ميسون شقير
تصدير المادة
المشاهدات : 2746
شـــــارك المادة
أنتج الإرهاب السياسي والفكري في سورية، والذي نعيشه منذ أكثر من ست سنوات، اضطرابا سياسيا، اجتماعيا حادّا داميا، دمّر التوازن الاقتصادي، والثّقافي، والنفسي، لكل فرد فينا، وخلّف صدمة نفسيّة جماعيّة ما زالت تنعكس في شخصية كل سوري مهما كان مكانه الجغرافي الحالي، تسمى صدمة الضحية. وقادت هذه الصدمة إلى حالة من القلق العميق، وحالة من نقص الثقة في الذات، ونقص الثقة في المحيط، وهذا كله أوصلنا إلى ما تسمى ثقافة الهروب. وقد بتنا نعيش ثقافة الهروب، باعتبارها ثقافة يومية، تحكم تصرفاتنا على كل المستويات، وهي ثقافة كاملة أنتجتها فينا حالات العجز المطلق التي هيمنت علينا، نحن السوريين، بعد كل هذا الحجم من الموت ومن الخراب والتهجير والتشرّد، وبعد خذلان العالم أكبر مأساة إنسانية عرفها التاريخ الحديث، وأنتجها أيضا انهيار أحلامنا التي تتالى سقوطها أمام أعيننا وقلوبنا، والتي كان علينا أن ندفنها مع الذين دفنّاهم، ورحلنا، فليس الهروب، بوصفه ثقافة انعكاسية طبيعية لإحساس الخوف العميق، هو فقط الهروب المكاني، أو الهروب الجغرافي، الذي عاشه نصف الشعب السوري، إنما هو أيضا الهروب الداخلي على صعيد آلية التفكير نحو الابتعاد الدائم، بدلا من مواجهة الواقع القاتل، وبدلا من الجرأة التي نحتاجها للدخول إلى أعماق التحولات التي فرضت علينا، ولعل الإشكالية هنا لا تكمن في تأزم الواقع السوري الحالي فقط، بل الحلول أو البدائل المنظورة هي مأزومة أيضا، ما يعطل القدرة على الفعل والتأثير. في البداية، كان السوري يهرب من الاعتقال، من الموت تحت التعذيب، من السوق إلى الخدمة الإلزامية، يهرب من الجيش نفسه، من البراميل المتفجرة، من الموت الممنهج والمنظم المعدّ له بموافقة دولية كاملة. ثم في دول الجوار يبدأ الهروب التالي من مخيمات الذل، ومن الموت جوعا. وفي رحلة اللجوء إلى أوروبا، يهرب السوري من الموت المالح في البحر، ومن الموت على الطريق البري، وبعد الوصول إلى أوروبا، يحاول الهروب من العزلة، ومن الغربة القاتلة، من اللغة التي لا يعرفها ولا تعرفه، من القناعة بأن حياته ستنتهي في بلادٍ باردة، لا تعرف شيئا عن مدينته، عن تلك الحضارة الطاعنة بالعراقة التي جاء منها، عن ماضيه، عن أهله، عن عمله، بلاد تعده مجرد رقم بين ملايين الأرقام. امتهن السوري اليوم ثقافة الهروب، وبات بارعاً في امتهانه الجديد هذا، فها هو في أوروبا، يحاول أن يهرب من ذاكرة الخوف والرعب، وأن يهرب من الصورة السيئة التي رسمتها عنه البروباغاندا، لذا هو يهرب التفاعل مع المجتمع الجديد الذي فرض عليه، ويكون هروبه عن طريق الذهاب إلى مجتمع وهمي، يملأ فضاء مواقع التواصل الاجتماعي، يهرب من فعل الحياة الحقيقي الصعب، إلى مكانٍ يعيش فيه حياة ميتة تملأ كل وقته، وتحول ابن الحارة الذي لم يكن يجد وقتا للجلوس وحده، إلى كائن مكتئب، سلبي، يتسوّل من صفحات "فيسبوك" مجتمعا يعرف أنه فارغ، وأخبارا يعرف أنها لن تأتي. وعلى صعيد البناء الداخلي، أصبح السوري يعيش ضمن احتمالين وشكلين من الثقافة. إن بدا أنهما متعارضان من حيث المنطلقات والمقدمات، إلا أنهما في التحليل النهائي يلتقيان عند جذر واحد، ويمثلان وجهي عملة نقد واحدة، من شأنها الإبقاء على حالة الجمود، وتعطيل القدرة على التغيير والتجاوز، فإما أن يهرب باتجاه الماضي من خلال تفخيمه هذا الماضي وتجميله، ومن خلال إعادة إنتاجه بالحديث الدائم عنه، والعيش البائس فيه، وهي ثقافة الهروب نفسها، فالثقافة المستمدة عناصرها مما سبق فقط تعيد إنتاج ثقافة ماضوية، سلفية، متزمتة، تستند إلى النقل والتلقين والتقليد، وتعادي العقل وترفض الأخذ بمستلزمات التطوير والتغيير الذي يتطلب الانفتاح، والاجتهاد، والإقرار بالتعدّدية. وفي موازاة ثقافة الهروب إلى الماضي، هنالك ثقافة الهروب إلى الآخر، أي أنه يهرب إلى القطعية الكاملة مع كل ماضيه، أي أنها تمثل ثقافة الهروب من ذاته، من خلال استنساخ الحاضر الذي تعيشه الدول الأوروبية التي لجأ إليها، أو دول الغرب، وتقليدها الشكلي الأعمى، بدون أن يدرس هذا التطور الذي يفصله عنها بعمقه، وتفاصيله، ومبرّراته، وبدون أن يفهم الخطوات التي عليه أن يمشيها، لكي يصل إلى ما يقاربه، أو إلى ما يجعله يساهم بشكل فعلي في عملية مواجهة التطور. وفي الحالتين، تسود ثقافة التقليد والنقل والمحاكاة، كما تسود ثقافة الاستهلاك التي تؤدي إلى إعادة إنتاج ثقافة الهروب من جديد.
العربي الجديد
صبيح أتاسي
علي حسين باكير
أنور مالك
حسان الحموي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة