سامي عطا حسن
تصدير المادة
المشاهدات : 10768
شـــــارك المادة
وقد احتوى البحث -إضافة لموضوعه الرئيس- على الكثير من المسائل المهمة، منها:
- التعريف بالخوراج وذكر أسمائهم.
- بداية ظهور الخوارج كمنهج وفكر، وبداية ظهورهم كحزب سياسي.
- فرق الخوارج، وهل الإباضية فرقة منهم؟
- صلة الخوارج بالسبئيّة.
- أفكار الخوارج ومبادؤهم العامة.
- ظاهرة التأويل في الفكر الإسلامي.
- نماذج من تأويلات الخوارج الفاسدة، وتفنيدها.
وقد اعتنينا في موقع على بصيرة بهذا البحث، وضبطنا حواشيه بقدر المستطاع، إضافة إلى تصحيح بعض ما جاء في نسخته المنشورة (الوحيدة) على الانترنت من أخطاء؛ رغبة في تقريبه لطلبة العلم، وجمهور القرّاء الأعزاء، والله نسأل أن ينفع به، ويجزي مؤلفه خير الجزاء.
لتحميل الملف كاملاً .. اضغط هنا
المقدمة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم أما بعد:
فيُعتبرُ موضوع الخوارج من الموضوعات التي شغلت بالَ كثيرٍ من مفكري الإسلام وعلمائه، لِمَا لاحظوه من تَطَرُّف وغُلُو في أفكارهم ومبادئهم، إلا أنّ تأويلاتهم المنحرفة لبعض آيات القرآن الكريم لم تلقَ نفس العناية، فكانت هذه الدراسة عن الخوارج، لبيان أهم مبادئهم، وفرقهم، وصلتهم بالسبئية، وبيان بعض تأويلاتهم لآيات القرآن الكريم، ومناقشتها في ضوءِ الفكرِ الإسلامي الصحيح، سائلاً المولى -عزّ وجل- أن يجعلَ هذا العملَ خالصًا لِوَجهِهِ الكريم.
وقد وقفت على دراسات عديدة بيّنت آراء الخوارج الاعتقادية، وَذَكَرت فِرَقَهم، ونُبَذًا يسيرة من عقائدهم، إلا أنني لم أجد -حسب اطلاعي- دراسة واحدة تحدثت عن صلتهم بالسبئية، وتأويلاتهم المنحرفة في صعيد واحد.
كان الخوارج والشيعة ضمن معسكرٍ واحد، وهو معسكر علي -رضي الله عنه- مما جعل الدكتور محمود قاسم -عميد دار العلوم سابقًا- يعتبر الشيعة والخوارج مَظهَرين لحزب واحد، الخوارجُ يُكَوِّنون المظهر الخارجي، والشيعةُ يُكَوِّنون الجانب السري الباطني[ 1 ]، واشتركوا في فكرة الخروج على عثمان -رضي الله عنه- وفي تكفيره -وهو المُبَشَّرُ بالجنّة- والبراءة منه[ 2 ].
والخوارج كذلك اسمٌ لحزب سياسي، وفرقةٍ دينية، خَرجَت على الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بعد أن كانت تحارب معه إبّان معركة صفين، بسبب رفضهم لنتيجة التحكيم، فرفعوا شعارًا صار رمزًا لتحركهم وهو: لا حكم إلا لله. وبعد موقعة صفين، امتاز الخوارج عن الشيعة، وسلك كل فريق مَسلكًا يناقض الآخر، بل أصبح كل فريق يتبرأ من الآخر.
وأورد الطبري طرفًا من السِّجال الذي نشأ بين الشيعة والخوارج، من ذلك أَنَّ (صالح بن مسرح) الخارجي، قال في شأن علي -رضي الله عنه- وأتباعه: "فلم يَنشَب أن حَكَّمَ في أمرِ الله الرِّجال، وشَكَّ في أهل الضلال، ورَكَنَ وأَدهن، فنحنُ من علي وأشياعِهِ بَراء"[ 3 ].
وكذلك ما أورده الطبري من خطبة المُستورد الخارجي في ذمّ الشيعة: "أما بعد: فإن هذا الخَرِق: معقل بن قيس، قد وُجِّهَ إليكم، وهو من السبئية المفترين[ 4 ] الكاذبين، وهو لله ولكم عدو"[ 5 ].
أما مَعقِل بن قَيس الشيعي: فقد سَمّى الخوارج بالمارقة الضُّلاّل[ 6 ]... وجاء في خطبة صعصعة بن صَوحان الشيعيّ: "ولا قوم أعدى لله ولكم، ولأهل بيت نبيكم، ولجماعة المسلمين، من هذه المارقة الخاطئة، الذين فارقوا إمامنا –يقصد الخوارج- واستحلوا دماءنا، وشهدوا علينا بالكفر.."[ 7 ]. ووصف أبو حمزة الخارجي الشيعة وصفًا بيَّنَ فيه بعض آرائهم، فقال: "وأما هذه الشيعة، فَشِيَعٌ ظَاهَرَتْ بكتاب الله، وأعلنوا الفِرية على الله، لم يفارقوا الناس بِبَصَرٍ نافذٍ في الدين، ولا بعلمٍ نافذٍ في القرآن، ينقِمون المعصية على أهلها، ويعملون إذا وُلّوا بها، يُصِرّون على الفتنة، ولا يعرفون المخرَج، جُفاةٌ عن القرآن، أتباعُ كُهّان، يُؤمِّلون في بَعثِ الموتى، ويعتقدون الرَّجعة[ 8 ]إلى الدنيا، قلّدوا دينهم رجلًا لا ينظرُ لهم.!! {قاتلهم الله أنى يؤفكون}"[ 9 ].
الدراسات السابقة:
كُتبت دراسات ورسائل أكاديمية عديدة عن الخوارج، ذكرتُ بعضها في ثبت المصادر والمراجع، ومع ما لهذه الكتابات من قيمة لا تُنكَر، بل تُذكَرُ فَتُشكَر، ومع ما أفدته منها في بحثي هذا، إلا أنني لم أجد فيها بحثًا مستوعبًا للأمور التي تعرضتُ لها في هذا البحث، وكل ما وجدتُهُ شذراتٍ متفرقة، قمتُ بالتأليف بينها، وكنت في كُلِّ ذلك ألتزم جمعَ المادة العلمية من مصادرها المعنية، مع الالتزام بالموضوعية، والأمانة في النقل، فعزوتُ النصوص إلى أصولها، وخَرَّجتُ الأحاديث من كتب السنة ودواوينها، ثم تعقبتُ تأويلاتهم بالنقد. كما بيّنت صلتهم بالسبئية، في بحثٍ متكامل يسهل على الباحث الرجوع إليه. غير أنني أُبادرُ فأقررُ أنّ قلّة آثار الخوارج الفكرية، وتفاسيرهم، وتأويلاتهم، ترجع إلى استمرارهم في الثورة الدائمة، والصراع الدامي، منذ نُشوئهم إلى أن قُلِّمَت أظافرهم، وكُسِرَت شوكتهم[ 10 ]، فلم تكن لهم مؤلفات كبقية الفرق الأخرى، تُمَكِّن الباحثين أن يستقوا منها آراءهم، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأقوالُ الخوارج، إنما عرفناها من نَقلِ الناس عنهم، لم نَقِف لهم على كتابٍ مُصَنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة، والرافضة، والزيدية، والأشاعرة... الخ"[ 11 ].
وقد ذكر ابن النديم أسماء بعض كتبهم، حيث ذكر منها اثنين وعشرين كتابًا، وليس لهذه الكتب وجود الآن، إما لكونها (مستورة محفوظة)[ 12 ]كما قال، وإما لكونها ضاعت.. ولا شك أن قلّة مؤلفات الخوارج تضعُ صعوباتٍ أمام الباحثين، وتجعلهم عالةً على كتب التأريخ، وكُتُب الفِرَق والمَقالات، والموسوعات الأدبية.
منهجي في البحث:
اتبعت في بحثي هذا المنهجين: الاستقرائي، والوصفي، واعتمدت على أوثق المصادر وأهمها من كتب الفرق والتاريخ والأدب، التي عُنِيَت بالعرضِ لتاريخهم، وآرائهم، وتأويلاتهم، ثم نهجتُ منهج النقد والتفنيد لما ذكرتُه من آراء.
وبعد: فإني أجزمُ بأنني لو أعدتُ النظر في هذا البحث مرة أخرى، لوجدتُ فيه ما يحتاج إلى تعديلٍ أو تبديل، أو تقديمٍ أو تأخير، أبى النَّقصُ –على حد قول العماد الأصفهاني- إلا أن يستولي على جملة البشر، وأبى الكمالُ أن يكون إلا لكتاب الله، فالكمال لله وحده، والعصمةُ لرسله وأنبيائه.
تمهيد:
جرى التفسير منذ عصر الرسالة إلى زمن أتباع التابعين على وتيرةٍ واحدة، تناقله الخلف عن السلف بطريق الرواية والسماع، مع الاجتهاد اليسير الذي كان يَجِدُّ مع كل عصر، تبعًا لما يتجدد من أمور لم يكن لها وجود في العصر الذي سبقه، وهذا راجع إلى أن الناس كلما تباعدوا عن عصر النبوة، واتسعت الفتوحات الإسلامية، ودخل الأعاجم في دين الله، ازدادت نواحي الغموض في التفسير، وزادت الحاجة إلى البيان الشامل، والتفسير الواسع، فتضخّم التفسير كلما مرّت عليه السنون.
بيْدَ أنّ هذا التضخم لم يخرج بالأئمة المفسرين عن الحدِّ المعقول، فما زاد بعضهم عن الاجتهادات العقلية التي لم تخرج عن قوانين اللغة، ولم تتعدّ حدود الشريعة، مما جعلها محتفظة بصبغتها الشرعية ولم تتجاوز دائرة التفسير بالرأي المحمود.
وظلّ الأمرُ كذلك إلى أن ظهرت الفرق المختلفة، والمذاهب المتنوعة، وظلّت الفرق تتحزب وتتعصب وتتنافر وتتناحر، وانبرى من كلّ فرقة علماؤها يحاولون نصرة مذهبهم، ويدافعون عن معتقداتهم، فاتّجهوا جميعًا إلى القرآن الكريم، كلٌّ يبحث فيه عما يُقَوي رأيه ويؤيّد مذهبه، ومن لم يظفر منهم بِبُغيته فيه أخضع الآيات القرآنية لمذهبه، ومال بها إلى رأيه وهواه، وأَوَّلَها بما يتفق وَعقيدته.
ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأي المحمود إلى الرأي المذموم، واستفحل الأمر حتى صار التعصب الأعمى غالبًا على أصحاب الملل والنحل، فأخرجوا للناس تفاسير أوَّلوا فيها كلام الله على وِفقِ أهوائهم، وآرائهم البعيدة عن الحق والصواب.
وقد بدأ الخلاف بين المسلمين أول ما بدأ في أمور اجتهادية، لا تصلُ بأحد منهم إلى درجة الابتداع والكفر، مثلما اختلفوا في موضع دَفنِهِ عليه الصلاة والسلام، أيُدفَنَ بمكة، أم بالمدينة، أم يدفن ببيت المقدس؟ واختلفوا أيضًا في سقيفة بني ساعدة يوم التشاور في تولية من يَخلُفُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، ومع الاختلاف كان المسلمون يدًا واحدة، وكانت عقيدتهم واحدة[ 13 ].
واستمر الحال على هذا المِنوال حتى زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وكان ما كان من خروج السبئيين عليه، ثم انتهى الأمر بمحاصرةِ دَاره وقَتلِهِ، فاهتز المجتمع المسلم هزةً عنيفة، وَهَبَّ قوم يطالبون بدم عثمان، ونشبت الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وكان لكل منهما شيعة وأتباع، ثم انشق الصف بين جماعة علي -رضي الله عنه- بعد مسألة التحكيم، فظهرت منذ ذلك الحين فرقتا الشيعة والخوارج، منها من انحاز لعلي -رضي الله عنه-، ومنها من انحاز لمعاوية -رضي الله عنه-.
ثم أخذ هذا الخلاف وذلك التفرق يتدرج شيئًا فشيئًا، ويزداد حينًا بعد حين، إلى أن ظهرت الفرق المختلفة، التي تَزَيّا بعضها بزيِّ الإسلام، وأضمرت له العداء، ثم غَلا بعض أتباع هذه الفرق والطوائف، وزاد حقدهم على الإسلام، فابتدعوا أقوالًا ومذاهب، تُخرِجُ من المِلَّة، كالقول بالحلول والاتحاد، والتناسخ[ 14 ]، بل نَظَرت كل فرقة من هذه الفرق إلى القرآن من خلال عقيدتها، وَأَوَّلَتهُ بما يتفق وأهواءَها[ 15 ]، ومن هذه الفرق فرقة الخوارج... التي سأعرض لها في هذه الدراسة، وأبيّن نماذج لتأويلاتها المنحرفة.
الفصل الأول: تاريخ الخوارج
المبحث الأول: التعريف بالخوارج في اللغة والاصطلاح، وبيان أشهر أسمائهم، وألقابهم
الخوارج في اللغة:
الخوارج جمع خارج، وخارجيّ مشتق من الخروج، ويأتي لفظ الخروج في اللغة لعدةِ معان، منها: أنه يأتي بمعنى يوم القيامة، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}[ق: 42]، ويطلق الخروج أيضًا على يوم العيد، وعلى ظهور النَّجابة، يقال: خَرَجَتْ خوارج فلان: إذا ظهرت نجابته، وتوجّه لإبرام الأمور وإحكامها. ويطلق الخروج ويرادُ به نقيض الدخول،[ 16 ]وورد الخروج في القرآن الكريم بمعنى الجهاد، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة: 46].
وجاءت كلمة الخوارج في اللغة أيضًا بمعنى: الطاقات، والمحاريب في الجدار من باطنه، أو هي كل ما يخرج مخالفًا لشكل البناء بغرض التزيين والتحسين[ 17 ].
الخوارج في الاصطلاح:
ذكر علماء اللغة أن الخوارج سُمّوا بذلك لخروجهم على الناس أو على الدين الحق، أو على الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بعد موقعة صفين[ 18 ].
ويرى بعض مؤرخي المقالات والفرق أنّ تسمية الخوارج جاءت لخروجهم على الإمام علي -رضي الله عنه- إلا أنّهم اختلفوا في أسباب التسمية على قولين:
الأول: إنهم الطائفة التي خرجت على الإمام علي -رضي الله عنه-، قال الأشعري: "والسبب الذي تسمت به الخوارج هو: خروجهم على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهو ما ذهب إليه البغدادي"[ 19 ].
الثاني: إن كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة يسمى خارجيًا، سواء أكان الخروج في زمن الخلفاء الراشدين، أو كان بعدهم في عهد التابعين لهم بإحسان، أو على الأئمة في كل زمان[ 20 ]. وأيًا كان تعريف الخوارج بواحد من هذه التعريفات، فمن الواضح ارتباط هذه المعاني الاصطلاحية بالمعنى اللغوي للخروج كما بيّنا سابقًا.
أما الخوارج: فيرون أنّ لقبهم مأخوذ من الخروج في سبيل الله، وطلب الشهادة في سبيل الحق، مستشهدين بقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:100].
وللخوارج ألقاب وأسماء كثيرة يَرضَون ببعضها، ويُنكرون البعض الآخر.
- فَهمُ الخوارج: وهو أشهر أسمائهم وأكثرها استعمالًا، وهو الاسم الذي يشمل جميع فرقهم، وقد ورد على ألسنة كتاب المقالات والفرق، والتاريخ، وهو اسم يحتمل أن يكون مدحًا أو ذمًا.
فإذا كانت التسمية – كما يرى الخوارج- مأخوذة من قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:100]، فهي تسمية مدح، ويقبل بها الخوارج.
أما إذا كانت التسمية بمعنى الخروج على الأئمة أو على الناس، أو على الدين، أو على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فهي ولا شك تسمية ذَمٍّ لهم، وهو ما سار عليه كتّاب المقالات والفرق وغيرها[ 21 ]. والخوارج لا يأنفون من إطلاق تسمية الخوارج عليهم، قال شاعرهم عيسى بن فاتك:
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم *** ولكن الخوارج مؤمنونا[ 22 ].
- والحرورية: لانحيازهم في أول أمرهم إلى قرية حروراء بالقرب من الكوفة[ 23 ].
- والمحكّمة: اشتهر الخوارج بهذا اللقب، بسبب إنكارهم تحكيم المحكمين، وقولهم (لا حكم إلا الله)[ 24 ]، ويرى الشهرستاني: "أن المحكّمة الأولى هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- وَرَأَسَهُم: عبد الله بن الكواء، وعبد الله بن وهب الراسبي، وحرقوص بن زهير... وقالوا لعلي بعد حُكمِ الحَكَمين: "إن كنت تعلم أنك الإمام حقًا فَلِمَ رضيتَ بِحُكميهما؟ وإن كنت لم تعلم أنك الإمام حقًا، لم أمرتنا بالمحاربة؟ ثم انفصلوا عنه لهذا السبب، وكفّروا عليًا ومعاوية رضي الله عنهما"[ 25 ]،
لأنهم – حسب اعتقادهم – رضوا بحكم الحكمين، ويجب ألا يكون هناك حكم إلا لله تعالى[ 26 ].
- والشُّراة: أحبَّ الخوارجُ هذا اللقب، لأنه صفة مدح، وهو نسبة إلى الشراء الذي ذكره الله في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111]، يقول الأشعري: "والذي له سُمّوا شراة، قولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة"[ 27 ].
- والمارقة: وهذا الاسم أطلقهُ عليهم خصومهم، إشارة إلى أنّهم هم المقصودون بأحاديث المروق من الدين، المشهور المروي في الصحيحين، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يخرج في هذه الأمة قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرؤون القران لا يُجاوز حلوقهم، أو حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)... الحديث[ 28 ]،
والخوارج قبلوا بهذه الأسماء إلا المارقة، فإنّهم لم يقبلوا أن يُلقبوا به[ 29 ].
ويُسَمَّون أيضًا: أصحاب الجباه السود، والنَّهروانية، والمخدوعين[ 30 ].
ويسمي الخوارج أنفسهم أهل الحق، فيكونون بذلك أول فرقة زعمت أنها على الحقّ، وأن من سواها على ضلال.
وقد وردت أحاديث صحيحة في ذمّ الخوارج، اشتملت كتب الصِّحاح وحدها على عشرة أحاديث، أخرج البخاري منها ثلاثة، وأخرج باقيها الإمام مسلم[ 31 ].
المبحث الثاني: نشأة الخوارج
يربط بعض المؤرخين -قدامى ومحدثين- أصل الخوارج بحادثة التحكيم في معركة صفين، فالخوارج عندهم: هم الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- في تلك المعركة، ومع قبول الباحث الناقد مبدئيًا لهذا الرَّبط التاريخي بين ظهور الحزب، وحادثة التحكيم، إلا أن ذلك لا يُعتبر سببًا لظهور حزب مُنَظَّمٍ كحزب الخوارج، إذْ لا يمكن أن يكون هذا الحزب قد تَكَوَّنَ هكذا فجأة ودفعة واحدة، بل لابد أن تكون فكرة هذا الحزب التي تكونت حولها مبادئه الأولى منتشرة وقائمة قبل هذا التاريخ، فحركة الخوارج لم تكن وليدة صفين، وما قضية التحكيم إلا ذريعة ملائمة استغلها قادة هذه الجماعة لإبرازها إلى حيّز الوجود العلني كدعوة دينية إصلاحية في ظاهرها، وكحزب سياسي في جوهره وأهدافه[ 32 ].
وأميل إلى أنَّ أصلَ الخوارج تَكَوَّنَ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثم فهو سابقٌ للثورة على الخليفة عثمان -رضي الله عنه-، وعلى معركتي الجمل وصفين، وغيرُ خافٍ أنّ النبي-صلى الله عليه وسلم- رسول وإمام في آن واحد، وأنّه كان يتولى شؤون المسلمين الدينية، والمالية، والسياسية، والحربية، وإذا كان من معاني الخروج هو الإنكار على الإمام العادل، والاعتراض عليه، فإن هذا المعنى حدث لصاحب الرسالة والقائد الأعلى للمسلمين، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك الأنصاري قال: (بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقسِم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: (ويلك من يعدل إذا لم أعدل..؟) قال عمر بن الخطاب: دعني أضربُ عنقه، قال: (دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة)[ 33 ].
إنّ هذا الحديث يصرّح بأنّ الشخص الذي عارض النبي -صلى الله عليه وسلم-، وطالبه بالعدل رجلٌ تميميّ هو: عبد الله بن ذي الخُويصرة، وورد في روايات هذا الحديث أنّه (حرقوص بن زهير)[ 34 ]لذلك نجد أنّ أبا عَوانة: يعقوب بن إسحاق النيسابوري قد ترجم في مسنده للأحاديث التي وردت في الخوارج، وقرّر أنّ من أسباب خروجهم: الأثرةُ في القسمة، مع ما فيه من الحكمة التي خَفِيَت عليهم[ 35 ]، وهذا ينطبق على الخارج الأول، أو أصل الخوارج الذي عارض النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما ينطبق على الخوارج الذين خرجوا على عثمان -رضي الله عنه-، وعلى الذين خرجوا على عليٍّ -رضي الله عنه- أيضًا، فقد اتهموا عثمان بأنه قسّم الأموال بين أقاربه[ 36 ]، وخصَّ بها أناسًا دون آخرين.
وأخبرنا الطبري أن الخوارج على عثمان -رضي الله عنه- تنادَوا في داره، بأن "أدرِكُوا بيت المال لا تُسبَقُوا إليه، وأتُوا بيت المال فانتهبوه"[ 37 ]. وكتب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- يصف له الخوارج: "إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة"[ 38 ].وعندما قسّم الإمام علي -رضي الله عنه- أموال البصرة على من شاركَ في موَقعةِ الجمل، تكلّمت السبئية في ذلك، وخاضت في الطَّعن عليه تحتَ الخفاء[ 39 ]، هذا في سلف الخوارج...
أمّا في خَلَفِهِم: فيقول ابن أبي الحديد: "وأصبح هَمهم إخافة السبايا، وإشاعة الفساد في الأرض، واكتساب الأموال من غير طريق الحلال"[ 40 ]. مع أنهم زعموا أنهم ثاروا "من أجل الجَور في الأحكام، وتعطيل الحدود، والاستئثار بالغنى"[ 41 ].
وإذا كانت بذرة الخوارج الأولى وُجدت في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانت تتمثل في الغلاة المتطرفين، الذين جعلوا من أنفسهم موازين للحق والباطل، ومن عقولهم مقاييس للخطأ والصواب، فإن تلك البذرة لم تجد التربة الصالحة لتنمو في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قامع أسلافِهم من مانعي الزكاة والمرتدين، إلا أنها لم تَمُت، بل استمرت في النُّمو البطيء الخفي في بعض الزوايا المظلمة من العالم الإسلامي آنذاك.
أما في عهد عمر -رضي الله عنه-، فهناك رواية أوردها ابن دريد، ربما تُوحي بوجود هؤلاء القوم بين الناس، فقد ذكر أن رجلًا اسمه صبيغ بن عِسل التميمي[ 42 ]أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: "خَبِّرني عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}[الذاريات:1].
فقال له عمر: افحص رأسك..! فإذا له ضفيرتان، فلو كان مَحلوقاً لأدرك أنه من الخوارج، إذ كان من علاماتهم التحليق"[ 43 ]. وقد ذُكِرَت هذه الرواية بصيغةٍ أخرى، تقول: بأن عمر -رضي الله عنه- ضَرَبَهُ بعراجين النخل حتى أدمى رأسه، حتى قال صبيغ: "حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب الذي كنت أَجِدُهُ في رأسي"، وقرّر عمر نفيه إلى البصرة، واعتبره من الزائغين، وأمر الناس بعدم مخالطته. يقول عبد الله بن أحمد بن قدامة: "إنه عُصِمَ بتوبته تلك، عن الخروج مع الخوارج"[ 44 ]. ومن يدري، لعله اندَّس في البصرة مع بني تميم، وأكثر الخوارج منهم، وأصبح خارجيًا، وإن كنا لم نسمع أو نقرأ اسمه بين الخوارج المعروفين في بطون كتب التاريخ المعروفة لدينا.
المبحث الثالث: صلة الخوارج بالسبئية
هناك دلائل كثيرة على صِلَةِ الخوارج بالسبئية، ويكفي أن رؤوس الخوارج أيام علي -رضي الله عنه- هم من أولئك الثوار الذين خرجوا على عثمان -رضي الله عنه-، حتى ليمكنني القول: إنّ حركة الخوارج هي امتداد للثورة على الخليفة الراشد الثالث، وبخاصة بعد أن أدرك الثائرون أنّ عليًا لن يكون مطيةً لأهوائهم، وهذا صاحب الأزارقة: نافع بن الأزرق يعترف صراحةً بأنّه حضر عثمانَ يوم قُتِل[ 45 ]، ولعلّ هذا يفسر شدة معارضة الخوارج السبئية لقضية الحكومة، وكان أول من اعترض على الأشعث بن قيس حينما كان يَمُرُّ بين العشائر يقرأ عليهم كتاب التَّحكيم، هو (صالح بن شقيق) الخارجي، أحد رؤساء (مُراد) المِذحِجيّة، فقال له: لا حكم إلا الله، ولو كره المشركون[ 46 ].
فقد كانوا يخشون أن تتم المُصالحة بين المُعَسكرين المتنازعين، فيقتصّون منهم[ 47 ]. وهناك روايات عن ثقات التابعين وفقهائهم وحُفَّاظهم، تربطُ بين السبئية والخوارج الحرورية، منها:
ما ذ كره الإمام الطبري في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[آل عمران:7]، قوله: "وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: "إن لـم يكونوا الـحَرورية والسبئية فلا أدري مَن هُم. ولعمري لقد كان فـي أهل بدر والـحديبـية الذين شهدوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بـيعة الرضوان من الـمهاجرين والأنصار، خبرٌ لـمن استـخبر، وعبرة لـمن استعبر، لـمن كان يعقل أو يبصر. إنّ الـخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ كثـير بـالـمدينة والشام والعراق، وأزواجُه يومئذ أحياء، والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريًا قط، ولا رضوا الذي هم علـيه، ولا مالئوهم فـيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياه ونعته الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ويعادونهم بألسنتهم، وتشتدّ والله علـيهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الـخوارج هُدَى لاجتـمع، ولكنه كان ضَلالًا فتفرّق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله، وجدت فـيه اختلافـًا كثـيرًا، فقد ألاصُوا هذا الأمر منذ زمان طويـل، فهل أفلـحوا فـيه يومًا أو أُنـجحوا؟ يا سبحان الله كيف لا يعتبر آخرُ هؤلاء القوم بأوّلهم؟! لو كانوا علـى هُدَى قد أظهره الله وأفلـحه ونصره، ولكنهم كانوا علـى بـاطلٍ أكذبه الله وأدحضه، فهم كما رأيتهم، كلـما خرج لهم قَرنٌ أدحض الله حجتهم، وأكذبَ أحدوثتهم، وأهرقَ دماءهم، وإن كتـموا كان قَرحًا فـي قلوبهم وغَمًّا علـيهم، وإن أظهروه أهراق الله دماءهم، ذلكم والله دين سُوء فـاجتنبوه. والله إن الـيهودية لبدعة، وإن النصرانـية لبدعة، وإن الـحَرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة، ما نزل بهنّ كتاب، ولا سَنَّهنّ نبـيّ"[ 48 ].
ثم قال الطبري: "وهذه الآية وإن كانت نزلت فـيـمن ذكرنا أنها نزلت فـيه من أهل الشرك، فإنه مَعنـيّ بها كل مبتدع فـي دين الله بدعةً فمالَ قلبه إلـيها، تأويلًا منه لبعض متشابه آيِ القرآن، ثم حاجّ به وجادلَ به أهل الـحقّ، وعدل عن الواضح من أدلة آيهِ الـمـحكمات، إرادة منه بذلك اللبس علـى أهل الـحقّ من الـمؤمنـين، وطلبـًا لعلـم تأويـل ما تشابه علـيه من ذلك كائنًا من كان، وأيّ أصناف البدعة كان، من أهل النصرانـية كان، أو الـيهودية، أو الـمـجوسية، أو كان سبئيًا، أو حروريًا، أو قدريًا، أو جهميًا، كالذي قال-صلى الله عليه وسلم-: (فإذَا رَأيْتُـمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ بِهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَـاحْذَرُوهُمْ)"[ 49 ]. وإذا ألقينا بعض الضوء على قادة الخوارج، فإن ذلك يزيل كثيرًا من الغموض المحيط بنشأتهم، وبعلاقتهم بالسبئية.
فحرقوص بن زهير -كما علمنا- هو الرجل الذي اعترض على الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند توزيع الغنائم، وكان على رأس ثوار البصرة من السبئية الذين حاصروا عثمان -رضي الله عنه- وقتلوه. وقد أفلت من القصاص بالبصرة، يقول الطبري: "ونادى منادي الزبير وطلحة بالبصرة، ألا إنْ كان فيكم من قبائلكم أحدٌ ممن غزا المدينة فليأتنا بهم، فجيء بهم كما يُجاء بالكلاب، فَقُتلوا، فما أفلت منهم إلا حرقوص بن زهير السعدي، من بني تميم، وزيد بن الحصين الطائي"[ 50 ] الذي بويع خليفة للخوارج في منزله، وكان على رأس العصابة التي جاءت تُهدد عليًا -رضي الله عنه-، وتفرض عليه قبول التحكيم، وتقول له: "أجب القوم إلى ما دعوك إليه، وإلا فعلنا بك ما فعلنا بعثمان"[ 51 ]، فهذا اعتراف صريحٌ بأنه كان من تلك العناصر التي شاركت في الثورة عن الإمام الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، وقد وصفة ابن كثير كذلك: "بأنه كان من السبئية"[ 52 ].
وكذلك الأمر بالنسبة لشريح بن أوفى العبسي، فقد كان مع ابن سبأ -ابن السوداء- عند مسيرهِ إلى عثمان -رضي الله عنه-، ثم كان في جماعته قُبَيل إِنشابِ معركة الجمل"[ 53 ].
ويزيد بن قيس الأرحبي: كان أحد الذين سَيَّرهم عثمان -رضي الله عنه- في خلافته من الكوفة إلى الشام إلى معاوية[ 54 ].
أما خليفة الخوارج الأوَّل: عبد الله بن وهب الراسبي: فقد خلطت كثير من الروايات بينه وبين عبد الله بن سبأ، حتى كاد بعض الكتاب أن يقول: بأن عبد الله بن وهب الراسبي ما هو إلا عبد الله بن سبأ[ 55 ]. وفي ظنّي أنهما مختلفتان، وإن اتفقا في أن كلاهما يمني، وأهدافهما واحدة، فقد وصفه الذهبي بأنه: "كان من السبئية"[ 56 ]كما أن هناك من القرائن ما يشير إلى احتمال صلة هؤلاء القادة من الخوارج بالسبئية.
منها: ما ذكره المسعودي من أن رسول الخوارج إلى علي يوم النهروان كان من يهود السواد،[ 57 ]كما أنّ ثورات الخوارج الأولى في العراق وفارس، كانت حيث يوجد عدد كبير من اليهود[ 58 ].
كما كان رؤوس الخوارج من الثائرين على عثمان -رضي الله عنه- من أنصار ابن سبأ، فقد ذكرنا أنّ رأس الأزارقة -نافع بن الأزرق- لا يكتفي بإعلان خروجه على عثمان، بل يمتدح قتلته من الثوار، مما يؤكد أن السبئية حَضَنَت الفكر الخارجي.
وهذا ما جعل أهل السنّة يستحلون دماء الخوارج، فقال الجاحظ في ذلك: "لا نعرف فقيهًا من أهل الجماعة لا يستحل قتال الخوارج، كما أنَّا لا نعرف أحدًا منهم لا يستحل قتال اللصوص وهذا ابن عمر -رئيس الحِلسِية بزعمهم- قد لبس السلاح لقتال نجدة"[ 59 ]، إنّ العلائق الوثيقة بين رؤوس الخوارج وبين ابن سبأ تجعلني أميل إلى أَنَّ حركة الخوارج قد نمت وترعرعت في أحضان السبئية.
المبحث الرابع: فرق الخوارج
انقسمت الخوارج إلى عدة فرق، أشهرها:
أولاً: الأزارقة: وهم أتباع نافع بن الأزرق
وهو من بني حنيفة (أتباع مسيلمة)، ولهم جملة من الآراء يمتازون بها عن بقية الفرق، منها:
يعتبرون مخالفيهم مشركين مخلدين في النار، ويَحِلُّ قتلهم وقتالهم.
يعتبرون دار مُخالفيهم دار حَرب، فيباح فيها قتل الأطفال، والنساء وَسَبيِّهِن، واسترقاق مخالفيهم.
يذهبون إلى أن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار.
يذهبون إلى إسقاط حد الرجم عن الزاني، إذ ليس له في القرآن ذكر، وإلى إسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال، حيث لم يرد النص على ذلك.
يجوّزون على الأنبياء الصغائر والكبائر!
ثانيًا: النجدات: وهم أتباع نجدة بن عويمر
من بني حنيفة كذلك، وقد خالفوا الأزارقة في تكفير قَعَدَةِ الخوارج، واستحلال قتل الأطفال، ولا يرون وجوب تنصيب إمام وجوبًا شرعيًا، بل هو واجب وجوبًا مَصلحيًا، ويرون أن مرتكب الذنب إذا كان من الخوارج، فهو معفو عنه، وإن كان من غيرهم فغير مَعفو عنه.
ثالثًا: الصفرية: وهم أتباع زياد بن الأصفر
وهم في آرائهم أقلّ تطرفًا من الأزارقة، وأشدّ من غيرهم.
رابعًا: العجاردة: وهم أتباع عبد الكريم بن عجرد،
ولا يرون وجوب الجهاد ولا يُسيغون القعود عن القتال، ولا يرون أن الهجرة من دار المخالفين واجبة.
وهناك فرقة ينسبها بعض الكاتبين في الفرق والطوائف للخوارج، وهي فرقة الإباضية، والبعض الآخر يرى أنها ليست منهم، وأميل لقول البعض الآخر، خاصّة وأن الإباضيين أنفسهم يتبرؤون من الخوارج[ 60 ].
وقد جاء في كتب الفرق ذكر طائفتين من الخوارج ممن نادوا بمبادئ تعد خُروجًا صريحًا من الإسلام وهما:
- اليزيدية: أتباع يزيد بن أنيسة الخارجي، ادعى أن الله سبحانه سيبعثُ رسولًا من العجم يُنَزِّلُ عليه كتابًا ينسخ الشريعة الإسلامية.
- الميمونية: وهم أتباع ميمون العَجردي، وقد أباح نكاح بنات الأولاد، وبنات أولاد الإخوة والأخوات، وقال في عِلَّة ذلك: "إنّ القرآن لم يذكرهن من المحرمات، كما أنكروا أن سورة يوسف من القرآن، لأنها قصة غرام في زعمهم، قبحهم الله لسوء ما يعتقدون.
ولم يقف انقسام الخوارج عند حدود ما ذكرناه فحسب، بل تجاوزت فرقهم العشرين فرقة[ 61 ].
المبحث الخامس: آراء الخوارج العامة ومبادئهم وتفسيراتهم
دبت جرثومة التفرق في الخوارج، وأُصيبوا بداء التحزّب، فبلغت أحزابهم أكثر من عشرين حِزبًا، وكل حزبٍ يفارق الآخر في المبدأ والعقيدة[ 62 ]، إلا أنهم أجمعوا على المبادئ التالية:
ذهبوا الى القول بتـكـفـير الإمامين علي وعثمان، والحَكَمَين، وأصحاب الجَمل رضي الله عنهم، وكل من رضي بتحكيم الحَكَمين.
قالوا: إنّ مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب فهو مخلد في النار، وأما صغائر الذنوب، فإن الإنسان إذا تاب منها فالله يغفرها له.
أنكروا التقيّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأوا وجوب المواجهة على أيةِ حال، وإنْ أدّت إلى القتل.
يرون أن الخلافة حقٌ لكل مسلم مادام كفؤًا، ولا فرق في ذلك بين القرشي وغير القرشي.
قالوا: إنّ بعث الأنبياء وإرفاقهم بالمعجز ليس بواجب، إذ يجوز أن يبعث الله الأنبياء من غير معجزة ولا آية تثبت نبوتهم، وإن إرسال الأنبياء وإرفاقهم بالمعجزة، هو من باب اللطف والفضل على العباد.
ويجوز عندهم أن يكون الأنبياء -قبل البعثة- من أهل الفسق والكفر، كما يُجَوِّزون على الأنبياء بعد بَعثهم: الكفر، وارتكاب الصغائر، والسهو، والنسيان.
يجيزون قتل أطفال المخالفين لأفكارهم، واستباحة نسائهم.
قالوا: إنّ القرآن هو كلام الله المنزّل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بواسطة جبرائيل، وأنه مخلوق مثل بقية الأشياء.
قالوا: إنّ كل خبر وَرَد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يخالف ظاهرَ الكتاب لا يُعمل به، وإنّ كل خبر لا يكون متواترًا لا يجوز أن يُتّخذ دليلًا.
أوجبوا الخروج على السلطان الجائر.
ينفون الصفات كالمعتزلة، والجهمية، والإسماعلية، ويؤولون ما ورد من الصفات الخبرية[ 63 ].
رفعوا شِعارَ: لا حكم إلا الله، وهي "كلمة حق أريد بها باطل" كما قال سيدنا علي -رضي الله عنه-، ورفعوا شعار: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالسبئية.
ولم يكن للخوارج إنتاجٌ تفسيري مثل ما كان لأهل السنة، أو للمعتزلة، أو للشيعة، أو غيرهم من الفرق الاسلامية، ولم يصل إلينا إلا بعض التفسيرات والتأويلات المنحرفة. وذهب كثيرٌ من الباحثين إلى أن الخوارج أهل نَصّ، أخذوا بحرفية الكتاب. والقارئ لتاريخ الخوارج، ولبعض ما كتبوه في التفسير، يرى أن المذهب قد سيطر على عقولهم وتَحَكَّمَ فيها، فأصبحوا لا ينظرون إلى القرآن إلا على ضَوئه، ولا يدركون شيئًا من معانيه إلا تحت تأثير سلطانه، فما رأته من النصوص في جانبها -ولو ادِّعاءً- تمسكت به، واعتمدت عليه، وما رأته في غير صالحها حاولت التخلص منه بتأويله، بحيث لا يبقى متعارضًا مع آرائها وتعاليمها، وترجع قلة تفاسيرهم وتأويلاتهم لاستمرارهم في الثورة الدائمة، والصراع الدامي، منذ نُشوئهم إلى أن قُلِّمَت أظافرهم، وكُسِرَت شوكتهم[ 64 ].
والخوارج يُجمِعُون على أن مرتكب الكبيرة كافر، ومخلّد في نار جهنم، فاستندوا إلى آيات فسّروها بما يؤيد وِجهَةَ نظرهم، من ذلك مثلًا: تفسيرهم لقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[آل عمران:106]، قالوا: والفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم، فوجب أن يكون ممن اسودت، ووجب أن يسمى كافرًا، لقوله {بما كنتم تكفرون}.
ومنها: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[التغابن:2]،
قالوا: هذا يقتضي أنّ من لا يكون مؤمنًا فهو كافر، والفاسق ليس بمؤمن، فوجب أن يكون كافرًا.
ومنها: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]، قالوا: فجعل تارك الحج كافرًا[ 65 ].
هذا تفسير الخوارج لبعض الآيات ليؤيّدوا موقفهم من مرتكب الكبيرة الذي لم يتب. والذي يَعرِفُ سياقَ الآيات وسباقها، ويعرف الآيات والأحاديث الواردة في شأن عُصاةِ المؤمنين، لا يَسَعهُ إلا أن يحكم من خلال هذا التفسير: بأن القوم متعصّبون لآرائهم، وسطحيون في فهمهم لآيات القرآن الكريم، وإدراك معانيه[ 66 ].
الفصل الثاني: ظاهرة التأويل في الفكر الاسلامي
لم يكن التأويلُ وَقفًا على عَصرٍ دون عصر، فقد وُجِدَ منذ عصر الصحابة -رضوان الله عليهم- وكان ذائعًا شائعًا بينهم، قال الآمدي (631هـ): "وإذا عرفتَ معنى التأويل، فهو مقبولٌ معمولٌ به إذا تحقق بشروطه، ولم يزل علماء الأمصار في كل عصر من عهد الصحابة إلى زمننا، عاملين به من غير نَكير"[ 67 ]، ويدلنا على ذلك اجتهادات ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما من أعلام الصحابة[ 68 ]، بالإضافة إلى الآثار المَروِيَّة عن كبار الصحابة، التي تُحَذِّر من شَطَطِ التأويل. من ذلك: ما رواه عمرو بن دينار قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إني أخاف عليكم رجلين: رجلٌ يتأول القرآن على غير تأويله، ورجلٌ يُنافس أخاه على المُلك"[ 69 ].
وعن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاهُ إيمانُهُ، ولا من فاسق بَيِّن فِسقُه، ولكني أخاف عليها رجلًا قد قرأ القرآن حتى أَذلَقَهُ بلسانه، ثم تأوَّلَهُ على غير تأويله"[ 70 ].
كما كان أهل الرأي والعلم بالمرصاد للمُؤَولين الذين لا يريدون وجه الحق في تأويلاتهم، وغير المستندة إلى أدلة الشرع، أو مخالفة لحِكمَةِ التشريع، أو الناتجة عن خطأٍ في الفهم، كفعلِ أبي بكر -رضي الله عنه- بالمرتدين، الذين أوَّلوا آية الزكاة على غير وجهها[ 71 ]. وكما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقدامة بن مظعون[ 72 ]، وصبيغ بن عِسل التميمي، وأمثالهم. ولم يقف التأويل عند عصر الصحابة، بل تعداهم إلى عصر التابعين[ 73 ]، فهو منهج من مناهج الاجتهاد بالرأي، أو كما يقول الإمام أبو زهرة: "باب من أبواب الاستنباط العقلي"[ 74 ].
المبحث الأول:
أ - التأويل في اللغة:
تدور مادة التأويل في اللغة على عدة معان، منها:
الرجوع، والعود، والمآل، والعاقبة، والمصير. نقِلَ الأزهري (ت370هـ) عن ثعلب(ت291هـ)، عن ابن الأعرابي (ت230 هـ) قوله: "الأَولُ: هو الرجوع"[ 75 ].
وقال ابن فارس (ت395هـ): "قال يعقوب (ت 244هـ): أوَّلَ الحكم إلى أهله: أي: أرجعه[ 76 ] وردّه إليهم"[ 77 ]، وقد جمع ابن منظور (ت711هـ) كل ما يتصل بمادة (أوّل) ومشتقاتها، وما استعملت فيه من معاني، فمن ذلك قوله: "ألتُ عن الشيء: ارتددت عنه، وفي الحديث: (من صام الدهر فلا صامَ ولا آل)، أي: لا رجع إلى خير. والأَولُ: الرجوع. وآل الشيء يؤول أولًا ومآلًا: رجع. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت209هـ): "التأويل: المرجع والمصير. وأول الكلام، وتأوله: دبره، وقدره"[ 78 ].
التفسير، والتدبر، والبيان. قال ابن جرير الطبري (ت310هـ): "وأما معنى التأويل في كلام العرب فإنه: التفسير والمرجع والمصير"،[ 79 ]وقال الأزهري (ت370هـ): "وسئل أبو العباس ثعلب، أحمد بن يحيى (ت291هـ) عن التأويل، فقال: التأويل والتفسير بمعنى واحد. وقال الليث: التأوُّلُ والتأويل: تفسير الكلام الذي تختلف معانيه"[ 80 ].
وقال ابن فارس: "معاني ألفاظ العبارات التي يعبر بها عن الأشياء مَرجِعُها إلى ثلاثة، وهي: المعنى، والتفسير، والتأويل، وهي وإن اختلفت، فإن المقاصد بها متقاربة"[ 81 ]، وقال الجوهري (ت400هـ): "التأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء"[ 82 ]، وقال ابن منظور: "وأوله وتأوله –أي الكلام:فسّره"[ 83 ]. ومما سلف يمكنني اختصار معاني التأويل في اللغة في معنيين هما: المرجع والعاقبة، والتفسير والبيان.
ب- التأويل في الاصطلاح
أولاً: معنى التأويل في اصطلاح المتقدمين:
يُطلَقُ مصطلح التأويل في اصطلاح المتقدين من السلف وأهل القرون الثلاثة الأولى على معنيين هما :
الأول: تفسير اللفظ وبيان معناه، وهذا كثير في استعمالات السلف.
جاء في الحديث الذي رواه جابر -رضي الله عنه- في وصف الحج قوله: (ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به)[ 84 ]يعني: تفسيره وبيانه بأقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم-. قال ابن القيم: "فعلْمه -صلى الله عليه وسلم- بتأويله هو: علمه بتفسيره وما يدل عليه، وعَمَلُه به: هو تأويل ما أمر به، ونهى عنه"[ 85 ].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسيره للآية السابعة من سورة آل عمران: "أنا ممن يعلم تأويله"[ 86 ]. ونرى ذلك كثيرًا في تفسير الإمام الطبري، حيث يستخدم التأويل بمعنى التفسير، فيقول: "وقال أهل التأويل" ثم يورد أقوال المفسرين.
الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام،
أي: "وقوع المُخبَر به في وقته الخاص إذا كان الكلام خبرًا، أو امتثال ما دل عليه الكلام وإيقاع مطلوبه إذا كان الكلام طلبًا، وهو معنى يرجع إلى العاقبة والمصير"[ 87 ]. ومنه قول السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي...يتأول القرآن)[ 88 ]. قال الحافظ ابن حجر: "وقولها: يتأول القرآن، أي: يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال"[ 89 ]، فالتأويل هنا: حقيقة ما أمر به في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، ومنه قول ابن عيينة: "السنّة هي: تأويل الأمر والنهي"[ 90 ].
ومما سبق يمكنني القول: لقد عرف الصحابة والتابعون معنيين للتأويل:
الأول: المآل والعاقبة، وهو ما نجده مُكَررًا في آيات القرآن الكريم.
والثاني: بمعنى التفسير، والبيان، وهو ما دعا به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس رضي الله عنهما، وظلّ هذان المعنيان معروفين للسلف إلى أن ظهرت الفرق الإسلامية المختلفة منذ عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فكان للتأويل اصطلاح آخر، انتشر ببطء في الفكر الإسلامي، وتلوّن بلون كل فريق ومذهب، وأخذ يُشَكّل معارضةً هادئةً للإسلام، معتمدًا على الآيات بتحريف دلالاتها، أمام استحالة التغيير للنص المحفوظ، وكانت محاولات هؤلاء على قلتها تُعتبرُ البدايات الأولى للتأويل الباطني الفاسد، وليس أدلَّ على ذلك من قول قتادة (ت117هـ) عند قراءته لقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}[آل عمران:7]: "إن لم يكونوا الحرورية والسبئيين فلا أدري من هم... إلى أن يقول: والله إن اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدعة، وإن الحرورية -أي الخوارج الذين انحازوا إلى بلدة حروراء بالعراق- لبدعة، وإن السبئية لبدعة، ما نزل بهن كتاب، ولا سَنَّهُنَّ نبي"[ 91 ].
وقال الطبري عند تفسيره لقوله تعالى {فأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ..}[آل عمران: 7]: "هذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه مَعنِيٌ بها كل مبتدع في دين الله... من أهل النصرانية كان، أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئيًّا، أو حروريًّا، أو قدريًّا، أو جهميًّا"[ 92 ].
لقد وجد السبئيون والباطنيون عمومًا -ومن نسج على مِنوالهم- في التأويل مُتَنَفَسًا لتعاليمهم يتجاوزون بها الحدود الظاهرة لمعاني الكلم، أو كما يقول البغدادي: "إن الباطنية احتالت لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة"[ 93 ]، فقام العلماء من مفسرين ومحدّثين وفقهاء وأصوليين وغيرهم بالتَّصدي لهم، وبيّنوا معنى التأويل، وأدلته، ومجالاته، وقاموا بوضع الضوابط والشروط للتأويل الصحيح، لمنعِ المبتدعين من تحريف نصوص الآيات، والخروج بها عن معانيها المرادة.
وهنا يجب أن نُفَرِّق بين تأويلٍ مشروع -يستخدمه المفسرون وغيرهم- بمعنىً يَقرُبُ قليلًا أو كثيرًا من معنى التفسير، للكشف عن المعنى وفهمه، حين يصرف المتأول اللفظ عن ظاهره، أو معناه الراجح إلى معنى آخر مرجوح بدليل صحيح، وبين تأويلٍ مُستكره يَحكُمُه الهوى والهوس والاعتقاد الفاسد، ويتعسف في فَهمِ اللفظ، ويفسره على معنى بعينه يُطابق مُعتقده. وذلك كمن يصرف اللفظ القرآني عن ظاهره أو معناه القريب الراجح إلى معنى بعيدٍ مَرجوح، اعتمادًا على ما يظنه دليلًا، وهو ليس كذلك، كما فعل الخوارج وغيرهم في القديم، وذيولهم في الحديث.
ثانيًا: معنى التأويل في اصطلاح المتأخرين
قال ابن الجوزي: "التأويل: نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل، لولاه ما ترك ظاهر اللفظ"[ 94 ].
وقال جمال الدين عثمان بن عمر المشهور بابن الحاجب (ت646هـ): "التأويل: هو حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، بدليل يصيره راجحًا"[ 95 ].
"وهذا المعنى المحتمل الذي يؤول إليه اللفظ معنى مرجوح، لأنه خلاف المعنى الحقيقي الظاهر المتبادر، ومع ذلك فإن دليل التأويل الأقوى، يُصَيِّر هذا المعنى المرجوح راجحًا، أي يغلب على ظَنِّ المجتهد أنه مراد الشارع، كما رجّحه الدليل.. ومن ثَمّ: يمكن الإقرار بما لا يخالف الكتاب والسنة، وعدم التردد في رفض كل ما يخالفهما"[ 96 ].
والتعريف الاصطلاحي للتأويل في اصطلاح المتأخرين أصبحَ في عُرف المتكلمين والفقهاء والمفسرين هو الذي ينصرف إليه الذهن عند الإطلاق، وأصبح شائعًا ومتعارفًا عليه بين المتأخرين، ويبدو أن استعماله بهذا المعنى استوجبته دواعي كثيرة، كان من أبرزها: مُواجهة التأويلات المنحرفة التي بدأت بالبروز في المجتمع الإسلامي في وقت مبكر، والتي كانت مُستَندًا لكثير من النزعات الطائفية والشعوبية، والفرق الضالة، وبعض الأعاجم الذين تسربلوا بالإسلام، ولم يتجرّدوا من مواريثهم العَقَدية، وتركاتهم الثقافية، وأرادوا الكيد للإسلام من الداخل.
المبحث الثاني: أنواع التأويل
أولاً: التأويل المقبول: ضوابطه، وشروطه، وأدلته
صاحبت ظاهرة التأويل للنص الديني منذ أن نزلت أول كلمات الله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحاول المسلمون تفهّم القرآن، واستنباط الأحكام منه، إلا أن الأَعراض التي استوجبت الاشتغال به، لم تكن قد ظهرت بصورة تُشَكِّل ظاهرة، فلم يكن ثَمّة حاجة للتأويل.. ولا يعيب المشتغلين بالتأويل المنضبط بأدلة الشرع، الهادف لإبراز المعنى الصحيح المحتمل والمناسب للنص عدمُ اشتغال الصحابة به، فهناك علوم كثيرة لم يشتغل بها الصحابة، مثل: علم أصول الفقه، واللغة، وغيرها، وقد ورد في الحديث عن سيد الثقلين، أنّ ابن عباس -رضي الله عنهما- قدَّمَ له وضوءه فقال: من فعل هذا... ؟ فقلت: أنا يا رسول الله ، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعَلِّمه التأويل)[ 97 ]، ففي هذا الدعاء من الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس رضي الله عنها دليل إقراره -صلى الله عليه وسلم- للتأويل الصحيح.
لقد كان التأويل الصحيح أداةً لسبرِ أغوار النص الديني، واكتشاف طاقاته المُعَبِّرة، وعمل التأويل في بيئة المفسرين والفقهاء على توسيع آفاق النص، حتى يستغرق مُتَجَدد أحداث الحياة، وعمل على التوفيق بن الآراء والنصوص التي تبدو متعارضة. واستغلالُ التأويل من قبل الفرق الضالة المنحرفة الذين شَوَّهوا الدلالات اللغوية وصَرفوا النصوص الدينية عن ظاهرها المراد إلى معانٍ باطنية غير مرادة في النص، لمناصرةِ مذاهب فاسدة ونِحَلٍ باطلة، دفع المشتغلين بالنص الديني من مفسرين ومحدّثين وفقهاء وأصوليين ومتكلمين إلى استنباط تعريف للتأويل الصحيح، وبيّنوا أنواعه ومجالاته وشروطه وضوابطه، ليتمكن المشتغلون بالنص الديني من التعرف على صحيح التأويل من فاسده، ومتى يكون التأويل وكيف يكون، وليدركوا ما حَرَّفَه أصحاب المذاهب الضالة من آيات خرجوا بها عن معانيها المرادة، وقواعد اللغة، وأصول الشريعة.
ومن أهم هذه الشروط والضوابط، ما يلي:
أولًا: أن يكون المُتأول ممن تَوافرت فيه شروط الاجتهاد، عالماً بأسباب التأويل ومجالاته، مُلِماً بمدلولات الألفاظ، ومقاصدها، عالمـًا بروح الشريعة الإسلامية وأدلتها، وله دراية بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ[ 98 ]، فإن فُقِدَت هذا الشروط في المُؤَول لم يكن أهلاً للتأويل.
ثانيًا: أن يكون المعنى الذي أُوِّلَ إليه اللفظ من المعاني التي يحتملها اللفظ نفسه، قابلًا للمعنى الذي يصرف إليه، إذا كان بينه وبين اللفظ نسب من الوضع اللغوي، أو عُرف الاستعمال أو عادة الشرع[ 99 ]، فقد جرت عادة الشرع على تخصيص العام[ 100 ]في كثير من نصوصه، مثل قصر الوجوب في كلمة (الناس) في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97] على المُكَلَّفين، دون الصبيان والمجانين.
كذلك تقييد المطلق[ 101 ]جرت به عادة الشرع، واللغة لا تأباه، فقد قام الدليل على تقييد (الوصية) المطلقة في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء:12] بالثلث، في قوله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: (الثلث والثلث كثير، إنك إن تَذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)[ 102 ].
فالعامُّ إذا صُرِف عن العموم، وأريد به بعض أفراده بدليل، فهو تأويل صحيح، لأن العامَّ يحتمل الخصوص، وحين يراد به بعض أفراده، فقد أُوِّلَ إلى معنى يحتمله. والمطلق إذا صُرف عن الشيوع، وحُمل على المقيّد بدليل، فهو تأويل صحيح[ 103 ].
أما إذا كان المعنى الذي صُرِف إليه اللفظ من المعاني التي لا يحتملها اللفظ نفسه، ولا يدل عليها وجه من وجوه الدلالة، فلا يكون التأويل صحيحًا مقبولًا. وعلى هذا فإن التأويل لا يدخل في النصوص الدالة على أحكام أساسية تعتبر من العقائد وقواعد الدين، ولا تتغير بتغير الزمن: كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر.
وكذلك النصوص الدالة على أحكام هي من أمهات الفضائل، وقواعد الأخلاق التي تُقِرها الفِطَر السليمة، ولا تستقيم حياة الأمم بدونها، كالوفاء بالعهد، والعدل، وأداء الأمانة، والمساواة أمام الشريعة، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والصدق، والنصوص التي تحرم أضدادها من: الكذب، والخيانة، وعقوق الوالدين، والنصوص التي اقترن بها ما يفيد التأبيد، وغيرها من القواعد الأساسية، التي لا تحتمل تأويلًا ولا نسخًا، منذ أوحي بالنصوص التي تقررها[ 104 ].
ثالثًا: أن لا يتعارض التأويلُ مع نصوصٍ قطعية الدلالة، لأن التأويل منهج من مناهج الاستدلال والاستنباط الاجتهادي الظني، والظني لا َيقوى على مُعارضة القطعي، كتأويل القصص الوارد في القرآن الكريم، بصرفها عن معانيها الظاهرة إلى معان أخرى تُصَيِّرُها خيالية لا واقع لها، وهذا التأويل معارضٌ لصريح الآيات القاطعة التي تدل على أن لها واقعًا تاريخيًا[ 105 ].
رابعًا: أن يستند التأويل إلى دليلٍ صحيح يدل على صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى غيره، لأن الأصل هو العمل بالظاهر، إلا إذا قام دليل على أن المراد باللفظ هو المعنى الذي حُمِلَ عليه. فالمطلق على إطلاقه، ولا يعدل عن هذا الظاهر إلى التقييد إلا بدليل يدل على إرادة هذا القيد، والنهي ظاهِرُهُ التحريم، فَيُعمل به، حتى يدل الدليل على العدول عنه إلى الكراهية[ 106 ].
ثانيًا: التأويل الباطني الفاسد المردود وسـماته
التأويل الفاسد المردود هو ما يخالف التأويل الصحيح المقبول، أو هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره بغير دليل. أو بشُبهةٍ يَظنُّها المُؤَول دليلًا وليست بدليل، أو صُرِفَ فيه الظاهر إلى ما لا يحتمله أصلًا بوجه من وجوه الدلالة، لتقرير مذاهب فاسدة مخالفة لظواهر الكتاب والسنة، ولِمَا أجمع عليه المسلمون. أو لكونه مناقضًا لوحدة التشريع في قواعده العامة المحكمة، وللأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، كتأويلات الباطنية القائمة على الهوى، وأمثالهم من أصحاب المذاهب الهدّامة.
وللتأويل الفاسد المردود سِماتٌ تُلازمه ولا تُفارقه أبدًا، منها:
1 - عدم انضباطه تحت ضوابط محددة، كما يفعل الباطنيون من أرباب الفرق الضالة، لذا كان من أبرز سمات تأويلهم: الاضطراب الفكري والعقدي. يذكر القاضي الإسماعيلي في كتابيه (تأويل الدعائم)[ 107 ]و(أساس التأويل)[ 108 ]وجوهًا متعددة من التأويل لبعض المسائل، ويعلّل هذا الاختلاف بأنّ الناس مختلفة المراتب والطبقات، فما يصلح لِحَدٍ من الحُدود، لا يصلح لِحَدٍ آخر، فتعدّد التأويلات راجع لتعدد مراتب الحدود.
2 - الاختلاف والتفرّق في الدين: إنّ من أعظم الدعائم التي دعا إليها الشارع الحكيم جمع الكلمة وتوحيد الصف، وعدم التفرق في الدين، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى: 13]، والذين سلكوا مسلك التأويل الفاسد، هم أبعد الناس عن طاعة الله في هذا الأمر.
3 - التأويل الفاسد خارجٌ عن احتمالات اللفظ، ولا يوجد له دليل شرعي أو لغوي.
4 - مخالفته لمقاصد الشريعة وعلومها، وللمعاني اللغوية وحدودها التي وضعت لها.
5 - إن من أبرز سمات أهل التأويل المذموم، التناقض في الأقوال والأفعال، لأنّهم لما صرفوا ظواهر النصوص الشرعية بلا دليل، ولا برهان، إلى معان تخيّلوها في أنفسهم: كان التناقض سِمَتهم، والتعارض الفكري علامتهم، والضلال والاضطراب نصيبهم. يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: "فكل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية، فإنه لا بد أن يَضِلَّ ويتناقض"[ 109 ].
وفساد التأويل عمومًا يتأتى من كونه لا مُوجِبَ له، أو ليس له دليل يؤيده، أو صُرِفَ فيه الظاهر إلى ما لا يحتمله أصلًا بوجه من وجوه الدلالة، لتقريرِ مذاهب فاسدة، مخالفةً لظواهر الكتاب والسنة، ولما أجمع عليه المسلمون. أو لكونه مناقضًا لوحدة التشريع في قواعده العامة المحكمة، وللأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، كتأويلات الباطنية القائمة على الهوى، وأمثالهم من أصحاب المذاهب الهدامة كالخوارج وغيرهم.
المبحث الثالث: نماذج من تأويلات الخوارج الفاسدة وتفنيدها
الأنموذج الأول:
أوَّل الخوارج آيات من القرآن الكريم، وجعلوها تحمل معاني مذهبهم، فعندما كفّروا عليًا-رضي الله عنه- قالوا: إن الله أنزل في شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}[البقرة:204]. وصوبوا ابن مُلجم وقالوا: إنّ الله أنزل في شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:207]! وفي ذلك يقول شاعرهم عِمران بن حطان:
يا ضَربةً من تقيٍّ ما أراد بها
إلا ليبلغَ من ذي العرش رضوانًا
إني لأذكُره يوماً فأحسبُهُ
أوفَى البرية عند الله ميزاناً[ 110 ]
وكتأويلهم لقوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:71]، فزعموا أن عليًّا -رضي الله عنه- لهو الحيران، وأنّ أصحابه الذين يدعونه إلى الهدى هم أهل النهروان[ 111 ].
وهذه التأويلات غير مقبولة، لا عقلًا ولا نقلًا:
فعدم قبولها من جهة العقل: لأنّ الإمام علي -رضي الله عنه- من أوائل المؤمنين، بل أول من آمن من الفتيان، ونشأ في بيت النبوة، وكان من الذين جاهدوا في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصرة رسوله، وبشّره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجنة. فقد روى الترمذي وأبو دواد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عَيَّن عشرة بأسمائهم في مقدمتهم الخلفاء الراشدين، وبشّرهم بالجنة قال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة[ 112 ]، وسعيد في الجنة[ 113 ]، وأبو عبيدة ابن الجراح في الجنة)[ 114 ]، وفضائلهم أكثر من أن تحصى[ 115 ].
وقد روى الخطيب البغدادي عن أبي زرعة قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كلمة الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة"[ 116 ].
وقال الإمام ابن أبي حاتم الرازي: "فأما أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونصرته، وإقامة دينه وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلامًا وقدوة، فحفظوا عنه -صلى الله عليه وسلم- ما بلغهم عن الله عز وجل، وما سنَّ وما شرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدَّب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده، بمعاينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه"[ 117 ].
أبعْدَ هذا يمكننا قبول تأويل الخوارج الذي يتّفق وأهداف السبئية في الغَضِّ من مكانةِ صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام بل أكابر الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- فيطعنون فيهم، وينسبون إليهم الكفر، لتغطية ضلالهم، وتبرير انحرافهم؟ {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}[الكهف:5]، فهذا تأويل فاسد، وتحريف لمعاني آي القرآن، يؤكد صواب من حكم عليهم بالضلال والمروق من الدين. ثم إنّ المفسرين ذكروا سبب نزول الآية، وقالوا نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، كان رجلًا حلو المنطق إذا لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألَانَ له القول، وادّعى أنه يحبّه، وأنه مسلم، وقال: يعلم الله إني صادق. وقيل: هو عام في المنافقين كانت تحلو له ألسنتهم وقلوبهم أمرّ من الصبر[ 118 ].
فمعرفة سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن، كما يقول ابن دقيق العيد[ 119 ]، ويعينُ على فَهم الآية، فإنّ العلم بالسبب يورث العلم بالمسبّب، كما يقول ابن تيمية[ 120 ]، فمعرفتنا لسبب نزول الآية دفعت التهمة عن الإمام علي -رضي الله عنه- والتي أراد الخوارج إلصاقها به. وحتى لو قلنا بأن العبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب.... فشتان بين صفات الإمام علي -رضي الله عنه- وصفات المنافقين الواردة في الآية الكريمة.
الأنموذج الثاني:
أجمع أهلُ السنة والجماعة على أنّ الكبائر نوعان:
النوع الأول: كبيرة الشرك، وهي أكبر الكبائر، وتدعى الكبيرة المطلقة[ 121 ]، وصاحبها كافر مخلد في النار، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}[النساء:116].
وجاء في صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من مات مشركٌ بالله شيئاً دخل النار)[ 122 ].
النوع الثاني: هي الكبائر التي ما دون الشرك، وهي كما ورد في الحديث تسع: (قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، والزنا، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والسحر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)[ 123 ].
فقال أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة التي ما دون الشرك أنه مؤمن، فكبيرته لا تُخرجه من الإيمان، ولا تدخله في الكفر، لبقاء التصديق الذي هو حقيقة الإيمان، ولكنه يعاقب عليها[ 124 ].
ويستدل النسفي على ذلك بأمرين[ 125 ]:
أ- إجماع الأمة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى وقته، الصلاة على من مات من المسلمين من غير توبة والدعاء له، ودفنه في مقابر المسلمين مع علمها بحاله.
ب- إطلاق القرآن لفظ الإيمان على العاصي. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:178].
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التحريم:8].
وقد رفض الخوارج حكم أهل السنة في مرتكب الكبيرة، ووضعوا لها حكمًا مخالفًا فقالوا: إنّ مرتكب الذنوب كبيرة كانت أو صغيرة كافر مخلد في النار، ذلك لأنّهم كانوا لا يعتبرون الإيمان تامًا بدون العمل[ 126 ]. ولتأييد ما ذهبوا إليه في مجال العقيدة من أن مرتكب الكبيرة كافر، وأن من مات ولم يتب فهو من الخالدين في جهنم، أوَّلوا -بل حرّفوا- معاني جملة من الآيات، وابتعدوا بها عن المعنى المراد، منها قوله تعالى: {فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]. فقالوا: إنّ الله وصَفَ تارك الحج بالكفر، وترك الحج ذنب، فإذن: كل مرتكب للذنب كافر!!
واستشهدوا أيضًا بالآية التالية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[آل عمران:106].
وقالوا: إنّ الفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم، فوجب أن يكون ممن اسودت وجوههم، ووجب من ثَمّ أن يسمّى كافرًا، وأيضًا بقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ*ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ*وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ*تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ*أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}[عبس:38-42]، والفاسق لا يمكن أن يكون من أصحاب الوجوه المسفرة، والضاحكة المستبشرة "فالفاسق على وجهه غبرة، فوجب أن يكون من الكفرة"[ 127 ].
وهذه الآيات التي استشهد بها الخوارج وأوّلوها إلى المعاني التي تتماشى وعقيدتهم الضالة، وإن أدّى بهم ذلك إلى تحريف المعاني المرادة من آيات كتاب الله، ومن غير اعتبار للآيات الأخرى التي تصف مرتكب الكبيرة بأنه مؤمن، ومن غير اعتبار كذلك لعمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسنته التي تبيّن القرآن وتفسّره. وهذه الآيات التي احتج بها الخوارج تصف حال المؤمنين والكفار في الآخرة، فبينما تبيض وجوه المؤمنين ويعلوها البِشْر، تَسوَدُّ وجوه الكفار وتعلوها الغبرة[ 128 ]، فالحديث هنا ليس عن عصاة المؤمنين. كما أن آية الحج ليس الكفر فيها وصفًا لمن لم يحجّ، إنما الكفر فيها وَصفٌ لمن أنكر فريضة الحج، وجحد وجوبها[ 129 ].
وقد أدرك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- خطأَ نهج الخوارج في تأويل القرآن وفهمه، وإهمالهم للسنّة المبيّنة له، ومن ثَمّ جادلهم لا بنصوص القرآن فحسب، بل أورد لهم عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسنته، وبيّن لهم أن الخطأ في العمل لا يقتضي الكفر، حيث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- "رجم الزاني المحصن ثم صلّى عليه ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله، وقطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء وأنكحهما المسلمات. فأخذهم رسول الله بذنوبهم، وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله"[ 130 ]، وهكذا نجد أن أسلاف الخوارج كما قال الإمام ابن حزم: "كانوا أعرابًا قرأوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن منهم أحد من الفقهاء، لا من أصحاب ابن مسعود ولا أصحاب عمر... ولهذا تجدهم يكفّر بعضهم بعضًا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها"[ 131 ]. فما ذهب إليه الخوارج من تأويل لتأييد مذهبهم بأنّ مرتكب الكبيرة كافر ومخلّد في النار إذا خرج من الدنيا ولم يتب، ليس من التأويل المقبول في شيء، بل هو تحريف لمعاني آي القرآن الكريم، والابتعاد بها عن منهج الحق الذي جاءت توضّحه للناس، وتحملهم على سلوكه، إلى مسلك الباطل الذي جاءت تحاربه وتحذّر الناس منه. ولذلك كان ما ذهبوا إليه ينافي التشريع الإلهي الذي نستمده من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}[النساء:116]، فهذه الآية الكريمة نصٌّ في أن الذنب الذي لا يغفره المولى -سبحانه- هو الشرك، وما عداه من الذنوب حتى وإن كانت كبيرة، يغفرها سبحانه تفضلًا منه لمن يشاء، وهذا ما أكّدت عليه السنّة النبوية، فقد أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره وهو يؤوّل هذه الآية إلى المعنى المراد منها -ثلاثة عشر حديثًا- من أحاديث كثيرة تؤكد ما ذهبنا إليه... منها:
حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: (خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو ذر جعلني الله فداك. قال: يا أبا ذر، تعاله، قال: فمشيت معه ساعة، فقال: إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرًا، فنفح فيه عن يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرًا، قال: فمشيت معه ساعة فقال لي: اجلس ههنا، قال فأجلسني في قاعٍ حوله حجارة، فقال لي: اجلس ههنا حتى أرجع إليك، قال: فانطلق في الحرّة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول: وإن سرق وإن زنى؟ قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله -جعلني الله فداك- من تكلّم من جانب الحَرَّة؟ ما سمعت أحدًا يرجع إليك شيئًا! قال: ذاك جبريل، عرض لي من جانب الحرة فقال: بشّر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، قلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى، قال: نعم، وإن شرب الخمر)[ 132 ].
وقال الفخر الرازي في تفسيره: "وهذه الآية من أقوى الدلائل لنا -أي لأهل السنة- على العفو عن أصحاب الكبائر"[ 133 ]. وقال الألوسي: "إن هذه الآية كما يُردّ بها المعتزلة، يُردّ بها على الخوارج، زعموا أن كل ذنب شرك، وأنّ صاحبه مخلد في النار"[ 134 ].
ومما تقدم بيانه من القرآن والسنة، ومن أقوال أئمة المفسرين، لا يسعنا إلا أن نحكم بأن الخوارج ضَلُّوا في تأويلهم، وفيما ذهبوا إليه من أحكام، يقودهم التعصب المذهبي، وعقيدتهم المنحرفة، إلى المروق من الدين، والابتعاد عن سبله الواضحة.
الأنموذج الثالث:
يُمثّل تأويلهم لبعض الآيات، واستغلالها لدعم مبادئ فرقة ضد أخرى من فرقهم... أورد ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة: أنّ نافع بن الأزرق كان لا يرى جواز التقيّة، التي هي في الأصل مبدأ سبئي، واستدل على حرمتها بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء:77]، ويرى نجدة بن عامر جواز التقية لقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}[غافر:28].
بالإضافة إلى معارضة نجدة بن عامر لنافع بن الأزرق فيما يقول به من إكفار القَعَدَة عن الخروج، واستحلال قتل أطفال مخالفيه، فكتب نجدة إلى نافع يقول: "وأكفرتَ الذين عذرهم الله -تعالى- في كتابه من قعدة المسلمين وضُعفائهم، قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:91]، ثم سمّاهم –تعالى- أحسن الأسماء فقال: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}، ثم استحلَلْت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتلهم، وقال الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[الأنعام:164]"[ 135 ].
فردّ على نافع الأزرق بكتاب جاء فيه: "وعبتَ ما دنت به من إكفار القعدة وقتل الأطفال، وسأفسّر لك ذلك، أما هؤلاء القَعَدَة فليسوا كما ذكرت ممن كان على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لأنّهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهدى سبيلًا، ولا إلى اتصال بالمسلمين طريقًا، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قاله الله -تعالى- في من كانوا مثلهم إذا قالوا {..كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97]، فقال: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}،
أما الأطفال فإن نوحًا نبي الله كان أعلم بالله مني ومنك، وقد قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا*إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:26-27]، فوصمهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نقوله في قومنا؟.
ومن التأويلات المنسوبة إلى نافع بن الأزرق: تأويله لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود:114]، بأن الصلاة ركعتان بالعشي، وركعتان بالغداة ولا غير.
وتأويله لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97] بأن الحج في جميع أشهر السنة.
وتأويله لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[النور:38]، فأوجب قطع اليد من الكتف لا من الرسغ، كما أوجب القطع في سرقة القليل والكثير[ 136 ]!
ولاشك أن ابن الأزرق فيما جاء به من تأويل في تلك الرسالة الآنفة الذكر، والآيات التي أوردناها ناجم عن تعصّبه في فهمه الآيات تعصبًا مذهبيًا أوقعه في المغالطة، بل إلى التجرؤ على كلام الله، وإخضاع معانيه إلى هواه، وإلى معان قرّرها في نفسه، غير ملتزم بضوابط التأويل، ولا قواعد اللغة، ولا سنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا إجماع المسلمين.
لقد جاء الأمر بإقامة الصلاة في القرآن الكريم مجملًا من غير بيان لمواقيتها وعددها، وعدد ركعاتها وأركانها، وشروطها وسننها، ومكروهاتها، وأذكارها، ومبطلاتها، وكيفية أدائها، ثم بيّنها الرسول -صلى الله عليه وسلم-بفعله في كلمته الجامعة (صلوا كما رأيتموني أصلي)[ 137 ]، كما بيّنت السنّة ما أجمل في الكتاب من الحج والعمرة فأفعال الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم- كانت بيانًا لأعمال الحج المجملة في القرآن، ويشهد لذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (خذوا عني مناسككم) [ 138 ]، فَقَلَّدَهُ الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- وتعلّموا جمع أحكامه، وما يتصل به من أقوال وأعمال.
أما قطعُ يَدِ السارق فقد اتفق الأئمة الأربعة على أن موضع القطع من اليد هو مِفصَلُ الزِّند، قال أبو بكر الجصاص: "لا خلاف بين السلف من الصدر الأول وفقهاء الأمصار، في أن القطع من المفصل وإنما خالف فيه الخوارج، وقطعوا من المنكب لوقوع الاسم عليه، وهم شذوذ لا يعدون خلافًا"[ 139 ]، فآية السرقة مجملة، فقامت السنة ببيان ما أجمل فيها، كما بينت القدر المسروق الذي يقطع به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)[ 140 ].
وهكذا لا نجد مجملًا ذُكر في الكتاب العزيز إلا وبيّنت السنّة مراد الله منه، وفصّلت أحكامه تفصيلًا لا يدع مجالًا لشبهة، أو موضعًا لإبهام... ولكنّ تعصب الخوارج المذهبي، وإهمالهم للسنن، دفعهم إلى سلوك الدروب التي انتهت بهم إلى المروق من الدين، وإلى الابتعاد عن سبله الواضحة.
الأنموذج الرابع:
ويُمثّل سذاجتهم في التأويل، وسطحيتهم في فهم النصوص! وفي ظني أنّ مهمتهم كانت منصبّة على زعزعة كيان الدولة، بالخروج عليها ما وسعهم ذلك، فقد ظلّوا يحاربون دولة الإسلام في عناد طوال العصر الأموي تقريبًا، كما فعل زملاؤهم من السبئية الإسماعيلية في عهد الدولة العباسية، ولولا نزيف الخوارج الذي أحدثوه في جسم الأمة، لكان للتاريخ مسار آخر.
لقد كانوا هم السبب في بقاء دولة الروم في القسطنطينية، وكانت تلك أضخم خسارة مُنِيت بها دولة الإسلام، لأن معاوية بن أبي سفيان، ثم سليمان بن عبد الملك- رضي الله عنهما- كانا قادرين قطعًا على الاستيلاء على عاصمة القسطنطينية، لولا هذه الحرب الداخلية اللدود التي أعلنها الخوارج عليهم.
ولو أننا استولينا على القسطنطينية أيام سلمان بن عبد الملك (96-99هـ) لتغير وجه التاريخ، إذ كانت دولة الروم -والقسطنطينية خاصة- تقف حائلًا بين المسلمين وبين شرق أوروبا.
وبماذا أفاد الخوارج المسلمين؟ لا شيء، إلا أنهم عطلوا مسيرة الفتوحات الإسلامية بعض الوقت، ونكبونا، ومضوا إلى مزابل التاريخ.
لذلك لم تكن لهم تأويلات كثيرة كتلك التي نراها عند الإسماعيلية مثلًا، الذين استفادوا من أخطاء سابقيهم من السبئيين، واستعانوا بالفلسفات الوثنية التي تُرجمت في عصر المأمون، وألبسوها كعادتهم ثوبًا إسلاميًا لإثارة الشبهات، وتحريف معاني الآيات عن طريق تأويلها، تأويلًا لا يخضع للسياق، ولا لمنطق اللغة، إنما حَمَلوها على معاني قرروها في أذهانهم!
ومن تأويلاتهم السطحية لآيات القرآن: ما أورده المبرد في كتابه الكامل: "أنّ عبيدة بن هلال اليشكري اتهم بامرأة حداد، رأوه مرارًا يدخل منزلها... فأتوا قطريًا[ 141 ]، فذكروا ذلك له، فقال لهم: إنّ عبيدة من الدين بحيث علمتُم، ومن الجهاد بحيث رأيتم، فقالوا: إنا لا نُقارّه على الفاحشة، فقالوا: انصرفوا، ثم بعث إلى عبيدة فأخبره، وقال: إنا لا نقارّك على الفاحشة، فقال: بهتموني يا أمير المؤمنين، فماذا ترى؟ قال: إني جامع بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء، فجمع بينهم فتكلموا، فقام عبيدة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11]، فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه وقالوا: استغفر لنا، ففعل!"[ 142 ].
كما أورد الكامل أن -واصل بن عطاء- وقع هو وبعض أصحابه في أيدي الخوارج، "فقال لأصحابه: اعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العَطَب، فقالوا: ما شأنك؟ فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم، فقال: علمونا... فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذلك لكم، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}[التوبة:6]، فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم، فساروا بأجمعهم معهم حتى بلغوا المأمن"[ 143 ].
ففي الآية الأولى أَوَّلَ عبيدة الآية بصرفها عن معناها إلى معنى لا تحتمله، كما فعل واصل بن عطاء في الآية الثانية، مما يدل على سطحية الخوارج في فهم النصوص، وتمسكهم بظاهرها تمسكًا أدّى بهم إلى تناقض وتضارب في استنتاج الأحكام، وتضارب لا يقبله العقل السليم، ولا يقرّه النقل الثابت، فروي أن بعضهم قال: "لو أن رجلًا أكل من مال يتيم، وجبت له النار، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10]، ولو قتل اليتيم أو بقر بطنه، لم تجب له النار، لأن الله لم ينص على ذلك"[ 144 ].
ومن تأويلاتهم غير المقبولة ما فعلوه بـ عبدالله بن خَبَّاب[ 145 ]، إذ مرّت الخوارج في المدائن، فالتقوا واليها صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن خباب، فأسروه مع زوجه الحامل، ووجدوا في عنقه مصحفًا، فقالوا له: "إنّ هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك، فكان ردّه عليهم: أن يُحيوا ما أحيا القرآن، وأن يميتوا ما أمات"[ 146 ]. ثم مرّوا ومعهم ابن خباب تحت نخل، فسقطت منه رُطَبَة، فأخذها أحدهم ليأكلها، فقال رفيق له: بغير حِلِّها وبغير ثمنها؟ فلفظها ذلك الرجل من فمه، ومرُّوا بخنزيرٍ لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه فقتله، فقال له أصحابه: هذا فساد في الأرض! وحين جاءهم صاحب الخنزير استرضوه، فلما رأى منهم ابن خباب ذلك، قال: "لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما علي منكم بأس، إني مسلم، ما أحدثت في الإسلام حدثًا، ولقد أمَّنتموني"[ 147 ].
وبعد ذلك سألوه أن يخبرهم بحديث سمعه عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (تكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي)[ 148 ]، فاستوضحوه رأيه بأبي بكر وعمر، فذكرهما بكل خير، وسألوه عن عثمان في أول خلافته وآخرها، فجعله محقًا في أولها وآخرها.
وعن علي -رضي الله عنه- قبل التحكيم وبعده، فقال لهم: "إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيًا على دينه، وأنفذ بصيرة، فأخذوا عليه أنّه لا يتبع الهدى، بل الرجال على أسمائهم لا على أفعالهم، كما تأوّلوا عليه أنه يدين بتخطئتهم في الخروج، فجاءوا به إلى حافة النهر وذبحوه، وبقروا بطن امرأته"[ 149 ].
الأنموذج الخامس:
مع أنّ غلاة الخوارج لم يعد لهم وجود، إلا أنّ بعضًا من آثار تطرفهم ما زال يغزو أفكار بقايا الخوارج في المجتمع الإسلامي، من ذلك ما نجده من تأويلات شاذة في تفسير (هميان الزاد) لمحمد بن يوسف الإباضي، قال في تأويل قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:55 ]: "قال المخالفون عن الضحاك: إنّ الذين آمنوا هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وأنّ استخلافهم: إمامتهم العظمى...، وسيأتي ما يدل على بطلان دخول عثمان وعلي في ذلك..!"
ثم قال: "وفي أيام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بعدهم، كانت الفتوح العظيمة، وتمكين الدين لأهله، لكن لا دليل في ذلك على إصابة عثمان وعلي! فإنهما وإن كانت خلافتهما برضى الصحابة، لكن ما ماتا إلاّ وقد بدّلا وغَيَّرا فسحقًا، كما في أحاديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنهما مفتونان"[ 150 ].
وهو في هذا التأويل الشاذ، يلتقي مع غلاة الخوارج الذين تأوّلوا في عثمان وعلي ما تأوّلت الشيعة في أبي بكر وعمر[ 151 ]، فالشيعة الغلاة تأوّلوا كلّ ما ورد في الآيات من كلمات الجبت والطاغوت وما شابههما على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فحمله الخوارج على عثمان وعلي رضي الله عنهما، مما يدل على أن السبئيين من غلاة الشيعة والخوارج لا ضابط ولا قانون لهم يلتزمونه في تأويلاتهم المخالفة للسياق، ولضوابط التأويل التي استنتجها العلماء، ولكل القرائن المحيطة بالنص، وحملوها على معانٍ أقرّوها مسبقًا في أذهانهم. إنه تأويل مذهبي، يتجلى فيه إصدار أحكام التكفير على مخالفيهم دون حجة أو برهان. وقد ذكرنا فيما سبق أحاديث كثيرة تبيّن أنّ عثمان وعلي -رضي الله عنهما- من المبشّرين في الجنة[ 152 ]، وأنّ من ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فهو زنديق[ 153 ]. وأنّ هذا التأويل الذي يطعن في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاشك في أنه تأويل فاسد. يُحكَمُ على صاحبه بالضلال والمروق في الدين.
ومناقب علي -رضي الله عنه- أكثر من أن تُذكَر، أما عثمان رضي الله عنه وأرضاه: فماذا نقول عنه سوى أنه كان صِهرًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بِنتيهِ رقية وأم كلثوم، مما لم يعرف لأحد غيره من سائر المسلمين، ومجاهدًا بروحه وماله، وأنفق من ماله في سبيل الله، وتأييد دعوة الإسلام، ما لم ينفق مثله مسلم قط، وكان وزيرًا وأمينًا للصدّيق والفاروق، وكان ثالث الراشدين عدلًا وحلمًا ورحمة، وكان من أحبّ الناس إلى الناس، لتعطفه وصفاء سريرته، ودماثة طبعه، وغامِرِ عطاياه، فما أحوج أمة الإسلام في هذه المرحلة من حياتها إلى نفحةٍ من نفحات عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، تسري بينهم تعاطفًا ومُواساةً، وَبِرًا وإحسانًا.
• الخاتمة
بعد هذا العرض الموجز للخوارج وتأويلاتهم، خَلَصَ الباحثُ إلى النتائج التالية:
كان الخوارج من أوائل الفرق التي برزت في الساحة الإسلامية، إذ تعود أصولها إلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما ثبت في "الصحيحين" في قصة ذي الخويصرة التميمي.
ظهرَ الخوارج كجماعةٍ مُنَظَّمة، أثناء معركة صِفين، التي جرت أحداثها بين الإمام علي ومعاوية رضي الله عنهما، وتحديدًا عندما اتفق الطرفان على وقف القتال واللجوء إلى التحكيم، حيث اعتبروا التحكيم نوعًا من الحكم بغير ما أنزل الله.
الغلو والتشدد والتطرف في آراء الخوارج من الأسباب الرئيسة في إنهاء وجودهم، فقد حمل مذهب الخوارج في نفسه بُذورَ تمزقه وتشرذُمِهِ، وذلك لِما عُرِفَ به الخوارج من سطحيةٍ في الفهم، وحِدَّةٍ في التعامل، لم يَسلَم من آثارها حتى الخوارج أنفسهم، فكان توالد الفرق وتباينها مرهونًا بالاختلاف في الأفكار والمعتقدات، فكلما أنشأ أحدُهم فكرًا، أو تَفَرَّد عن الجماعة بِقَولٍ، عُودِيَ وكُفِّر من الجماعة الأم، فلا يلبث أن يتبعه نفرٌ، ليشكلوا بذلك جماعة منفصلة، وهكذا دواليك، وبهذا النهج أصبحت الخوارج فِرقًا متعددة، وليست فرقةً واحدة، مما ساعد مخالفيهم على قهرهم.
يشهد تاريخ الخوارج على عِظَمِ خَطَرِ الانحراف الفكري، الذي قادهم إلى استحلال الحُرُمات، وَوُقوفهم مع الباطل، وهم يَحسبون أنهم يُحسنون صُنعًا.
كان التأويل الصحيح حلًا وخلاصًا لكثير من المشاكل التي تعترض الباحثين في الفكر الإسلامي، أما التأويل الفاسد فقد كان وسيلة من وسائل الفرق الضالة للتلاعب بمعاني آيات القرآن، وإخراجها عن مقاصدها الحقيقية، وصرفها إلى معان قرروها في أذهانهم بغير دليل.وقد ضلّ الخوارج في تأويلاتهم، وفيما ذهبوا إليه من آراء، يقودهم التعصب المذهبي، وعقيدتهم المنحرفة، فأدى ذلك بهم إلى المروق من الدين، والابتعاد عن سبله الواضحة.
يؤكد الباحث على ضرورة معرفة المشتغلين بالنص الديني لتأويلات الفرق المنحرفة، التي خرجوا بها عن معانيها المرادة، وعن قواعد اللغة، وأصول الشريعة ومقاصدها، للكشف عن عوامل الهدم التي تعرض لها الإسلام في مستهل حياته، وكيف تجاوزها.
إنّ ثبات الإسلام بشموخ أمام كل حركات الهدم والفتنة، يزيدنا يقينًا بقوة الإسلام الذاتية على تجاوز المحن والمصاعب، وعلى المسلمين أن يستمسكوا بعروة الإسلام الوثقى، واستيعاب ثقافة العصر، وفلسفاته المتنوعة، ورصد كل تحركات أعداء الإسلام، ومواجهة كل ذلك بثبات ويقين، والعاقبة للمتقين.
________________________________________________ المصادر
1 - انظر: آراء الخوارج، د. عمار طالبي (1/87).
2 - انظر: منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (2/195).
3 - هذه الفقرة موجودة بحروفها في تاريخ الطبري، (3/556)، أحداث سنة 76، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت. وهذه الفقرة التي أوردتها، هي من قصة كان يقصُّها صالح بن مسرح على أتباعه ، قبل أن يخرج على الدولة في الموصل والجزيرة، وفيها ذَكَرَ أبا بكر -رضي الله عنه- وأثنى عليه، ثم ذكر عمر -رضي الله عنه- وأثنى عليه كذلك، ثم قال: "وَوَلَّى المسلمون بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وعَطَّل الحدود، وجار في الحكم...." إلى أن يقول: "فسار إليه المسلمون فقتلوه..!"، ثم ختم قصته بقوله: "وولَّى الناس من بعده علي بن أبي طالب، فلم ينشب أن حَكَّمَ في أمر الله الرجال (يقصد حادثة التحكيم التي وقعت بين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، إلى آخر الفقرة التي أوردتها). أما المقصود من العبارة السابقة، فقد فَهِمتُهُ من قول المُحَكَّمة الأولى الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- وَرَأَسَهُم: عبد الله بن الكواء، وعبد الله بن وهب الراسبي، وحرقوص بن زهير... وقالوا لعلي بعد حُكمِ الحَكَمين :"إن كنت تعلم أنك الإمام حقًا فَلِمَ رضيتَ بِحُكميهما، وإن كنت لم تعلم أنك الإمام حقًا، لم أمرتنا بالمحاربة..؟ ثم انفصلوا عنه لهذا السبب، وكفروا عليًا ومعاوية رضي الله عنهما، لأنهم -حسب اعتقادهم- رضوا بحكم الحكمين، ويحب ألا يكون هناك حكم إلا لله تعالى. ويزيد هذه الفقرة وضوحًا، قول الطائفة البهرة (وهي فرقة من الشيعة الإسماعيلية، انظر: بحث طائفة البهرة وتأويلاتها المنحرفة لآيات القرآن الكريم، للدكتور سامي عطا، نُشِرَ في مجلة دراسات عدد شهر (11) 2004م - الجامعة الأردنية): "إن الأمّة لما افتتنت بعد نَبيها، وأَشهَرَت كل طائفة منهم سَيفها قال بعضهم: منّا أمير ومنكم أمير، ثم قال كبيرهم -يقصدون أبا بكر- في أول قُعوده: وُليتُكُم ولستُ بخيركم، وقال صاحبه عمر: كانت بيعة أبي بكر فَلتة وقَى اللهُ شرها..!!. وأقرّ أبو بكر على نفسه بالشَّك، فقال: إني وَدِدتُ لو أني سألت رسول الله لمن هذا الأمر من بعده. والإمام الحق لا يشك في نفسه، ولا يرجع عن أمره، ولا يندم أنه غُصِبَ على حقه، بل يثبت مستمرًا على شأنه، مُفصحًا عن محله ومكانه، هاديًا مهديًا، مُتَبوئًا من العصمة مكانًا عليًا، كما فعل عَليّ". (انظر: الهداية الآمرية في إبطال دعوى النزارية، تصحيح: آصف بن علي أصغر فيضي، (10/11). فالشيعة عمومًا يعتقدون أن أبا بكر غصب الخلافة من علي، وقول أبي بكر الآنف الذكر، يبين أنه غير متيقن في استحقاقه الخلافة -أي شك في ذلك- فقال ما قال... هذا ما تقوله الشيعة عمومًا في أبي بكر -رضي الله عنه-. أما الخوارج فهم على العكس من ذلك، فيقولون بأن عليًا -رضي الله عنه- هو الذي شك في أمره، بدليل أنه بايع أبابكر ولو متأخرًا، ولو كان هو الوصيَ حقًا -كما يقول الشيعة- لما بايع أبابكر، وَلَقاتَلَ على حقه في الخلافة، فمبايعته لمن سبقه من الخلفاء -وهم على ضلال في نظرهم لا يستحقون الخلافة- أثبتت أنه شاكٌّ في أحقيته بالخلافة. والله أعلم.
4 - السبئية: فرقة من الغلاة، أسسها عبد الله بن سبأ اليهودي اليماني، وقد نفى وجوده بعض الكتّاب، وأثبت وجوده البعض الآخر، انظر: عبد الله بن سبأ اليهودي اليماني بين الحقيقة والخيال، للدكتور سامي عطا، نُشِر في مجلة دراسات، مجلد 26/ 1999م- الجامعة الأردنية. وقد أثبت البحث الآنف الذكر وجوده بأدلة من كتب السنة والشيعة. وانظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون، دار طيبة - المملكة العربية السعودية. وبحث: عبد الله بن سبأ في ميزان البحث العلمي، د. محمد أمحزون، مجلة البيان، عدد80، اكتوبر 1994م. وكتاب: عبد الله بن سبأ، د. سليمان بن حمد العودة.
5 - انظر: تاريخ الطبري، (3/184). وانظر: آراء الخوارج، د. عمار طالبي (1/192).
6 - انظر: المرجع السابق، (1/192).
7 - المرجع السابق، (1/192).
8 - الرَّجعَة: هي فكرة سبئية، آمن بها بعض الشيعة، وهي: أن الله سبحانه سيعيد -عند قيام المهدي- قومًا ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ويعيد أيضًا قومًا من أعدائهم لينتقموا منهم..! ولكنّ الله -سبحانه- حكم أن من مات لن يعود إلى هذه الدنيا مرة أخرى بقوله الحاسم: {كلاّ}[المؤمنون:99-100]. وانظر: الفرق بين الفرق، البغدادي، ص (143) وما بعدها.
9 - انظر: البيان والتبيين، الجاحظ، (2/124).
10 - انظر: التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي، (2/305-314) بتصرف.
11 - مجموعة الرسائل الكبرى، ابن تيمية، (1/36).
12 - الفهرست، ابن النديم (258- 259).
13 - انظر: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين، الأشعري (1/34-40).
14 - انظر: التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي (1/366).
15 - انظر: تفسير الكشاف، الزمخشري [آل عمران/110] (1/319).
16 - انظر: تهذيب اللغة، الأزهري (7/48-49). والمعجم الوسيط، مادة: خرج، (1/223). ولسان العرب لابن منظور، (3/73). والمصباح المنير للفيومي، ص (227). وأساس البلاغة للزمخشري، (1/221-222).
17 - انظر: المصباح المنير، (1/179). وتهذيب اللغة، (7/48).
18 - انظر: لسان العرب، (2/74). وتاج العروس من شرح جواهر القاموس، (2/30).
19 - انظر: مقالات الإسلاميين، (1/307). والفرق بين الفرق، ص (74).
20 - انظر الملل والنحل، للشهرستاني، (1/114).
21 - انظر: مقالات الإسلاميين، (1/207). فتح الباري، (12/283). وتاج العروس، (2/3).
22 - شعراء الخوارج، د. إحسان عباس ص (54)
23 - انظر: مقالات الإسلاميين، (1/207).
24 - مقالات الإسلاميين، (1/217).
25 - الملل والنحل، (1/134). وانظر: اعتقادات فرق المسلمين، أبو بكر بن الرازي، ص (46).
26 - انظر: مقالات الإسلاميين، (2/140).
27 - مقالات الإسلاميين، (1/207).
28 - انظر: فتح الباري، (13/238-244). وانظر: صحيح مسلم، (3/109).
29 - انظر: آراء الخوارج، (1/31).
30 - انظر: وقعة النهروان، الخطيب الهاشمي، ص (10).
31 - انظر: شرح الطحاوية، ص (405).
32 - انظر: أدب الخوارج في العصر الأموي، د. سهير القلماوي، ص (2-10) بتصرف. وانظر: الخوارج في العصر الأموي، د. نايف معروف، ص (54).
33 - فتح الباري، (12/244-246).
34 - هو الرئيس الأعلى للفرق البصرية السبئية التي شاركت في سفك دم عثمان -رضي الله عنه-، وكان أحد أميرين للخوارج لما خرجوا للنهروان، وكان من أتباع ابن سبأ. انظر: فتح الباري، (12/245). والعواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لابن العربي، تحقيق: محب الدين الخطيب، ص (144). والتبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية من الفرق الهالكين، للاسفراييني، ص (17).
35 - انظر: فتح الباري : (11/254).
36 - انظر: منهاج السنة، لابن تيمية، (2/187).
37 - تاريخ الأمم والملوك، للطبري (4/391-393).
38 - المرجع السابق، (5/87).
39 - انظر: آراء الخوارج (1/52).
40 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، (1/76).
41 - تاريخ الأمم والملوك، (2/191).
42 - صبيغ بن عِسل التميمي: أخرج الدارمي عن نافع أن صبيغًا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حين قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فلما أتاه أرسل عمر إلى أرطاب من جريد فضربه بها، حتى ترك ظهره خبزة، ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود له، فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا، وإن تريد أن تداويني فقد والله برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين. وأخرج ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن لا يجالس صبيغًا، وأن يحرمه عطاءه ورزقه. وأخرج أبو نصر في الحُجَّة، وابن عساكر عن زرعة قال: "رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه، فتناديهم الحلقة الأخرى: عَزْمَة أمير المؤمنين عمر، فيقومون ويدعونه..." انظر: الدر المنثور، للسيوطي، (2/7،17). وصدر عمر -رضي الله عنه- أوسع وعقله أذكى من أن يؤاخذ طالبَ علمٍ لو أراد معرفة الحقيقة، لكنّ بصيرة عمر أدركت أنه عابث يريد العبث بحرمة كتاب الله، ليلبّس على الناس دينهم، ففعل به ما فعل، فعمر -رضي الله عنه- يفرّق من غير شك بين السائل الذي لا ينتهر، وبين المشكك الخبيث الذي يجب أن يُردَع ويُزجَر.
43 - الاشتقاق، لابن دريد، ص (228).
44 - رسالة في ذم التأويل، لابن قدامة، ص (38).
45 - انظر: آراء الخوارج، (1/109).
46 - انظر: وقعة صفين، ص (12).
47 - المرجع السابق، (489-490).
48 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، (3/119).
49 - المرجع السابق، نفس الصفحة.
50 - المرجع السابق، (5/182).
51 - وقعة صفين، ص (71،357).
52 - البداية والنهاية، لابن كثير، (7/273).
53 - انظر: الخوارج في العصر الأموي، ص (56).
54 - انظر: أنساب الأشراف، للبلاذري، (5/43-45).
55 - انظر: الخوارج في العصر الأموي، ص (58).
56 - المشتبه في أسماء الرجال، للذهبي، ص (220).
57 - انظر: مروج الذهب ومعادن الجوهر، للمسعودي، (2/284).
58 - انظر: الخوارج في العصر الأموي، ص (58).
59 - البيان والتبيين، للجاحظ، (3/130). والحِلسِية: مأخوذة من حِلس، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث الفتن ( كونوا أَحلاسَ بيوتكم) أي: الزموها. ونجدة: هو صاحب فرقة النجدات من الخوارج.
60 - انظر: الإباضية في موكب التاريخ، علي يحيى معمر، ص (19-38).
61 - انظر: الفَرق بين الفِرق، ص (211-212). ومقالات الإسلاميين، (1/177-183). ومن كتاب المقالات والفرق من يعتبر اليزيدية والميمونية من فرق الإباضية، انظر: مقالات الإسلاميين، (1/83). إلاّ أن الإباضيين لا يقرون بذلك، وينفون وجود هذه الفرق بين الإباضية. انظر: الإباضية في موكب التاريخ، ص (23).
62 - انظر: التفسير والمفسرون، (2/301).
63 - المراد بالصفات الخبرية: ما كان الدليل عليها خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو الكتاب الكريم من غير استناد إلى دليل عقلي، كإثبات الوجه، واليد، والقدم، والساق لله تعالى. انظر: ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي، د. عوض الله جاد حجازي ص (211).
64 - انظر: التفسير والمفسرون، (2/305-314) بتصرف.
65 - انظر: شرح نهج البلاغة، (2/3-7-308). وانظر: التفسير والمفسرون، (2/305-307).
66 - انظر: الكامل في اللغة والأدب، للمبرد، (2/106). والفرق بين الفرق، ص (264-265). والتبصير في الدين، ص (29-35). والتفسير والمفسرون، (2/305-315).
67 - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، (3/75).
68 - انظر: الدلالات اللفظية عند الأصولييين، د. عبد الحميد أبو المكارم، ص (238-239).
69 - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/237).
70 - المرجع السابق، (2/238).
71 - فتح الباري، (12/233). وشرح السنة، (5/472،482).
72 - قدامة بن مظعون: "روي أن عمر -رضي الله عنه- استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقوله، فقال عمر: يا قدامة، إني جالدك، قال: والله لو شربت كما يقول ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟ قال: لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[ المائدة:93] فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا، وأُحدًا، والخندق، والمشاهد.. فقال عمر: ألا تردّون عليه قوله! فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أنزلت عذرًا للماضين، وحجة على الباقين، لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90]، قال عمر: صدقت" انظر: التفسير والمفسرون، (1/60)، والدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي، (5/5)، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (5/475)، وهذه القصة تدل على مدى يقظة عمر -رضي الله عنه- للتأويلات المنحرفة، ومدى سرعته في الفهم والاستنباط.
73 - انظر : الدلالات اللفظية عند الأصولييين، ص (242-243). وانظر: المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، د. فتحي الدريني، ص (181-183).
74 - أصول الفقه، أبو زهرة، ص (128). وانظر: المناهج الأصولية، ص (166).
75 - تهذيب اللغة، (15/437).
76 - قال أبو يوسف، يعقوب بن السكيت: "رجع هو نقيض الذهاب، ويتعدى بنفسه في اللغة الفصحى، فيقال: رجعته عن الشيء وإليه، ورجعت الكلام وغيره، أي: رددته، وبها جاء القرآن الكريم، قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ}[التوبة:84]، وهذيل تُعَديه بالألف... إلى أن يقول: وأرجعته في لغة هذيل". انظر: معجم لغات القبائل والأنصار، (1/113).
77 - معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/159).
78 - لسان العرب، (13/32-33).
79 - جامع البيان، (3/184).
80 - تهذيب اللغة، (15/485). وبغية الوعاة في طبقات اللغوين والنحاة، للسيوطي، (1/396).
81 - الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، لابن فارس، ص (162-163).
82 - تاج اللغة وصحاح العربية، اسماعيل بن حماد الجوهري، (4/1627).
83 - لسان العرب، (13/33).
84 - شرح صحيح مسلم، للنووي، (2/887).
85 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، (1/18).
86 - جامع البيان، (3/122). وانظر الآية السابعة في سورة آل عمران.
87 - التدمرية: ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية، (3/55-56).
88 - صحيح مسلم بشرح النووي، (1/350).
89 - فتح الباري، (8/606).
90 - التدمرية، ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية، (3/56).
91 - جامع البيان، (3/119).
92 - المرجع السابق، (3/121).
93 - الفَرق بين الفِرَق، ص (175).
94 - زاد المسير لابن الجوزي، (1/350).
95 - شرح مختصر المنتهى، زين الدين العضد، (3/75).
96 - انظر: جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية د. محمد أحمد لوح، ص (12).
97 - مسند الإمام أحمد ابن حنبل، (1/266،314).
98 - انظر: تفسير النصوص، د. محمد أديب الصالح (1/380). وانظر: الموافقات في أصول الأحكام، (4/105-118). والمدخل للفقه الإسلامي تاريخه ومصادره، ص (286-291).
99 - انظر: تفسير النصوص، (1/381). وانظر: إرشاد الفحول للشوكاني، ص (177).
100 - العام: هو اللفظ الذي يستغرق جميع ما يصلح له من الأفراد. وتخصيص العام: هو قصر اللفظ على بعض أفراده، أو صرف العام عن عمومه. انظر : أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، (2/343).
101 - المطلق: هو اللفظ الخاص الذي يدل على فرد شائع أو أفراد على سبيل الشيوع، ولم يتقيد بصفة من الصفات، كقوله تعالى في آية الظهار: {فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ}[المجادلة:3]. والرقبة واقعة على صفات متغايرة من كفر وإيمان وذكورة، وأنوثة، وصِغَر، وكِبَر. أما المقيد: فهو اللفظ الواقع على صفات قيد بعضها، كقوله تعالى: {فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ}[النساء:92]. فاسم الرقبة واقع على المؤمنة والكافرة، فلما قيدها هنا بالإيمان، كان مقيدًا من هذا الوجه. انظر: أصول الفقه الإسلامي، (1/208-254).
102 - انظر: تفسير النصوص، (1/381). وانظر: سبل السلام، (3/104).
103 - انظر: تفسير النصوص، (1/381). والمناهج الأصولية، ص (76-77).
104 - انظر: المناهج الأصولية، ص (190). وانظر: تفسير النصوص، (1/381).
105 - انظر: المرجعين السابقين، نفس الجزء والصفحة.
106 - انظر: أصول الفقه، د. الزحيلي، (1/315). وانظر: تفسير النصوص، (1/382).
107 - انظر: تأويل الدعائم، القاضي النعمان، (2/223)، و(3/112،114،116).
108 - انظر: أساس التأويل، القاضي النعمان، ص (27، 126، 155، 194، 199، 256). والحَدُّ: مصطلح إسماعيلي، فهم يعتقدون أن جميع الأنبياء لم يتصل بهم الوحي إلا عن طريق وُسطاء، أسموهم بالحدود الروحانية الخمسة، وهم: السابق، والتالي، والجد، والفتح، والخيال. كما أن للدعاة عندهم مراتب، فمرتبة الإمام وهو رأس الدعوة غير مرتبة الحجة أو الباب نائب الإمام، وهكذا، وهي تبلغ (12) مرتبة، فما يصلح لمرتبة، لا يصلح لمرتبة أخرى. انظر: الاسماعيلية المعاصرة، محمد بن أحمد الجوير، ص (51-52).
109 - درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، (5/256).
110 - انظر: الكشف والبيان، (فصل في خلافة عثمان وعلي) للقلهاتي، نُشر في حوليات الجامعة التونسية العددان: 11، 12، (1974، 1975 م ). وانظر الكامل للمبرد، (2/108).
111 - انظر: مقالات الإسلاميين، (1/170).
112 - انظر: الرياض النضرة، المحب الطبري، (2/292).
113 - انظر: المرجع السابق، (2/302).
114 - التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، ابن الأثير، (3/945).
115 - انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة، (2/143) وما بعدها.
116 - الإصابة، لابن حجر العسقلاني، (1/10).
117 - الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، (1/7-8).
118 - انظر: الكشاف للزمخشري، (1/352)، وانظر: روح المعاني، (2/95).
119 - انظر: منهج الفرقان، محمد علي سلامة، (1/36).
120 - انظر: مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، ص (13).
121 - انظر: العقائد النسفية، الإمام عمر النَّسفي، ص (117).
122 - صحيح مسلم، (1/65).
123 - المرجع السابق، (1/63-64).
124 - انظر: العقائد النسفية، ص (117-118).
125 - انظر: المرجع السابق، ص (118).
126 - هناك خلاف بين فرق الخوارج وغيرها في هذا الحكم، فقال الأزارقة: إن مرتكب الذنوب كبيرها وصغيرها مشرك بالله، وأطفالهم مشركون كذلك، ولذا استحلوا قتل أطفال مخالفيهم.. وقالت الصفرية بقول الأزارقة، إلا أنهم لم يقروهم على استحلال قتل الأطفال. وقالت النجدات: إذا كان الذنب قد أجمع المسلمون على تحريمه فمرتكبه كافر مشرك، وإذا كان مما اختلف فيه، فيترك أمر مرتكبه لأهل الفقه يحكمون فيه باجتهادهم. وقد عذروا من ارتكب ذنبًا وهو يجهل تحريمه. انظر: الفرق بين الفرق، ص (97). أما المرجئة: فقد امتنعوا عن تعيين القصاص الذي يستحقه على كبيرته، بل أرجؤوا أمره إلى يوم القيامة، ليحكم الله تعالى فيه بما يشاء. انظر: الملل والنحل، (1/145) . وقال الحسن البصري: إن مرتكب الكبيرة منافق. انظر: الانتصار، ص (164). والعقائد النسفية، ص (119). ولكن البغدادي: سَفَّهَ هذا القول، وقال: لأن المنافق شر من الكافر المعلن للكفر. انظر: الفرق بين الفرق، ص (97). ورأت المعتزلة: أن حكم أهل السنة فيه شيء من التساهل، وحكم الخوارج فيه قسوة عظيمة، والمرجئة: جبنوا عن إعطاء حكم قطعيّ، والحسن البصري: كان قوله بادي الضعف، فقرروا: أن مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا كافر، بل هو في (منزلة بين المنزلتين)، منزلتي الإيمان والكفر، وعدوه فاسقًا. انظر: الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص (164-168)، وشرح العقائد النسفية، ص (169).
127 - انظر: العقود الفضية في أصول الإباضية، سالم بن حمد الحارثي، ص (228-290).
128 - انظر: تفسير ابن كثير، (1/390)، (4/274).
129 - انظر: المرجع السابق، (1/386).
130 - شرح نهج البلاغة، (8/112).
131 - الفصل، لابن حزم، (4/156).
132 - رواه البخاري في مواضع من صحيحه، منها: كتاب الجنائز (2/89،90)، وكتاب الرقاق (9/174). وانظر: تفسير ابن كثير، (2/286-288).
133 - التفسير الكبير، الفخر الرازي، (10/124-125).
134 - روح المعاني، (5/53).
135 - شرح نهج البلاعة، (1/382).
136 - المرجع السابق، نفس الجزء ونفس الصفحة.
137 - متفق عليه، وأخرجه البخاري (2/111) رقم (631)، ومسلم (1/465) رقم (674).
138 - أخرجه مسلم (2/943) رقم (1297).
139 - أحكام القرآن، للجصاص (2/115)، وانظر: الصنعاني: سبل الإسلام (4/27-28).
140 - متفق عليه، أخرجه البخاري (12/96) رقم (6789)، ومسلم (3/1312) رقم (1684).
141 - قطري بن الفجاءة: الزعيم الثالث للأزارقة، انظر: الكامل، (2/236).
142 - الكامل في اللغة والأدب، (2/236).
143 - المرجع السابق، (2/106).
144 - تلبيس ابليس، ابن الجوزي، ص (95).
145 - هو عبد الله بن خباب، كان وأبوه من أوائل الناس الذين آمنوا. انظر: سيرة ابن هشام، (2/234).
146 - انظر: الكامل، (3/946).
147 - تاريخ الطبري، (6/373-374).
148 - انظر: مسند الإمام أحمد، (6/141-142)، وقد أخرجه من طرق أخرى.
149 - تاريخ الطبري (6/373-374).
150 - التفسير والمفسرون، (2/334).
151 - انظر: مقالات الإسلاميين، (1/170).
152 - انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة، (2/153) وما بعدها.
153 - انظر: الإصابة، (1/10).
مركز عمران للدراسات الاستراتيجية
المرصد الاستراتيجي
علا الشريف
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
المصادر: موقع على بصيرة
موقع على بصيرة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة