أبو يحيى الشامي
تصدير المادة
المشاهدات : 6977
شـــــارك المادة
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبد الله ورسوله , أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (105) [آل عمران] , أما بعد : فإنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله , وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار , وبعد : فإنَ الله عزّ وجلّ ما وصّى عباده بوصية بعد الإسلام و اجتناب الشرك أكثر مما وصّاهم بالاعتصام بحبله والتزام الجماعة , و قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الجماعة رحمة والفرقة عذاب"(رواه أحمد وحسنه الألباني) , وهذا يختصر ما للجماعة من محاسن وما للفرقة من أولاً: أهمية الجماعة : خلق الله عز وجل الناس وفطرهم على الاجتماع , فالإنسان كائن اجتماعي بالطبع لا يستطيع العيش منفردا لعجزه عن تلبية كل احتياجاته , و ذلك لضعفه بالأصل , قال تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء28] , فبالعقل ندرك ما للجماعة من أهمية لحياة الانسان و استمراره , قد عرض الحكماء و المفكرون على مر التاريخ هذا الأمر في أبحاثهم و مقالاتهم و منهم ابن خلدون الذي أجاد في هذا الباب ، و الواقع يشهد على ما بناه الاجتماع و الاتفاق و ما هدمه التفرق و الاختلاف و لنا في الأمم السابقة و في أمتنا عبر ، حتى أن أرباب الباطل و أعداء الحق تنبهوا لأهمية الاجتماع ووحدة الصف ودعوا أعوانهم إليه ، ولقد أخبرنا الله تعالى بنجوى فرعون و قومه {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [ طه64 ]، و يغنينا النقل لأنه دلنا على كمال العقل و ما خلقنا له و ما نحتاج ، و إنما نذكر ههنا اجتماع المسلمين و وحدتهم كأمة ، فلقد ذكر الاجتماع و وحدة الكلمة في الكتاب و السنة و حضّنا الشرع عليه ونهى عن الفرقة و الاختلاف في مواطن كثيرة نذكر أهمها : في القرآن الكريم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} , {الْمُؤْمِنُونَ} , في كل عبارات الخطاب و الخبر الالهي التي تجعل المؤمنين أمة من دون الناس ، و معلوم أن الله عز وجل لم يخاطب مؤمناً فرداً إنما خاطب المؤمنين جماعة في كتابه و ما أوحى إلى رسوله صل الله عليه وسلم . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }[البقرة208]. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا }[آل عمران103 ]. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[آل عمران105]. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام153]. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }[الأنعام159]. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال46]. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء92] ، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }[المؤمنون53]. {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) }[الروم]. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ }[الشورى13]. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[الحجرات10] في السنة المطهرة : عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " (مسلم 1715). عَنِ الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ ، أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ........... " قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ﻭﺃﻧﺎ ﺁﻣﺮﻛﻢ ﺑﺨﻤﺲ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺑﻬﻦ: بِالْجَمَاعَةِ ، وَالسَّمْعِ ، وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ، فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ " , قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَإِنْ صَامَ ، وَإِنْ صَلَّى ؟ قَالَ :" وَإِنْ صَامَ ، وَإِنْ صَلَّى ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " (مسند أحمد17170صححه الألباني). عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة"(رواه الترمذي 2165و صححه الألباني). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم :" مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا ، لاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا ، وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدِهَا ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي ، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ ، يَدْعُو لِلْعَصَبَةِ ، أَوْ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ ، أَوْ يُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ". (رواه مسلم 1848و أحمد 10333) . عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :" إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد صلى الله عليه و سلم على ضلالة , ويد الله مع الجماعة ومن شَذَّ شَذَّ إلى النار" (رواه الترمذي2167وصححه الألباني) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسرية بعثها :" أَذَهَبْتُمْ مِنْ عِنْدِي جَمِيعًا وَجِئْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ , إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمِ الْفُرْقَةُ"(مسند أحمد1539). عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنه ستكون هَنَات وهَنَات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان"(رواه مسلم1852). عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكَسَعَ رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية؟" قالوا: يا رسول الله كَسَعَ رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: "دعوها، فإنها منتنة"(البخاري4905مسلم2584). عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ لُحَيٍّ قَالَ : حَجَجْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَامَ حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الظُّهْرِ ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يَعْنِي : الأَهْوَاءَ - كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ ، لاَ يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلاَ مَفْصِلٌ إِلاَّ دَخَلَهُ " وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَغَيْرُكُمْ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لاَ يَقُومَ بِهِ . (رواه أحمد , قال الألباني حسن صحيح) في أقوال وأفعال السلف: مسارعة الصحابة الكرام إلى الاجتماع على إمام فور وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، و حروب الردة التي أصر عليها أبو بكر رضي الله عنه لحفظ رأس مال الإسلام و توحيد كلمة المسلمين على كلمة التوحيد . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك " (إعلام الموقعين لابن القيم 397/3) و قال :" يا أيها الناس عليكم بالطاعة و الجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به ، و إنما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة " (المعجم الكبير للطبراني 8972) ما فعله الحسن بن علي بالتنازل لمعاوية رضي الله عنهم أجمعين لتوحيد المسلمين و جمعهم على إمام واحد ، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : " ﺇﻥ اﺑﻨﻲ ﻫﺬا ﺳﻴﺪ , ﻭﻟﻌﻞّ اﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳﺼﻠﺢ ﺑﻪ ﺑﻴﻦ ﻓﺌﺘﻴﻦ ﻋﻈﻴﻤﺘﻴﻦ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ"(البخاري 2704) ، و هذا الأمر لا يقدم على فعله إلا من وفقه الله من أولي الإخلاص و العزم من الرجال . فقهاء المذاهب الأربعة في عدم تعصبهم لمذاهبهم ، قال أبو حنيفة : "ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس و العين " ، و قال مالك :"ما من أحد إلا و يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر " و أشار بيده إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، و قال الشافعي :"إذا صح الحديث فهو مذهبي " ، و قال أحمد :" لا تقلدني ، ولا تقلد مالكا ، ولا الشافعي ، ولا الأوزاعي ، ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا " ، وغيرهم كثير من العلماء و الفقهاء . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"و الخير كل الخير في اتباع السلف الصالح و الاستكثار من معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و التفقه فيه ، و الاعتصام بحبل الله ، و ملازمة ما يدعو إلى الجماعة و الألفة ، و مجانبة ما يدعو إلى الخلاف و الفرقة ، إلا أن يكون أمرا بينا قد أمر الله و رسوله فيه بأمر من المجانبة فعلى الرأس و العين " (مجموع الفتاوى 505/6 ) . قادة و أمراء مسلمون صاروا مضرب المثل في السعي لتوحيد المسلمين و اجتماعهم ، كنور الدين محمود زنكي و صلاح الدين الأيوبي و محمد الفاتح و غيرهم ، وقد حققوا انتصارات وعزا و مكانة للأمة في ساعة عسرتها ، فكان عملهم نموذجا يحتذى . ثانياً: حكم وحدة المسلمين : إن وحدة المسلمين و التزام الجماعة من أهم فروض الدين على الإطلاق , و يأتي بعد توحيد الله عزّ وجلّ لأهميته ، و هذا يظهر من خلال الأدلة السابقة من الكتاب و السنة و غيرها ، و التي تندرج كلها تحت الأمر بالاعتصام بحبل الله جميعا و النهي عن التفرق ، و لهذا وضع العلماء التزام الجماعة في كتب و أبحاث العقيدة لما فيه من ضرورة لحياة الأمة و هويتها ، وهو شرع الله الذي وصّانا به بعد الأنبياء و المرسلين و خص أولي العزم منهم { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه}[الشورى13] . و هذا الفرض ترتبط به فروض أخرى تقوم بها الجماعة , أهمها الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد في سبيل الله ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- : "وَهَذَا الْأَصْلُ الْعَظِيمُ : وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقَ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَمِمَّا عَظُمَتْ وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ . وَمِمَّا عَظُمَ ذَمُّهُ لِمَنْ تَرَكَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَمِمَّا عَظُمَتْ بِهِ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِن عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ"(مجموع الفتاوى22/359). حتى أنه لأهمية القيام بهذا الفرض تترك فروض أخرى عند تعارضها معه ، مثل الاعتراض على بعض المخالفات و المطالبة ببعض الحقوق ، و الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ﻣﻦ ﺭﺃﻯ ﻣﻦ ﺃﻣﻴﺮﻩ ﺷﻴﺌﺎ ﻳﻜﺮﻫﻪ ﻓﻠﻴﺼﺒﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ ﻓﺎﺭﻕ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺷﺒﺮا ﻓﻤﺎﺕ، ﺇﻻ ﻣﺎﺕ ﻣﻴﺘﺔ ﺟﺎﻫﻠﻴﺔ"(البخاري 7054) ، و ذلك ضمن حدود و ضوابط شرعية محددة ، فعن عبادة بن الصامت قال : ﺩﻋﺎﻧﺎ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﺒﺎﻳﻌﻨﺎه ، ﻓﻘﺎﻝ ﻓﻴﻤﺎ ﺃﺧﺬ ﻋﻠﻴﻨﺎ: " ﺃﻥ ﺑﺎﻳﻌﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻤﻊ ﻭاﻟﻄﺎﻋﺔ، ﻓﻲ ﻣﻨﺸﻄﻨﺎ ﻭﻣﻜﺮﻫﻨﺎ، ﻭﻋﺴﺮﻧﺎ ﻭﻳﺴﺮﻧﺎ ﻭﺃﺛﺮﺓ ﻋﻠﻴﻨﺎ، ﻭﺃﻥ ﻻ ﻧﻨﺎﺯﻉ اﻷﻣﺮ ﺃﻫﻠﻪ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﺗﺮﻭا ﻛﻔﺮاً ﺑﻮاﺣﺎً، ﻋﻨﺪﻛﻢ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ ﺑﺮﻫﺎﻥ"( البخاري7056) ، فيترك منازعة ولاة الأمر أمرهم لأن فيه مفسدة عظيمة وهي تفريق الجماعة ، هذا ما أقاموا الدين فإن أظهروا الكفر البواح وجب منازعتهم و الخروج عليهم ، لأن مفسدة اجتماع الأمة على الكفر البواح أكبر من مفسدة تفرقها . و لا أدل على أهمية هذا الفرض و عظمته من تغليظ عقوبة من يفارق الجماعة أو يدعو إلى التفرق ، قال تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }[النساء115] ، و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من ﺧﺮﺝ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻋﺔ، ﻭﻓﺎﺭﻕ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻓﻤﺎﺕ، ﻣﺎﺕ ﻣﻴﺘﺔ ﺟﺎﻫﻠﻴﺔ "(مسلم1848) , وقال:" من شذ شذ إلى النار"(رواه الترمذي2167وصححه الألباني). و لعظم هذه المعصية أحل دم فاعلها فقد أمر صلى الله عليه وسلم بقتل من يفرق جمع المسلمين كائنا من كان (رواه مسلم1852), و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ﻻ ﻳﺤﻞ ﺩﻡ اﻣﺮﺉ ﻣﺴﻠﻢ، ﻳﺸﻬﺪ ﺃﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﻧﻲ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻻ ﺑﺈﺣﺪﻯ ﺛﻼﺙ: اﻟﺜﻴﺐ اﻟﺰاﻧﻲ، ﻭاﻟﻨﻔﺲ ﺑﺎﻟﻨﻔﺲ، ﻭاﻟﺘﺎﺭﻙ ﻟﺪﻳﻨﻪ اﻟﻤﻔﺎﺭﻕ ﻟﻠﺠﻤﺎﻋﺔ "(مسلم 1676)، و عدها النبي صلى الله عليه و سلم كفرا فقال :" فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "(البخاري 1741) ، وهو كفر أصغر غير مخرج من الملة , نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى و من الكفر بعد الإيمان . ثالثاً: على ماذا نجتمع ؟ (توحيد الكلمة على كلمة التوحيد ) : قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا }[آل عمران103 ] ، فالاجتماع ووحدة الكلمة إنما يكون بالاعتصام بحبل الحق الواحد , وهو شرع الله الذي أنزل به كتابه وأرسل به نبيه , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً" (ابن حبان 122 صححه الألباني) , والاجتماع إنما يكون على الغاية الأسمى التي خلقنا من أجلها وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وهو ما كلفنا بالجهاد من أجله ، أن يكون الدين كله لله ، و أن تكون كلمة الله هي العليا ، و لتحقيق الغاية لابد من وسائل و أهمها الاجتماع ووحدة الكلمة ، فإذا عارضت الوسيلة الغاية قدمت الغاية و أخرت الوسيلة ، و هذا ما أمر الله عز وجل و قام به المرسلون و أتباعهم ، فلقد رفض النبي صلى الله عليه وسلم ان يداهن كفار قريش و يقرهم على بعض باطلهم , رغم أنهم وعدوه أن يجتمعوا على بعض الحق الذي جاء به ، قال تعالى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم 9]، و أنكر هارون عليه السلام على قومه عبادتهم للعجل رغم قلة عدد الذين ثبتوا معه ، قال تعالى مخبراً بقوله { قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي } [الأعراف 150]، فلا يسع أهل الحق التنازل عن بعضه لتحقيق الوحدة و إلا لما بقوا على الحق و لما أغنت عنهم كثرتهم على الباطل , قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك " (إعلام الموقعين لابن القيم 397/3) ، و لا قيمة للاجتماع على غير الكتاب و السنة ، و للنصر و التمكين تكون العبرة بالكيف لا بالكم ، قال تعالى {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } [الاعراف48] ، و قال تعالى {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}[الأنفال65], فلا يجوز التهاون في أصول الدين التي تدور حول كلمة التوحيد لتحقيق مكاسب آنية زائلة ، ولا يحتج لذلك بحجة ، ففي الدين ثوابت لا تتغير و فيه متغيرات و رخص حسب الظروف و المصلحة ، فالاعتصام إنما يكون بالثبات على الثوابت و إعمال السياسة المنضبطة بضوابط الشرع في المتغيرات و الرخص و كل ذلك من الشرع و فيه خير الأمة ، و لا يدل على هذا أكثر من حديث النبي صلى الله عليه و سلم قَالَ:" لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" (مسلم1920) . ثم إذا حدث تنازع في شيء صغير أم كبير نرده إلى الله و الرسول أي إلى الحبل الذي أمرنا بالاعتصام به الكتاب و السنة ، قال تعالى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }[النساء 59] . فيستنبط الحكم و الحل أولوا العلم منا ، قال تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء83]. رابعاً: أسباب الفرقة و الاختلاف : مخالفة شرع الله عز وجل : وهو السبب الأساس الذي تنبع منه بقية الأسباب ، فلقد حذرنا الله من الاختلاف و بين لنا أسبابه و عواقبه في كتابه و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم , و هما حبله الذي أمرنا أن نعتصم به ، وجلي أن مخالفة ما يجمع يسبب التفرق و التنازع ، كما أن مخالفة أمر الله و تركه عقوبته العداوة و البغضاء بين المخالفين كما قال تعالى {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة 14]. تفاوت الناس في العقول و الطباع والميول , و تفاوتهم بالعلم والقدرة على الفهم , و اختلافهم في الهدى والضلال , قال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}[هود] , مختلفين : أي في الهدى , إلا من رحم ربك : أي أهل الجماعة , ولذلك خلقهم : قال بعض المفسرين للرحمة , وقال آخرون للاختلاف (راجع تفسير بن كثير) . الاختلاف في تحديد الأصول المتفق عليها و الفروع التي يسع الاختلاف فيها ، و الثوابت و المتغيرات ، و كل ذلك سببه الجهل بأحكام الشريعة و مقاصدها ، و عدم فهم المسائل - خاصة العقدية منها - فهما صحيحا و شاملا، و نذكر منها الولاء و البراء و التكفير وضوابطه ، أضف إلى ذلك الاختلاف حول العمل بالسياسة الشرعية . الإعجاب بالرأي و اتباع الهوى وترك الهدى و بطر الحق و تسفيه الناس و إن كانوا مصيبين ، قال تعالى {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد14] , و اتباع الهوى و الإعراض عن الحق يورث المراء والجدل الذي يذكي نار التفرق و التنازع , ومن صفة هؤلاء اتباع المتشابه من الآيات وترك المحكم الواضح البين ,قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}[آل عمران 7]. الأثرة و حب الرياسة و الزعامة و عدم التنازل للغير و إن كان الأفضل ، و ذلك من الركون إلى الدنيا وزينتها ، وقد يكون من العصبية الجاهلية و تغليب مصلحة فئة أو طائفة أو شخص على مصلحة الأمة . قال تعالى واصفا حظ النفس و حب الدنيا و أثره في التنازع و الفشل {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}[آل عمران 152]. وساوس شياطين الجن و الإنس- بطانة السوء- و تزييفهم للحق و تزيينهم للباطل و كيدهم للمؤمنين ، قال تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة91] ، وعن المنافقين الذين يحاولون تفريق الأمة من الداخل قال تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة 107] , و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يعالج بنيان الشر هذا بالهدم . سوء الظن و الحسد وغيرها من أمراض القلوب التي حذر منها الله في كتابه و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فسوء الظن يورث انعدام الثقة بين المسلمين أفرادا و قيادات و يمنع من التعاون على البر و التقوى ، ويبعث الاحباط و التشاؤم في النفوس مما يؤدي إلى التقاعس عن العمل لخدمة الإسلام والمسلمين ، والحسد أخطر فهو نتيجة حب الذات و بغض الآخرين و تمني زوال النعمة عنهم , فهو خلق هدام يؤدي إلى تفشي الكيد و المكر و التنازع والاختلاف . البدعة وهي عكس السنة , و نتيجة اتباع الهوى , فالسنة واحدة و هي سبيل الاجتماع , والبدع كثيرة بكثرة الأهواء وهي سبيل التفرق , قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، تَمَسَّكُوا بِهَا ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ". (مسند أحمد17275صححه الألباني) عدم التخلق بأخلاق الخلاف التي كان عليها السلف الصالح ، فقد كان الصحابة الكرام و التابعون يختلفون في مسائل و اجتهادات و لا يؤثر ذلك في مودتهم لبعضهم , و لا يزرع الغل و الفرقة بينهم لأنهم طلاب حق و ليسوا متبعي هوى ، و الآثار التي تدل على ذلك كثيرة . أسباب خارجية تأتي من دسّ أعداء الأمة وكيدهم و زرعهم للفتن و تنميتها لتمزيق الأمة الإسلامية لكي يسهل السيطرة عليها , ومن هذه الفتن دعوى الحزبية والوطنية والقومية و العلمانية والديمقراطية و غيرها كثير , يقول "أرنولد توينبى" في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل: إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ , ويقول المبشر لورنس براون: يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير. ( الاختلاف في العمل الاسلامي - د.ناصر بن سليمان العمر) ، وهم تبع في ذلك لكفار قبلهم انتهجوا مبدأ فرق تسد , قال تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص4]. خامساً: مفاسد الفرقة و الاختلاف : الضعف والعجز : قال الله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال46] ، و هذا أمر طبيعي ونتيجة حتمية لأن الاجتماع و الاتفاق سبب من أسباب القوة وهو من الإعداد ، و بغيره يصبح المسلمون طوائف ضعيفة يسهل القضاء عليها كما حدث في بلاد الشام عند الحملات الصليبية و كما حدث في آخر عهد الأندلس و كما هو الحال اليوم . تسلط أعداء الأمة و استباحتهم لدماء أبنائها وديارهم و مقدراتهم ، و هذا يزيد في ضعف الأمة و تشتتها . تبدد الطاقات و الجهود و انتزاع البركة ، بسبب تشتت الأفراد و عدم الاستفادة من قدراتهم . الضلال و الابتعاد عن الحق أو الجهل به ، وذلك نتيجة لرفض كل طرف للآخر و اجتزاء الحق، قال تعالى {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون 53] , ومن ذلك ما هو عقوبة من الله عز وجل ومثال على ذلك قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ "(البخاري2023). تلاحى فلان وفلان : أي اختلفا فتشاتما . سفك الدم الحرام , و قتل الأنفس المعصومة , وسلب المال الحرام , و الوقوع في أعراض المسلمين , و الوقوع في الغيبة و النميمة و غيرها مما حرم الله عز و جل ،ﻋﻦ ﺛﻮﺑﺎﻥ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: " ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﺯﻭﻯ ﻟﻲ اﻷﺭﺽ، ﻓﺮﺃﻳﺖ ﻣﺸﺎﺭﻗﻬﺎ ﻭﻣﻐﺎﺭﺑﻬﺎ، ﻭﺇﻥ ﺃﻣﺘﻲ ﺳﻴﺒﻠﻎ ﻣﻠﻜﻬﺎ ﻣﺎ ﺯﻭﻱ ﻟﻲ ﻣﻨﻬﺎ، ﻭﺃﻋﻄﻴﺖ اﻟﻜﻨﺰﻳﻦ اﻷﺣﻤﺮ ﻭاﻷﺑﻴﺾ، ﻭﺇﻧﻲ ﺳﺄﻟﺖ ﺭﺑﻲ ﻷﻣﺘﻲ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻬﻠﻜﻬﺎ ﺑﺴﻨﺔ ﻋﺎﻣﺔ، ﻭﺃﻥ ﻻ ﻳﺴﻠﻂ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻋﺪﻭاً ﻣﻦ ﺳﻮﻯ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ، ﻓﻴﺴﺘﺒﻴﺢ ﺑﻴﻀﺘﻬﻢ، ﻭﺇﻥ ﺭﺑﻲ ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﺇﻧﻲ ﺇﺫا ﻗﻀﻴﺖ ﻗﻀﺎء ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﺩ، ﻭﺇﻧﻲ ﺃﻋﻄﻴﺘﻚ ﻷﻣﺘﻚ ﺃﻥ ﻻ ﺃﻫﻠﻜﻬﻢ ﺑﺴﻨﺔ ﻋﺎﻣﺔ، ﻭﺃﻥ ﻻ ﺃﺳﻠﻂ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻋﺪﻭاً ﻣﻦ ﺳﻮﻯ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ، ﻳﺴﺘﺒﻴﺢ ﺑﻴﻀﺘﻬﻢ، ﻭﻟﻮ اﺟﺘﻤﻊ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺑﺄﻗﻄﺎﺭﻫﺎ - ﺃﻭ ﻗﺎﻝ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺃﻗﻄﺎﺭﻫﺎ - ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳﻬﻠﻚ ﺑﻌﻀﺎً، ﻭﻳﺴﺒﻲ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺑﻌﻀﺎً "(مسلم 2889) ، نسأل الله العفو و العافية . غضب الله و عقابه , و اسوداد وجوه المفترقين يوم القيامة , قال الله تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [آل عمران106] , قال ابن عباس رضي الله عنه : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة . التفرق و الاختلاف نوع من أنواع الكفر ، و العياذ بالله ، وهو كفر دون كفر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "(البخاري 1741). هلاك الأمة و العياذ بالله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمِ الْفُرْقَةُ"(مسند أحمد1539). سادساً: وسائل الاجتماع و توحيد الكلمة : طاعة الله ورسوله و تنفيذ الأوامر و الوصايا المتكررة ، {واعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا } ، { ولا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم } ، {أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه } ، { فأصلحوا بين أخويكم} ، " ﻭﺃﻧﺎ ﺁﻣﺮﻛﻢ ﺑﺨﻤﺲ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺑﻬﻦ: بِالْجَمَاعَةِ ، وَالسَّمْعِ ، وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ " ، " عليكم بالجماعة و إياكم و الفرقة " و غيرها كثير . التمسك بالعقيدة الصحيحة و المنهج الوسط منهج أهل السنة و الجماعة ،لا إفراط و لا تفريط ، فهو الرابط المشترك و حبل الله الذي أمر بالاعتصام به ، وهو الأصل الذي اجتمع عليه خير القرون و إن اختلفوا في بعض الفروع . الحفاظ على شعائر الإسلام التي يجتمع عليها المسلمون والتي تقوي الصلات بينهم ، كصلاة الجماعة ، عن أبي الدرداء قال : ﺳﻤﻌﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻳﻘﻮﻝ: " ﻣﺎ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ ﻓﻲ ﻗﺮﻳﺔ ﻻ ﻳﺆﺫﻥ ﻭﻻ ﺗﻘﺎﻡ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﺼﻼﺓ ﺇﻻ اﺳﺘﺤﻮﺫ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ، ﻓﻌﻠﻴﻚ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﻓﺈﻥ اﻟﺬﺋﺐ ﻳﺄﻛﻞ اﻟﻘﺎﺻﻴﺔ "(مسند أحمد 21710) ، وكذا الزكاة تكافل الأمة، و الصوم الشعور بالضعفاء و لين الجانب و رياضة الأخلاق ، و كذا الحج مؤتمر الأمة ، و الجهاد الذي فيه عز الأمة و الذود عن أبنائها بأبنائها . توحيد المرجعية الشرعية للجوء إليها عند التوافق و عند التنازع ، قال تعالى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء 59] , و يقيمها بين الناس أهل العلم و الاختصاص و الإخلاص ، قال تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء83]. الشورى : و هي أمر الله الذي التزمه نبيه صلى الله عليه وسلم على ما معه من العصمة و الوحي ، و ذلك تطيباً للنفوس و تعليماً للأمة ، قال تعالى{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، و مدح الله المؤمنين بالعمل بها قال تعالى { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، و الشورى من أهم الأمور التي تجمع الناس و تلم الشمل ، فهي التي تجعل القرار مشتركاً يتحمل مسؤوليته أهل الحل و العقد من المسلمين , و تنزع سوء الظن و تزرع الثقة بينهم ، و تكون شوكة أهل الشوكة مع ولي الأمر لا ضده . الالتفاف حول ما يرمز للجماعة و لا تقوم إلا به كالإمام والراية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ﻣﻦ ﺃﻃﺎﻋﻨﻲ ﻓﻘﺪ ﺃﻃﺎﻉ اﻟﻠﻪ، ﻭﻣﻦ ﻋﺼﺎﻧﻲ ﻓﻘﺪ ﻋﺼﻰ اﻟﻠﻪ، ﻭﻣﻦ ﻳﻄﻊ اﻷﻣﻴﺮ ﻓﻘﺪ ﺃﻃﺎﻋﻨﻲ، ﻭﻣﻦ ﻳﻌﺺ اﻷﻣﻴﺮ ﻓﻘﺪ ﻋﺼﺎﻧﻲ، ﻭﺇﻧﻤﺎ اﻹﻣﺎﻡ ﺟﻨﺔ ﻳﻘﺎﺗﻞ ﻣﻦ ﻭﺭاﺋﻪ ﻭﻳﺘﻘﻰ ﺑﻪ، ﻓﺈﻥ ﺃﻣﺮ ﺑﺘﻘﻮﻯ اﻟﻠﻪ ﻭﻋﺪﻝ، ﻓﺈﻥ ﻟﻪ ﺑﺬﻟﻚ ﺃﺟﺮا ,ﻭﺇﻥ ﻗﺎﻝ ﺑﻐﻴﺮﻩ ﻓﺈﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻨﻪ"(البخاري2957) ، فلا يستقيم حال المسلمين و لا تجتمع كلمتهم إلا على إمام واحد منهم ، قال علي بن أَبي طالب رضي الله عنه : "لا بد للناس ؛ من إِمارة برة كانت أو فاجرة ، قيل له : هذه البرة عرفناها فما بال الفاجرة ؟! قال : يُؤمن بها السبُل وتُقام بها الحدود ويُجاهد بها العدو ويُقسم بها الفيء" (منهاج السنة ، لابن تيمية : 1/146). التذكير المستمر بأهمية الوحدة و الاجتماع عقلا و نقلا ، و ذلك يكون بتوجيه العامة و وعظهم في المساجد و غيرها ، و النصح لأولي الأمر و حثهم على توحيد الكلمة و اجتناب الفرقة و أسبابها ، وبيان أضرار و مفاسد شق الصف و عقوبة فاعله من أبناء الأمة في الدنيا و الآخرة و يقوم بذلك أساسا العلماء الربانيون و طلبة العلم الشرعي ، و هذا النصح لمرتكب هذه الكبيرة بداية , ثم تتخذ إجراءات شرعية رادعة له و لغيره من مرتكبي هذا الأمر العظيم . اجتناب البغي والحسد و ترك الهوى و أمراض القلوب التي ينتج عنها خلافات شخصية لا عقدية ، و كلها منبعها حب الدنيا و الركون إليها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﻣﺎ اﻟﻔﻘﺮَ ﺃﺧﺸﻰ ﻋﻠﻴﻜﻢ، ﻭﻟﻜﻨﻲ ﺃﺧﺸﻰ ﺃﻥ ﺗﺒﺴﻂ ﻋﻠﻴﻜﻢ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻛﻤﺎ ﺑﺴﻄﺖ ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻗﺒﻠﻜﻢ، ﻓﺘﻨﺎﻓﺴﻮﻫﺎ ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺎﻓﺴﻮﻫﺎ، ﻭﺗﻬﻠﻜﻜﻢ ﻛﻤﺎ ﺃﻫﻠﻜﺘﻬﻢ "(البخاري 4015)، نعوذ بالله من ذلك . الإيثار و التنازل للآخر في سبيل توحيد الصف و لم الشمل ، كما فعل الحسن مع معاوية رضي الله عنهم ، فيجب تغليب مصلحة الأمة على حظوظ النفس و أمانيها . تقوية أواصر المحبة و المودة و الاتصال الدائم ، فبذلك لا تنمو الخلافات لأنها تعالج مباشرة بالاتفاق ، و لا يغلب سوء الظن الثقة لأنه يعالج بالعتاب و التلاوم الدائم ، و لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ﺗﺒﺎﻏﻀﻮا، ﻭﻻ ﺗﺤﺎﺳﺪﻭا، ﻭﻻ ﺗﺪاﺑﺮﻭا، ﻭﻛﻮﻧﻮا ﻋﺒﺎﺩ اﻟﻠﻪ ﺇﺧﻮاﻧﺎ، ﻭﻻ ﻳﺤﻞ ﻟﻤﺴﻠﻢ ﺃﻥ ﻳﻬﺠﺮ ﺃﺧﺎﻩ ﻓﻮﻕ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻳﺎم " (البخاري 6065). قول الحق في الوقت المناسب و الطريقة المناسبة ، و الابتعاد عن إثارة الأمور الفرعية المختلف فيها إن كانت ستسبب جدلا و فرقة ، و هذا يتم بموازنة مصلحة قول الحق و مفسدة الفرقة و الاختلاف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت "(البخاري6018) ، و لم يقل صلى الله عليه وسلم فليقل حقا ، و الفرق واضح فإن قول الحق قد يوصل إلى الخير أو إلى غيره ، وقول الخير لا يوصل إلا إلى الخير . الاعتدال في الحكم على الأشخاص و الأخطاء ، فالعصمة للأنبياء ، و كل ابن آدم خطاء ، و الأخطاء منها الصغير و منها الكبير ، و منها ما هو عن جهالة أو قصد , و منها ما هو عن علم و اجتهاد ، فلا ينبغي على طالب الحق و الداعي إليه ان يغلو في شخص أو رأي فيجعله صوابا و إن كان خطأ ، و لا أن يجفو عن شخص أو رأي فيجعله خطأ و إن كان صوابا ، و إلا لاعتصم كل جاهل بهواه و لأحجم أهل العلم و الاجتهاد ، قال رسول صلى الله عليه وسلم : "إﺫا ﺣﻜﻢ اﻟﺤﺎﻛﻢ ﻓﺎﺟﺘﻬﺪ ﺛﻢ ﺃﺻﺎﺏ، ﻓﻠﻪ ﺃﺟﺮاﻥ، ﻭﺇﺫا ﺣﻜﻢ ﻓﺎﺟﺘﻬﺪ ﺛﻢ ﺃﺧﻄﺄ، ﻓﻠﻪ ﺃﺟﺮ"(مسلم 1716). إنزال الناس منازلهم بتوقير الأكابر و احترامهم و وضع حد للأصاغر و التزامهم التواضع ، فخير الأمة و اجتماعها إنما يكون على أهل العلم و الحلم منها ، و ليس على الرويبضات الذين لا يوقرون عالما و لا يحلمون عن جاهل ، قال ابن القيم -رحمه الله -:"و من له علم بالشرع و الواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح و آثار حسنة ، و هو من الإسلام و أهله بمكان ، قد تكون منه الهفوة و الزلة هو فيها معذور ، بل مأجور لاجتهاده ، فلا يجوز أن يتبع فيها ،و لا يجوز أن تهدر مكانته و إمامته و منزلته في قلوب المسلمين"(إعلام الموقعين 283/3). تدارك الخلاف و رأب صدع الفرقة من قبل أهل الإصلاح ، و ذلك بالحوار و تقريب وجهات النظر ، و السعي على أرض الواقع ، قال تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [الحجرات9] ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ " قالوا :بلى , قال :"صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة " قال أبو عيسى هذا حديث صحيح ويروى عن النبي صلى الله عليه و سلم " هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" ( الترمذي2509صححه الألباني). التصدي لمحاولات أعداء الأمة لتفريقها و تشتيت شملها ، و ذلك بالتصدي لأهل النفاق و الضرار الذين يدسون دسائس الاختلاف و التنازع من الداخل وهدم كل بنيان يبنونه لهذه الغاية ، و التصدي لأعداء الامة الخارجيين الذين يسعون لإبقاء الامة في تشتت و ضعف لتسهل و تستمر سيطرتهم عليها . سابعاً: مصالح وثمرات الاجتماع و توحيد الكلمة : القوة و المنعة يتبعها النصر و التمكين ، فالإسلام دين الحق و للحق أعداء لا تقوم قائمة الدين إلا بالتصدي لهم ، ولا يكون ذلك إلا بالوحدة و الاجتماع الذي هو من الإعداد ، و هذا أمر معلوم بالضرورة عقلا و نقلا ، و هو ما حرص عليه النبي صلى الله عليه و سلم منذ بداية الدعوة ثم عندما هاجر إلى المدينة حيث آخى بين المهاجرين و الأنصار ، ووضع الوثيقة التي تجعل أهل المدينة يدا على من عاداهم ، و قد قال صلى الله عليه وسلم :"إﻥ اﻟﻤﺆﻣﻦ ﻟﻠﻤﺆﻣﻦ ﻛﺎﻟﺒﻨﻴﺎﻥ ﻳﺸﺪ ﺑﻌﻀﻪ ﺑﻌﻀﺎ "ﻭﺷﺒﻚ ﺃﺻﺎﺑﻌﻪ . (البخاري 481). رضا الله عز وجل لامتثال أمره و أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاعتصام و التمسك بحبله ، و هذا يجلب كل خير و يدفع كل شر ، وفيه حياة الأمة و عزها , قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال24]. الهداية إلى الحق و صراط الله المستقيم بتوفيق من الله عز وجل , قال تعالى {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران101]، و بالعمل بالأسباب التي توصل إليه و منها الشورى و التي لا تقوم إلا مع الجماعة ووحدة الكلمة . رحمة الله ونيل فضله وهدايته و محبته ، قال تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}[النساء175] , و قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف4] , فهذه الرحمة وهذا الفضل والهداية و الحب خاص بأهل الإيمان و الاعتصام قلُّوا أم كثروا . معيّة الله عز وجل و ولايته , و معيّة المؤمنين , قال تعالى { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }[الحج78] ، و قال تعالى {إ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء146] , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يد الله مع الجماعة "(الترمذي وابن حبان ,صححه الألباني). البركة في الجماعة , وذلك في أمور الخير كلها , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"(البخاري645) , وقال صلى الله عليه وسلم: "البركة في ثلاثة في الجماعة والثريد والسحور" ( رواه الطبراني وصححه الألباني) , وقَالَ رَجُل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا نَأْكُلُ وَمَا نَشْبَعُ ، قَالَ :" فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُفْتَرِقِينَ ، اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ".(مسند أحمد 16176). الاستفادة من طاقات أبناء الأمة ووضعها في مكانها المناسب , فعندما يجتمع أبناء الأمة تحت قيادة واحدة فإنها توزع المهام و تضع كل ذي اختصاص في اختصاصه ، فتتضافر الجهود و يحدث التعاون لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها الأمة . الثقة بين الأمير والمأمور و ينتج عنها الإخلاص ، فباجتماع الأمة على قيادة واحدة لها أمير معروف و مبايع من قبل أهل الحل والعقد ، يضع المسلمون ثقتهم بهذه القيادة التي تعمل لخدمة الأمة أجمع ، لا لخدمة فئة أو طائفة أو شخص ، وبهذا يعطي أبناء الأمة أفضل ما عندهم من عمل و أخلصه لله ، و تستطيع القيادة العمل بثقة و مسؤولية و بسياسة منضبطة بالشرع ولا يكبلها سوء الظن و تدخل أكثر من حزب و أكثر من هوى . كف بأس أبناء الأمة عن بعضهم وتوجيهه ضد أعدائهم ، فبالاجتماع و تآلف القلوب بإذن الله تكون قوة الأمة و عزتها أمام أعدائها و بتفرقها و تنازعها يكون ضعفها و ذلتها , والعياذ بالله وهذا حال من غضب الله عليهم من أهل الكتاب , قال تعالى { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[الحشر14]. تبكيت شياطين الجن والإنس و أعداء الدين , فباجتماع الكلمة و رص الصف و التآلف بين المسلمين يكون عزهم وتحقيق أهدافهم , فلسان الحال يقول لهم ما قال الله تعالى {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران119].
سليمان بن جاسر الجاسر
رابطة خطباء الشام
سلمان العودة
إبراهيم الأزرق
جزاكم الله كل خير و ابقاكم منبرا للصدع بالحق و النطق بالخير
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة