غازي دحمان
تصدير المادة
المشاهدات : 2926
شـــــارك المادة
بعد أكثر من شهرين على انطلاقتها، بات من الممكن القول إن الثورة السورية تجاوزت المرحلة الأصعب في مسارها، وإن الخطر الذي يهددها بات وراءها، وبدأت مرحلة جديدة استحقت من خلالها الانتقال من خانة وصفها بحركة احتجاجية محدودة إلى حالة ثورية سلمية شاملة. وليس المقصود من وراء هذا القول منح الثورة شحنات تفاؤلية، ولا هو يصدر عن ذات عاطفية، بقدر ما هو توصيف عاكس لواقع بات ملموساً على الأرض السورية، وله من الحيثيات والشواهد ما يدعمه ويعززه. الثورة السورية واجهت منذ اللحظات الأولى لانطلاقة شرارتها شكوكاً كبيرة حول مدى قدرتها على صياغة أهدافها والسير بها إلى نهاياتها الثورية الوطنية، كما واجهت أزمات بنيوية خطيرة تتعلق ببنيانها التكويني ومدى تمثيلها لمكونات المجتمع السوري، هذا فضلاً عن تكوينها البنائي كحركة شعبية منظمة. ولا شك أن عوامل الوقت والصمود لعبت دوراً مهماً في هذا الإطار، فقد استطاعت حركة الثورة الانتقال من كونها حركة احتجاجية محلية وبمطالب ذات سقف محدود تمثل في بداية الأمر في إحداث إصلاحات معينة بمجالات ذات طابع محلي، إلى حراك وطني واسع يطالب بالتغيير الشامل انطلاقاً من تغيير الصيغ التي تحكم المجال السياسي وتحدد العلاقة بين السلطة والمجتمع على أساس حزب يقود الدولة والمجتمع، مدعوماً بآلة أمنية كبيرة تتصدر هذه الواجهة وتصادر حق المجتمع في المشاركة في صنع واقعه وتقرير مصيره وشكل مستقبله. وكان للصمود الأسطوري الذي أبداه شباب الثورة وشعبها دوراً كبيراً في إيصال ثورتهم إلى مرحلة الأمان، بعدما استخدم النظام وبشكل مكثف ومبالغ فيه كل أسلحته في مواجهتها، في محاولة دؤوبة ومحمومة لإطفاء جذوتها، سواء عبر آلة القمع الجبارة أو من خلال محاولات تشويهها أخلاقياً والتشكيك فيها عبر وسمها بالطائفية والإجرامية والسلفية. وتتمثل مرحلة الأمان التي وصلت إليها الثورة من خلال قدرتها على إقناع النخبة السياسية والمثقفة -في الدرجة الأولى- بالالتحاق بفعاليات الثورة ودعمها، والاستعداد لدفع الأثمان المترتبة كاستحقاقات لا بدّ منها، مما يعني أن الثورة لم تعد تشكل في مدرك هذه النخب مجرد مغامرة خطرة، بل باتت حلماً آخذاً في التجسد على أرض الواقع، كما تحولت إلى معطى مهم في المجال السياسي السوري ستجعل الواقع السوري -مهما تكن النتائج- واقعاً مختلفاً عما كان قبل 15 مارس-آذار- الماضي تاريخ انطلاق الثورة. وبالطبع، حين يجري الحديث عن النخب السياسية والثقافية السورية فإن الأمانة تتطلب التأكيد أن هذه النخب ذات طابع ثوري مارسته سلوكاً وقولاً ولا يمكن المزاودة عليها. ويضاف إلى مؤشرات مرحلة أمان الثورة السورية، اتساعها وانتشارها الواضح أفقياً وعمودياً، فقد استطاعت الثورة كسب تعاطف جماهير واسعة في مختلف أنحاء البلاد، ويدلل على ذلك اتساع مد المظاهرات على كامل الرقعة الجغرافية السورية، وانزياح مكونات جديدة إلى الثورة اكتفت في فترة معينة بمراقبة تطورات الوقائع على الأرض. وتشير المعطيات المتعلقة بهذه الجزئية من حيثيات الثورة إلى أن أعداداً كبيرة من المواطنين أخذت ترفد الثورة بعد انكسار حاجز الخوف من جهة، وقناعتها بأن الثورة هي المعطى الأكثر حقيقية وواقعية في مستقبل الأيام السورية القادمة. ويشكل هذا المعطى أهم تحولات الثورة السورية، إذ طالما راهن النظام في سوريا على قدرته الجبارة على إخافة الشريحة الكبرى من المجتمع السوري ومنعها تالياً من الانخراط في فعاليات الثورة، الأمر الذي يدفعها بعد حين إلى الاضمحلال والتلاشي. وتكمن أهمية مؤشر انخراط مكونات وفئات جديدة في فعاليات الثورة في إمكانية إعطاء الثورة هوامش حراك ومناورة ضرورية وحيوية تخرجها من وصف "ثورة الريف" أو "ثورة المساجد" أو "ثورة الأحزمة العشوائية"، وهو الأمر الذي بقدر ما يعطيها القدرة على الاستمرار والتواصل، يمنحها أيضاً القدرة على تحقيق التمثيل لأكبر فئات المجتمع ومكوناته، فهذه الإضافات الجديدة للثورة يمكن تشبيهها بالنطاقات التي تحمي القلب الثائر وتغذيه. ولعل المؤشر الأهم في تجاوز الثورة للمرحلة الأصعب يتمثل في القدرة على بناء جسم الثورة وتشكيل قيادات "اللجان التنسيقية"، وهي القيادة التي أصبحت تنسق فعاليات الثورة، كما بدأت بوضع برنامج عمل متكامل. وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال دعواتها للتظاهر في أيام الأسبوع الكاملة، فضلاً عن أيام الجمع، مما يعني تحول الثورة إلى فعل دائم -ديمومة الثورة-، وهو شرط ضروري للثورات، كما أنه يبعد خطر حصول قطوعات فيها تؤدي إلى زوالها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الثورة السورية تعد من التجارب النادرة في مجال الثورات، حيث استطاع الحراك أن يفرز قادته من بين صفوفه ومن قواعده العاملة على الأرض، وليسوا أولئك القابعون في المكاتب ولا محترفو التنظيرات، فالثورة السورية لا آباء روحيين لها، إنها ابنة الشارع الثائر على الطغيان والتهميش والحرمان والطامح إلى لعدالة والكرامة. وتأتي أهمية هذه الواقعة من حقيقة توحد جسم الثورة، الأمر الذي يمنحه الصلابة الكافية من أجل الاستمرار ويجعل من إمكانية اختراق الثورة أمراً مستحيلاً، كما يؤكد وحدة الرؤى والأهداف ويجنب الثورة الوقوع في التناقض القاتل. ومن المؤشرات الهامة على نضوج الثورة وصيروتها واقعاً معيشاً ومعطى في الواقع السوري، دعوة النظام إلى الحوار.. صحيح أن النوايا من وراء هذه الدعوة غير واضحة، لكن الأكيد أن النظام لا يحاور عصابات إجرامية ولا مندسين، بل من المفترض أنه سيحاور قوى سياسية فاعلة وناشطة ومؤثرة، وأكثر من ذلك قوى لها وزن على الأرض. ورغم أن المؤشرات في هذا المجال تتجه إلى حقيقة رغبة النظام في تمييع قضية الحوار -في حال حصولها- عبر إقامة الحوار مع وجاهات وزعامات محلية بهدف إفراغ المضامين السياسية للثورة وتحويلها إلى مجرد مطالب محلية، فإن دعوة الحوار بحد ذاتها تمثل اعترافاً من السلطة بواقعية الثورة، كما تشرعن بذات القدر فعالياتها ومطالبها. الثورة السورية تجاوزت مرحلة الخطر، بل إن هذه المرحلة أصبحت وراءها منذ زمن، فقد حققت الانتشار وصنعت الديمومة وأفرزت قياداتها، وباتت تملك الهوامش الضرورية للمناورة والمساومة وتحقيق الإنجازات. هذا لا ينفي بالتأكيد أن قدرات النظام في القمع ما زالت كبيرة، كما أن إستراتيجياته القائمة على إغراق الثورة بالأزمات ومحاولات إجهاضها ستبقى قائمة، إلا أن الأكيد أيضاً أن الثورة التي صنعت نفسها وسط مناخات القمع والخوف ونجت من كافة الفخاخ التي نصبت لها، غيّرت الواقع السوري، وهي في طريقها إلى إنجاز أهدافها في الحرية والكرامة.
المصدر: موقع الجزيرة نت
سعود القصيبي
مجاهد مأمون ديرانية
أسرة التحرير
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
محمد العبدة