تدعو مباشرة إلى الإطاحة بالحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، بل إن صحفيين ومحللين فرنسيين لم يكونوا يخفون رغبتهم في رؤية هذا الحزب يتقهقر ويخسر الريادة التي حافظ عليها باستحقاق طيلة 13 سنة.
وعندما جاءت النتائج معاكسة لهذه المتمنيات، أصبح الحديث عن "السلطان أردوغان"، في إيحاءات تاريخية غير خافية، بل تمت الاستعانة بـ"خبراء" أتراك معارضين، نفوا أصلا أن يكون قد تحقق شيء في تركيا خلال السنوات الأخيرة، بل اعتبروا الأمر مجرد تضخيم إعلامي وبروباغندا "فاشية"..
لماذا بدت "فرنسا النخبة" ممتعضة من نتائج الانتخابات التركية رغم أنها جرت في ظروف ديمقراطية؟ ولماذا أصرت "فرنسا الرسمية" قبل ذلك على نكء جرح "المذبحة الأرمينية"، في الوقت الذي لا تقبل فيه فرنسا نفسها الخوض في ملف جرائمها الاستعمارية، فأحرى تقديم مجرد اعتذار شفوي للجزائر وغيرها من المستعمرات؟
السبب بسيط وهو أنها ترى أن نجاح التجربة الديمقراطية في تركيا قد تنتقل عدواه إلى البلدان المجاورة، وهذا ما يفسر إصرار الغرب "الديمقراطي" على دعم الديكتاتوريات العربية، ووأد أية بارقة أمل في تغيير ديمقراطي في المنطقة..
ومن المفارقة أن التفجيرات وقعت في نفس اليوم الذي كشف فيه موقع "ميديابار" الشهير خلاصة تقرير الخبرة العلمية التي أكدت أن الوثيقة التي ذكرت حصول الرئيس السابق ساركوزي على 50 مليون أورو من نظام القذافي صحيحة. وقبل أيام توجه وفد كبير من رجال الأعمال الفرنسيين إلى إيران لحجز حصته من الكعكة..
وفي الحالتين معا، يتضح أن الساسة الفرنسيين ينتقدون الديكتاتورية علنا، بينما يأكلون حتى التخمة على موائد الديكتاتوريين الدمويين، ومن قبض من القذافي هل سيتورع عن القبض من حكام الخليج "الكرماء" وغيرهم؟
كما يتضح أن الدولة الفرنسية -كغيرها من الدول الغربية- مستعدة لنسيان شعارات "حقوق الإنسان" حين يتعلق الأمر بفتح المجال لشركاتها من أجل أكل اموال الشعوب المستضعفة بالباطل.
فقد نسيت مثلا كل مآخذها على نظام الملالي في إيران، وطوت صفحة حقوق المرأة والأقليات، وصفحة الحريات الشخصية والدينية والسياسية..
وهي نفس فرنسا التي استمرت في الدفاع عن نظام بن علي حتى آخر نفس، ونزل مسؤولوها ضيوفا على حساب شعبه، ليقضوا عطلا طويلة الأمد ويعودوا محملين بالهدايا..
وهي أيضا نفس فرنسا التي طاردت صحافتها الرئيس الغابوني الراحل عمر بانغو، في أيامه الأخيرة، فتوفي في إحدى مصحات برشلونة، لأن "الرأي العام" الفرنسي لم يقبل أن يعالج على أرضه مسؤول "فاسد"، بينما الكل يعلم أن بانغو كان مجرد موظف لدى الحكومة الفرنسية بدرجة رئيس دولة على مدى 43 سنة، وأن الشركات الفرنسية تنهب خيرات هذا البلد منذ قرون، دون شفقة.
ألم يفكر أحد لماذا يتم الإصرار على إهانة "الرئيس" السيسي والاستخفاف به في العواصم الغربية التي يزورها، رغم أنها تدعم انقلابه؟ أليس في ذلك رسالة لـ"الكائن الشرقي" بأنه لا يساوي شيئا في ميزان "الديمقراطية"؟
الغرب قارئ جيد للتاريخ، ويعرف أن أقصر سبيل نحو التقدم هو الديمقراطية، والتجربة التركية أكبر دليل، خاصة وأنها كذبت "النظرية" التي تم تسويقها منذ الحقبة الاستعمارية من أن الإنسان الشرقي لا يمكن أن يكون ديمقراطيا، ومن أن معتقداته تمنعه من أن يستفيد من هذه الآلية الراقية لتدبير شؤون الدولة.
اليوم، تغيرت المعادلة بشكل دراماتيكي، فدعم الديكتاتوريات لم يعد كافيا، وقد تأكد ذلك مع فشل النظام المصري الحالي على كافة المستويات، حيث إنه فقد السيطرة حتى على جزء من أراضي البلد، ومسلسل سيناء مازال في بدايته بل قد يقوم الطيران الروسي بقصف داعش هنا دون استئذان.
كما إن التراخي في التعاطي مع الصراع السوري وترك الوقت الكافي لنظام بشار لممارسة الفظائع، ومد أطراف النزاع في ليبيا بالوقود لمواصلة الاقتتال، بل وتحول الوسطاء الأمميين إلى مجرد "مخبرين" يتقاضون مبالغ مقابل صب الزيت على النار، والمآل الذي قد تنتهي إليه تونس حال تخلي الفرقاء فيها عن تعقلهم، وانخرطوا في لعبة الفوضى التي راهنت عليها "الرجعية" العربية للانقلاب على ثورة الياسمين... كل ذلك من شأنه أن يوفر وقودا لا ينضب لداعش وغيرها، خاصة إذا تحولت إلى "فكرة" متحررة من قيود التنظيم..
وأنموذج واضح لذلك، يتمثل في حركة بوكو حرام النيجيرية (غير العربية).
هذه الحركة الإرهابية التي التحقت هي أيضا بداعش، لم تولد من فراغ، ولا علاقة لها بمنظري الإرهاب العرب، بل هي نتاج طبيعي لسوء تدبير الثروات المتنوعة للبلد، وغياب العدالة في توزيعها، بل إن المسلمين الذين يمثلون حوالي ثلثي السكان، تعرضوا لكل أنواع البطش والتنكيل والحرمان والتهميش طيلة عقود، ودفعوا ثمن الصراع الفرنسي الأمريكي على النفط النيجيري وغيره من الثروات..
إن هذا هو السبب في تحول "الإرهاب" إلى مارد يطرق أبواب العواصم الغربية، فالحرب لم تعد تدار عن بعد، من غرف العمليات المكيفة في القصور الرئاسية ومقرات وزارة الدفاع، عبر تقنية "الفيديو كونفرانس"، ولم يعد ممكنا حسمها بالقصف الصاروخي أو باستعمال الطائرات حتى من دون طيار في أطار الحرص على أرواح جنود البلد.. لقد نجح "الإرهابيون" في نقل المعركة إلى قلب باريس، كما فعلوا سابقا في نيويورك ومدريد ولندن، لكن الهجمات الأخيرة كانت فارقة على أكثر من صعيد، ونتائجها الحقيقية ستكون بعيدة المدى..
إرسال الطائرات والبوارج وقصف مكان هنا أو هناك، ليس في الواقع سوى محاولة للململة الكرامة المبعثرة، سيرضي غرور المواطن الفرنسي، لكنه لن يقضي على أصل المشكل..
فأجيال.. وأجيال من الأطفال والفتيان والشباب الذين كانت لهم أحلامهم البسيطة والعادية، تم وأدها بسبب حسابات بوش وجماعته المتطرفة، وتوني بلير وبقية شلة "التفوق العرقي".. أدت إلى تأصيل حالة من الكره اتجاه الغرب، ووجدت من يستثمرها ويحولها من طاقة للبناء إلى آلة للموت والحرق..
فالإرهاب -كما يعرف الغرب قبل غيره- هو نتيجة وليس سببا، نتيجة لحرمان ملايين البشر من حقهم في الحياة الكريمة، ليس في بلدانهم الأصلية فقط، بل حتى في هذا الغرب نفسه.
في فرنسا -مسرح الأحداث الأخيرة- هناك حديث يومي عن المهاجرين، وهناك تضخيم إعلامي وسياسي تلقائي لأي حدث مهما كان بسيطا، وهناك إصرار من النخبة الفكرية والسياسية على التخويف من الخطر القادم من الشرق والجنوب..
في فرنسا، حيث ولدت شعارات حقوق الإنسان، أصبح مطلوبا من المسلم، حتى لو كان مستثمرا ذا مال، أو عالما ذا كفاءة علمية عالية، أن يتخلى عن هويته ومعتقداته ولغته وثقافته وإرثه الحضاري والقيمي بمجرد عبوره الحدود، وأن ينصهر في المجتمع المضيف الذي لن يسمح له بأدنى مظهر من مظاهر الاختلاف.
ولعل النجاح الحقيقي لـ"غزوة باريس" سيتمثل في الإجراءات التي تم الشروع في اتخاذها، والتي لن تخرج عن إطار مزيد من الضغط والتضييق على الفرنسيين المسلمين، ففرنسا هي البلد الوحيد في العالم الذي يشكل الإسلام مادة يومية في وسائل إعلامه، لأن مكونات الطبقة السياسية تزايد على بعضها حتى حول ما على المسلمين ارتداؤه وأكله وشربه.. أليس غريبا أن يشكل امتناع التلاميذ المسلمين عن تناول لحم الخنزير في المطاعم المدرسية مادة لحملة انتخابية، عنوانها : ضرورة عدم خضوع "الجمهورية" لـ"الابتزاز"؟
ولعل من يتابع كتابات وتصريحات الصحفي إريك زمور مثلا، يستطيع أن يرى حجم الفاشستية التي أصبحت تطبع خطاب جزء من "النخبة" الفرنسية، التي تريد أن تعود بالتاريخ إلى الوراء، إلى زمن كان فيه المهاجرون مجرد عبيد أو يد عاملة رخيصة، بل إن "زمور" يريد من المهاجرين أن ينصهروا ويذوبوا (Assimilation) لا أن يندمجوا (Intégration) فقط، لأنه يرى أن احتفاظهم بمقومات هويتهم الأصلية، أمر غير مقبول.
ولهذا يتم التعامل حتى مع أبناء الجيلين الثالث والرابع على أنهم مجرد "مهاجرين"، رغم أن آباءهم وأجدادهم فرنسيون، ورغم أنهم لا يعرفون وطنا آخر غير فرنسا، ولا يتحدثون لغة أخرى غير الفرنسية.. ومن تبعات ذلك أنهم يعاملون في أفضل الحالات كمواطنين من الدرجة الثالثة، فيحرمون من الوظائف بسبب لون الشعر آو العينين، ويمنعون الترقية لأن أسماءهم عربية أو إسلامية..
إن اختيار فرنسا تحديدا للقيام بعمليات إرهابية استعراضية، لم يأت اعتباطا، بل لأنها البلد الذي يتوفر على أرض خصبة لزرع التطرف كرد فعل على تطرف من نوع آخر.
إن مشهد التلميذة المحجبة التي تعرضت لقصف كلامي غير مبرر من طرف سيدة فرنسية في أحد القطارات مثلا، لا يمكن إلا أن ينتج تعاطفا قد يتحول إلى وقود لحرب طويلة الأمد.. فالتطرف يجر التطرف، والمتطرفون في نهاية المطاف يتبادلون الخدمات رغم التناقضات الواضحة في خطابهم.
يصعب على العقل أن يتفهم كيف أن الدنيا تقوم ولا تقعد بسبب نكتة أطلقها فنان كوميدي عن اليهود أو عن إسرائيل في لحظة ترفيه عابرة، فتتحرك الأجهزة الإعلامية والأمنية والقضائية لسحله، بينما تتم الإساءة إلى مقدسات المسلمين بشكل شبه يومي، وخارج أي سياق "فني".. وعندما يحتجون يواجهون بعبارة "حرية التعبير.. وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء"، الذي لم يحدث في التاريخ أن أنصف شاكيا منهم..
وإحدى النتائج بعيدة المدى لما جرى ليلة 13 نوفمبر الجاري بباريس، أن جيش الغاضبين والناقمين على "فرنسا" سيتعزز أكثر، مع توالي ردود الفعل السياسية والحزبية والإعلامية التي تضع المهاجرين في سلة واحدة مع الإرهابيين.
فكل اعتداء أو إجراء عنصري أو قرار سياسي تمييزي، سيكون بمثابة تحريض مباشر على "بيعة" البغدادي.. (إحراق المصاحف، تخريب المساجد.. مداهمة البيوت، الاعتقال بالشبهة..).. بل من المؤكد أنه سيصير في حكم المعتاد الحديث عن قتل "مشتبه به" من طرف قوات الأمن بسبب سحنته المغاربية، أو ملامحه الشرق أوسطية..
فكيف إذن، يمكن أن تقنع شبابا مندفعا بالتعايش مع هذا التمييز الفادح، في بلد يتحدث شعاره عن الحرية والمساواة والأخوة؟
على فرنسا أن تدرك أن المنحدرين من مستعمراتها السابقة (خاصة العرب والمسلمين منهم)، من واجبهم أن يحترموا قوانينها ومبادئها، لكن لهم الحق بالمقابل في أن يكونوا مختلفين، وفي أن يتمسكوا بمقومات هويتهم الأصلية..
وعليها أيضا أن تدرك أن المهاجرين وأبناءهم، ساهموا ويساهمون في بناء فرنسا، وأنهم ليسوا سبب مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، بل كانوا ولا يزالون سبب رفاهيتها، فالكل تحدث عن أصل وفصل الإرهابيين الثمانية، لكن لم يتحدث عن عدد العرب والمسلمين الذين كانوا ضمن رجال الإنقاذ وفي المستشفيات..
العصر
طارق الحميد
فيصل القاسم
حسان العمر
حسان الحموي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة